“قصة سليمان”.. مغامرة لاجئ يحمل تاريخا مزيفا إلى إدارة الهجرة

طوال الليل كان يرمح وحيدا على فرسه غاضبا يضرب ضلوع الحصان بشدة

قيل إنهم كانوا ينتظرونه

كان هناك احتياج شديد عندما وصل في الفجر

لم يكن أحد في انتظاره

البيوت مهجورة مغلقة نائمة

سمع حصانه يلهث

عانق الحصان وأخذ يبكي

هذا ما تذكره أبيات الشاعر “يانيس ريتسوس”، عن بطله الوحيد الباحث عن ظل مأوى يلجأ إليه، وكذلك حال سليمان الشاب الغيني اللاجئ إلى العاصمة الفرنسية باريس، وهو بطل الفيلم الفرنسي “قصة سليمان” (L’Histoire de Souleymane).

أنتج الفيلم عام 2024، وعُرض في مسابقة نظرة ما، في الدورة الـ77 من مهرجان كان السينمائي، واقتنص جائزة لجنة التحكيم الكبرى، كما استحق بطله الممثل “أبو سنغاري” جائزة أفضل ممثل في المسابقة ذاتها.

كان بطل القصيدة الشعرية يركض مع فرسه، بحثا عن ملامح وجه يألفه أو ذكرى تعانق روحه المتعبة، أما بطل فيلمنا فيواصل الليل بالنهار، يدور داخل أروقة المدينة على دراجته الهوائية، سعيا لإيصال الوجبات الغذائية -التي يعمل على توصيلها- في الموعد المناسب، وكل هذا السعي المحموم، من أجل تحقيق حلمه في تحويل اسمه من قائمة اللاجئين، إلى صفوف المواطنين مكتملي الحقوق والواجبات.

فالتناول المباشر لأزمة اللاجئين، بكل ما بها من جذور شائكة، تمثل المحور الرئيسي لمضمون السرد، أما الباطن فينشغل بسمة الإصرار على تحقيق الذات، والعبور الآمن إلى عتبات الحلم.

قد تبدو القصة مكررة ومستهلكة المحتوى، فالوضع الدائم لقضايا اللاجئين تحت مجهر الرصد السينمائي، كثر تداوله بلا شك، لا سيما في السنوات الماضية، لكن الواقع يخبرنا أن هذه الديمومة ستواصل تقدمها، في تناسب طردي مع الازدياد المطرد للنزاعات المسلحة والعرقية، وغيرها من الصدامات الاقتصادية، وهنا لا بد من البحث عن معالجة أكثر تطورا، تتلاقى مع هذا المحتوى الدائم تناوله.

المصق الدعائي لفيلم “قصة سليمان”

ويظل مخرج فيلمنا الفرنسي “بوريس لوجكين” مهموما في أفلامه بتناول الشأن الأفريقي وأزمات اللاجئين، لذا فنحن أمام فنان سينمائي يدرك ما يريد التعبير عنه من قضايا مؤرقة، ويضيف هذا الوعي كثيرا إلى رصيده السينمائي، وكذلك إلى الفيلم، فالدخول في عالم مألوف الزوايا والأركان، يصبغ التجربة ذاتها بالقبول والصدق الإنساني.

فهل استطاع الفيلم تقديم رؤية مغايرة عن قضية معاد تدويرها؟ أم ضلت الصياغة الفنية طريقها بين مرايا التكرار؟

تكمن إجابة هذه التساؤلات بين أسوار السيناريو المحترف الصياغة، وقد اشترك في كتابته المخرج “بوريس لوجكين” مع كاتبة السيناريو “دلفين أغوت”.

نقوش سردية

يلجأ سيناريو الفيلم إلى تقليدية الشكل الواضحة والجلية، والاتكاء على أرضية السرد المنقسمة إلى الفصول الدرامية الثلاثة، لكن تطعيم هذا الهيكل بملامح حداثية، تعتمد في مضمونها على الاهتمام والتركيز المضاعف بالتفاصيل الصغيرة، الأقرب إلى الفسيفساء، تضيف جاذبية وأبعادا جمالية إلى الحكاية موضوع التناول.

في المشاهد الأولى نرى “سليمان” (الممثل أبو سنغاري)، خلال انتظاره في الصف الممتد، للدخول إلى إدارة الهجرة والجنسية الفرنسية، ثم نرافقه أثناء تقديمه للأوراق الثبوتية، إلى أن يحين دوره في المقابلة المنتظرة مع المدير المسؤول، ثم ينتقل المونتاج إلى مشهد آخر، فنراه يقود دراجته الهوائية في الشوارع المتسعة.

