“الأخ بونغ تو”.. رياح الحرب الأهلية المدمرة ما زالت تعصف بكمبوديا

هل تنتهي آثار الحروب الأهلية المدمرة بمجرد الإعلان عن وقفها؟ لإجابة هذا السؤال المقلق يقترح الوثائقي النرويجي “الأخ بونغ تو” (The Brother Bong Thom) مراجعة تجربة الحرب الأهلية الكمبودية المروعة، وما أصاب الطفل “هنغ فون” بعد عقود من انتهائها.
يذهب صانع الفيلم “زرادشت أحمد” إلى القرية التي ولد فيها الطفل، ليوثق طيلة 3 سنوات حياته، بعد أن صار صبيا يافعا، يعاني نفسيا وجسديا من إصابته -وهو ابن 6 سنين- بانفجار لغم أرضي، عطل يديه بعد أن بترت أكفها، وأحدث تلفا في أجزاء أخرى من جسده.
كما يراقب الفيلم أيضا الأعباء التي تتحملها عائلته الفقيرة، ولا سيما أخوه الأكبر المقيم في العاصمة، فقد بات مسؤولا عنه بعد عجز أهله عن الاعتناء به، لانشغالهم بزراعة الحقل، مصدر عيشهم الوحيد.
افتتاحية الفيلم.. حكاية ألغام أرضية مميتة
يتحدث مخرج الوثائقي عن تاريخ علاقته بالعائلة والطفل، وهي تعود إلى عام 2011، عندما قصد كمبوديا لتصوير فيلمه الوثائقي الطويل “لا مكان للاختباء” (Nowhere to Hide)، وقد سمع قصصا مؤلمة عن موت آلاف من الناس وإصابتهم في انفجارات ألغام أرضية، ظلت مدفونة في الأرض بعد عقود من انتهاء الحرب الأهلية، وكان من ضحاياها “هنغ فون”، الذي كُتبت له حياة ثانية بعد تدخل جراحي أنقذه.

يعرض الفيلم تسجيلات مصورة من اللحظة التي نُقل فيها إلى المشفى، وأخرى يظهر فيها ممددا على سرير فيه، محاطا بأفراد عائلته الذين يسهرون على متابعة وضعه الصحي بقلق بالغ.
يستغل المخرج “زرادشت” تلك الخامات، ليؤسس عليها فيلمه الرائع الذي يطرح أسئلة عن درجة التداخل الحاصل اليوم بين السرد الوثائقي والروائي، ومدى قدرة صانع الوثائقي الماهر أن يجعل الحكاية الواقعية قصة درامية، تتطور مساراتها كما يحصل تماما في الفيلم الروائي، وعبرها يستطيع عرض مشهد أوسع لحالة البلد الذي تجري فيه تلك الأحداث الواقعية، المنقولة بأسلوب روائي ممتع، مع شدة سوداويتها.

يظهر في المفتتح عاملون بمجال تفكيك الألغام عام 2019، وهم يقومون بعملهم وسط الحقول والمزارع، ثم ننتقل بعدها إلى العاصمة “بنوم بنه” لمتابعة حياة الأخ الأكبر “تشانا” فيها، ويدل ذلك على الرغبة في الجمع بين السرد الدرامي وبين التوثيق الحقيقي.
فوارق الريف والمدينة تحدث شرخا بين الأخوين
يجيء الصبي من الريف البعيد الهادئ إلى أخيه الأكبر في العاصمة “بنوم بنه” المزدحمة والصاخبة، ويحاول إيجاد عمل له في شركته الصغيرة، المختصة بإنتاج محتوى موسيقي ينشره على موقع “يوتيوب”، ومن فوائد إعلاناته يتدبر أمور عيشه، ويعكس ذلك الفرق بين مكانين متناقضين، ويلقي نظرة على التطور الرأسمالي الحاصل في كمبوديا.

ومع أن الصبي المراهق قد حاول تجاوز الإعاقة، فإن بعض سكان العاصمة كانوا يتنمرون عليه، ويثير ذلك في نفسه وجعا، يدفعه للانسحاب واللجوء للتدخين، وأحيانا لتناول المشروبات الروحية.
يقع تنافر بين الأخوين، بسبب قلة تركيز الفتى “هنغ فون” في العمل مساعدا في توليف الفيديوهات التي يصنعها أخوه لمجموعة من المطربين والفنانين الهواة، الطامحين بالشهرة من خلالها.
وبسبب عدم حصوله على تأهيل مهني أو أكاديمي في هذا المجال، وتعلمه التوليف من خلال موقع “يوتيوب”، فإنه يرتكب الأخطاء ويؤثر سلبا على عمل أخيه الأكبر، ويهدد شركته الصغيرة بالخسارة. رعايته واهتمامه به من جهة أخرى تمنعه من تركه، لكنها تعقّد علاقتهما، وتضعها أمام تحديات جدية.
قطعة معدنية تخزن الموت في أحد الحقول
ينقل “تشانا” حكاية أخيه بألم مشفوع بتعاطف أخوي، وبالخامات التسجيلية القديمة المتوفرة، نستعرض حكاية الطفل “هنغ” مع الألغام، ففي طريقه إلى المدرسة وجد في أحد الحقول قطعة معدنية، تشبه شريط عرض الأفلام السينمائية، فحملها ومضى بها نحو المدرسة، لكنها سرعان ما انفجرت بين يديه.
بتر اللغم كفيه، فمنعه نهائيا من العمل مزارعا في الحقول، لهذا أوصت والدته ابنها الأكبر بأخذه معه إلى العاصمة، وتشغيله في شركته.