سليمان يتنقل على دراجته الهوائية ليوصل الطلبات

هكذا اختار السرد أن يبدأ مساره بهذا التتابع، الكاشف بقدر محسوب عن الشخصية وعالمها، فالبداية مع القوس الافتتاحي للسردية، حيث بحث سليمان عن وسيلة لنيل هوية فرنسية، فبهذا المفتتح ندخل رأسا إلى صلب الموضوع وجوهره، فالطريق المستقيم أيسر الوسائل وأسرعها للوصول إلى لب وصميم المراد.

ويتوالى هذا المسار السردي الخطي، وصولا إلى القوس المقابل للحكاية، الذي سيغلق من نفس المكان، لكن تلك المرة مع إضافة بعض الرتوش التوضيحية.

وبين هذين القوسين يسير الخط السردي، معتمدا في بنائه على حالة التضاد بين العوالم، فيجعل السيناريو حكايته تدور بين رحى عالمين، يتقاطع كل منهما مع الآخر.

فالعالم الأول يقع بين حدود اللاجئين، المتباينين باختلاف جنسياتهم وأصولهم العرقية، ويحيط أهل البلد الأصليون بهذه الطبقة، كأنهم عالم موازٍ يحاصر بإطاره السميك هشاشة العالم الأول.

سليمان مع صديقه الأفريقي الذي كتب له سردية موازية عن حياته

ومن ثم يبدو بنيان الكيان السردي أشبه بالدوامة، فرقعة الفيلم الزمنية (نحو 93 دقيقة) ينحصر أغلبها تقريبا حول رحلة سليمان، الباحث عن سبيل لائق للحياة، بمحاذاة المحاولات المتكررة لاستكمال أوراقه، لنيل الجنسية الفرنسية، التي يسعى نحو الارتقاء إليها.

هذا ما ينطوي عليه النسيج السردي من صياغة فنية، فهل توافق هذا الأسلوب مع الهوية الفكرية للفيلم؟

أجنحة الحكاية

لإجابة السؤال سالف الذكر، ينبغي إلقاء نظرة بانورامية على البيئة العامة للأحداث، التي اختار السرد أن يقسم بين جناحيها، فالحكاية تدور بين مسارين منفصلين ومتصلين في نفس الآن.

فالبداية من عالم اللاجئين، الذي يشكل الحجم الأكبر، سواء من حيث المساحة الزمنية، أو مستوى ثقل الكفة السردية، فترافقنا الكاميرا دوريا داخل حياة هؤلاء البشر، الذي تتنوع أصولهم وأعراقهم، بين الأفريقيين السود، وما يوازي تلك السطوة من جنسيات أخرى عربية.

في هذا الجزء نطالع تفاصيل حيوات هذه الطائفة المتباينة من الأعراق، ويعمل أكثرهم في خدمات توصيل الأطعمة، يركضون بين هذا الحي وذاك طيلة اليوم الطويل، وعندما يحل المساء يعودون معا إلى معسكرهم التأهيلي، وهو أقرب في بنائه ونمطه المعيشي إلى السجن، منه إلى سكن للإيواء.

سليمان مع صديقه العربي في مأوى اللاجئين، الأقرب إلى السجن

تحيط بهذا العالم الداخلي طبقة أخرى كثيفة، تمثل حدودها العالم السردي المقابل، الذي يحتوي على الأوروبيين أهل المدينة الأصليين، ومع أن نسبة وجودهم في النسيج الدرامي شحيحة نادرة، فإن الإحساس بهم وبثقل كفتهم ملموس بدرجة أو بأخرى، ويبدو هذا العالم -على ضآلة حجمه مقارنة بحياة اللاجئين- هو المسيطر ذا الحظوة.

وهكذا نرى أن رغبة الانتقال من أسر عالم اللجوء ومحدوديته إلى رحابة العالم الآخر، تشكل ضلعا أساسيا من مكونات الحبكة والصراع الدرامي.

تبدو أنسجة السرد قائمة على هذا التضاد، الشكلي والجوهري بين العالمين، وبهذا التباين تتوالد الأحداث وتندفع إلى الامام، مع أن الهيكل العام يكاد يخلو من الذروة المنتظرة، التي تؤدي تلقائيا إلى انفجار الخط السردي وعقدته الدرامية.

لكن هذا لا يؤثر حقا على أسلوبية الفيلم، فقد اختارت أيسر الطرق وأبسطها للتعبير عن الفكرة العامة، فهذه التلقائية في التناول، والتجديد في المعالجة، القائمة على المتابعة الدؤوبة للبطل، تشكلان عاملين أساسيين في تغليف جدران الحكاية بالطزاجة، مع ما قد يشوبها ظاهريا من اتهامات بالاستهلاكية والدوران في ذات الدائرة المفرغة.

قارب النجاة.. صفقة لشراء تاريخ مزيف

في رواية “العجوز والبحر” للكاتب الأمريكي “إرنست همنغواي”، نطالع الكهل “سانتياغو” أثناء رحلته في قاربه الصغير، بحثا عن صيد يعود به إلى شاطئه، بعد أن أضناه البحر بشح أسماكه، مقارنة بباقي الصيادين.

وفي فيلمنا يسعى سليمان بدأب إلى تحقيق حلمه بالعودة إلى بلده غينيا، الذي هرب منه بجنسية مغايرة عن أصله، محققا تميزا وتفوقا وإحرازا للحلم. فكلا الرجلين “سانتياغو” وسليمان، يركبان القارب أو الدراجة، ثم ينبشان في الحياة، عما يظللها من أفرع متدلية من الأمل والرجاء في الأفضل.

ينسج السيناريو خيوط السرد في إيقاع زمني تبلغ مدته يومين وليلة، هي المدة الواقعة بين المقابلة الأولى والثانية مع مسؤولة إدارة الهجرة، وفي هذا الحيز الضيق نسبيا، عليه أن يعيد توليف قصة حياته، أي أن يستعير تاريخا مزيفا يضيفه إلى سجله التوثيقي.

من أجل ذلك، يلجأ إلى مساعدة أحد الأفارقة، فيؤلف له تاريخا موازيا مقابل شيء من المال، فيجعله معارضا للنظام السياسي، بل إن تلك النسخة المزيفة قد سُجنت، وكل هذا بسبب البحث عن حياة ديمقراطية أفضل.

ولإلصاق هذه الهوية المستعارة، والتأكد من الإمساك بكل تلابيبها التفصيلية، نرى البطل يواصل بدأب ملحوظ دراسته وحفظه لتواريخ الوصول والهروب والإيداع في الزنزانة المنفردة، وغيرها من البيانات الزائفة، وذلك في سبيل إدراج إجابات راسخة اليقين أمام مسؤولي إدارة الهجرة.

سليمان في حافلة اللاجئين، أثناء رحلة العودة إلى المأوى

وليس التاريخ فقط هو المستعار، فالدراجة والحساب الإلكتروني لتطبيق توصيل الطلبات يحمل اسم صديق آخر، يقترض منه الدراجة والاسم، مقابل حصة من الأرباح، التي لا ينال نسبتها الصحيحة، نتيجة مراوغة صاحب الحساب الأصلي.

وبذلك تضاف إشكالية أخرى إلى معضلات الشخصية الدرامية، فيجد نفسه بلا مأوى، وخالي الوفاض من المال الضئيل كذلك. هكذا يقدم الفيلم صياغته للصراع الدرامي، القائم محتواه على النزاع المشروع، للانتقال من جغرافية الهامش إلى اتساع المتن.

فالهامش هنا -على اتساعه الخارجي- يحوي بين طياته عوائق وحواجز، تحيل هذا العالم إلى حيز محاصر خانق، ومن ثم تبدو تلك الرغبة في الانتقال إلى جنة المتن، أقرب للوصول إلى أرضية الحلم بعد طول إبحار، وإن بدا الإبحار في بعض الأحيان بلا نهاية.

قناع الحقيقة.. شذرات الشخصية الموزعة على الحكاية

بعد بيان الدوافع المستترة التي تدفع بطلنا، للاختباء وراء ستار من الحقائق الوهمية، يصبح السؤال عن الشخصية الواقعية المطمورة خلف هذا النسيج الزائف فرضا لا بد من تأديته.

فقد جعل السيناريو الأحداث تدور جميعا حول سليمان، فهو المحور والمركز الذي يلتف من حوله الخيط الدرامي ثم ينمو ويتشعب، ومع ذلك لا يفصح الحكي عن أسبابه في الانسلاخ الطوعي من وطنه الأصلي.

سليمان ينتظر دوره للقاء مسؤولة الهجرة

تتوزع المعلومات على مدار الخط السردي، ففي البدء يكشف عن اسمه، ومع تدفق الحكاية، يزاح اللثام عن قصة حبه لفتاة غينية، تدفعه ظروف الشتات الحالية، إلى التخلي عن استكمالها بالإطار المحتوم والتقليدي.