يقول “تشانا” إنها المرة الثانية التي يأتي فيها إلى العاصمة، بعد هروبه منها في المرة الأولى لصعوبة التكيف معها. أما الأم فتعبر عن مخاوفها من الألغام المطمورة تحت تراب الحقول الكثيفة المترامية الأطراف، وكانت قد شهدت قتالا ضاريا بين الأطراف المتصارعة خلال الحرب الأهلية.
خوفها على أولادها دفعها مع زوجها لبيع أرضهم، والانتقال إلى مكان أبعد، لكن هذا لم يمنع حدوث ما كانت تخشاه، فقد انفجر لغم أرضي على ولدها، فقلب حياتها وحياة عائلتها رأسا على عقب.
عصابات التسول تشتري الأطفال المشوهين
يحيل حديث الأم إلى مشكلة مستعصية، يروح ضحيتها حتى اليوم آلاف من الكمبوديين، وتظهر معها ظواهر بشعة، منها استغلال عصابات التسول للأطفال المصابين بتشوهات من انفجارات الألغام.
يعرض رجال العصابات أموالا على عوائلهم مقابل شرائهم، والاستفادة منهم في تلك التجارة غير القانونية، فترفض الأم بيع طفلها، وتقرر العائلة الاعتناء به، وتأهيله للعمل، ليتمكن من تدبير شؤونه الحياتية بنفسه.
يظهر من متابعة عيشه تشبثه بالحياة، ورغبته في تعلم كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، مع إعاقته الجسدية، ليتوافق مع اشتراطات الحياة العصرية، لكن المشكلة التي تلقاه في الحياة اليومية تكمن في سخرية الآخرين منه، ففي القرية -كما في المدينة- يلقى تنمرا مؤلما، يصعّب توافقه مع المجتمع الذي يعيش فيه.

وعند هذه النقطة يتوقف الوثائقي طويلا، ليظهر تبعات النظرة القاصرة للمعوق في المجتمع الكمبودي، فمع أنه قد خرج من حرب أهلية طويلة ومدمرة، فإنه ما زال يجهل تبعاتها على المتضررين منها، وعدم تقديرهم للأوجاع التي تلازمهم، ولا سيما الأطفال المعوقين بسبب الانفجارات الألغام الأرضية.
وساطة الأم ترمم جسور الوئام بين الأخوين
تتوتر علاقة الأخوين باستمرار، وتكون الأم دائما الوسيط الذي يعيدها إلى مسارها الصحيح، ففقر الأب وانشغاله بالحقل يمنعه من متابعة وضع ابنه الأصغر بالشكل المطلوب، كما أنه يعجز عن دفع تكاليف دراسته الأكاديمية، لتعلم فن التوليف (المونتاج) كما يقترح أخوه الأكبر، لضمان حصوله على المعارف الضرورية.
يقدم الأب صورة جلية عن انتقال كمبوديا إلى مسارات العالم الرأسمالي المهيمن، ويروي أن الأرض التي يملكها هي في حقيقة الأمر ليست له، بل هي للمصرف الذي أقرضه لشرائها، وإذا تأخر عن سداد قرضه، فسيضع المصرف يديه على الأرض ويأخذها.

وسط هذا الوضع الاقتصادي السيئ، يجد الطفل المعوق نفسه في دوامته، لهذا يحاول الهروب منه بالتدخين وشرب الخمر، وذلك مما يضر بصحته، ويضعف جسده المنهك أصلا.
كل هذا يأتي في سياق سرد درامي معتنًى بتفاصيل نقله على الشاشة بمصداقية عالية، تجعل هذا الوثائقي فيلما رائعا، يتابع العلاقة الصعبة بين أخوين، فالظروف الخارجية وصعوبات العيش تنعكس سلبا عليها، وهذا ما يظهر في طلب الأخ الأكبر من والدته أخذ ابنها معها إلى القرية.
نهاية سعيدة تبطن نقدا شديدا
حين طلب “تشان” من الأم أن تأخذ ابنها الصغير، كان ذلك انتكاسا في مسار علاقة حميمة، تجد الأم نفسها طرفا فيها، وعليها معالجتها بطريقتها، فتنصح الصغير بالصبر، وتحمل ما كتبت له الحياة أن يراه، وتشجع الأكبر على تحمل مسؤوليته الأخلاقية، بوصفه راعيا لأخ يمر بظرف صعب، والزمن كفيل بمعالجته.

بعد أشهر يرجع “تشانا” إلى القرية، ليأخذ أخاه معه إلى العاصمة بعد أن تحسنت أمور شركته، ويظهر الفتى “هنغ” هذه المرة أكثر نضجا ورغبة في إتقان العمل.
إنها نهاية تبدو سعيدة ظاهرا، لكنها تخفي وجعا باطنا يدفع “تشانا” للسؤال: هل تنتهي الحروب حقا بالإعلان عن نهايتها، أم تظل مصدرا لأخطار تحيط بالناس المسالمين حتى بعد حين من توقفها؟

حكاية “هنغ” توضح الجواب والاشتغال الجمالي في الوثائقي يقول إن عرض المشكلات الجدية بقصص بسيطة هو أمر ممكن، فتلك القصص قادرة بمهارة صانع الوثائقي على قول الكثير، وانتقاد الظواهر السياسية والاجتماعية، كالتي يعرضها الأخ في سياق السرد، ومنها إهمال السلطات مواطنيها، وانشغال مسؤوليها بنهب الثروات، وترك الناس يواجهون مصاعبهم وحدهم، مع الكفاف الذي يعيشون فيه.