وهكذا لا يزيح السرد غطاء الغموض دفعة واحدة، بل تتوالى الأسرار شيئا فشيئا، مع توغلنا في معايشة السردية بكافة جوانبها التفصيلية.

لا شك أن شخصية سليمان ليست إلا نموذجا ورمزا لغيره من المهاجرين، الذي سبق استعراض قضاياهم بطرق متباينة المحتوى والتأثير، لكن ما يجعل التناول هنا مغايرا عن المألوف، هو حقيقة الشخصية ودوافعها.

فالمعتاد في مثل هذه الطائفة من الأفلام، إنما هو الاستناد على مأساوية الشخصيات، التي تنطلق معاناتها من رحم رحلة تغريبية، تشكل الصراعات العرقية أو الاضطهاد السياسي قواما ودافعا مستعارا لها.

لقطة مقربة من وجه سليمان تعبيرا عن الحصار الذي يعاني

لكن الوضع في فيلمنا مغاير عن المألوف، لذا يتردد على لسان سليمان السؤال التقليدي عن سبب هروبه من بلاده، فالحياة بطريقة أو بأخرى كانت تواصل المسير، وحينها يمكن إرجاع الأمور إلى أصولها.

وهنا نلجأ إلى استنباط ما يقبع بين السطور وقراءته، وهذا يحيلنا إلى جوهر الفيلم وصميم موضوعه، ألا وهو القفز من محصورية عالمه السابق، إلى رحابة عالم جديد، يبشر بثراء فرصه.

صناعة الفيلم.. قطعة فنية مشدودة كالوتر

تتابع الكاميرا سليمان خلال تحركاته الدؤوبة من هذا المكان إلى ذاك، لا تكاد تغفل عنه، فأغلب مشاهد الفيلم تدور بين أرجاء الشوارع، أثناء الانتقالات المتسارعة في توصيل طلبات الطعام.

لذا تنوعت زوايا اللقطات وأحجامها، بين المتوسطة التي تعبر عن الحالة الوصفية التعبيرية للبطل ونمط حياته، والزوايا الضيقة المقربة الكاشفة عن مدى الحصار والخناق، الذي تعيش بين طياته الشخصية.

ولأن القطاع الأكبر من الزمن الفيلمي، يقع بين مشاهد الركض بالدراجة الهوائية، فإن الإيقاع المونتاجي تأثر كذلك، وأصبح الفيلم أشبه بطلقة تدرك تمام الإدراك موطن هدفها.

ومن ثم جاء الفيلم مشدودا كالوتر، لا لقطة زائدة فيه تؤدي إلى الترهل والسمنة الدرامية، ولا أخرى ناقصة تدفع إلى النحافة الزائدة، فبدا الفيلم إجمالا قطعة فنية عذبة التأثير، لها مقومات بقائها الشكلي والفكري.

مخرج الفيلم بوريس لوجكين

فالفيلم يدور نطاقه حول شخصية واحدة، مع وجود بعض الشخصيات الثانوية، التي تسهم في دفع مسار الأحداث، لكن التركيز الأكبر يقع على عائق شخصية سليمان، وقد أمسك الممثل “أبو سنغاري” بأبعادها النفسية، وتماهى مع معضلاتها وأزمتها، ونجح بدرجة كبيرة في جذب قدر لا بأس به من مشاعر الانحياز نحوه.

مقابلة المسؤول الذي يكشف زيف الأكذوبة

يواصل السرد اندفاعه المحموم، حتى يصل إلى الفصل الثالث، الذي ينغلق فيه القوس الدرامي، بمشهد المقابلة مع مسؤولة الهجرة، وهو أطول مشهد في مسار الفيلم، المعتمد على المشاهد القصيرة نوعا ما.

لكن هنا يمتد اللقاء، فتسقط الأقنعة الوهمية، ويكتشف أن تلك السردية المستعارة قد دُثرت بها حكاية لاجئ غيره، وحينها تكون الحقيقة طوق النجاة الوحيد، فيبدأ في إزاحة أثقال واقعه وتاريخه الشخصي عن كاهله، وتصبح سرديته الأصلية المعيار الوحيد في قبوله من عدمه.

لا يخبرنا السيناريو بنتيجة اللقاء، بل يترك الاحتمالات مفتوحة، فيحصد تأييدا وتعاطفا مضاعفين مع القضية وصاحبها، الذي لا يشوب سجله الإنساني، سوى اتهام واحد، ألا وهو الحلم المشروع من أجل مستقبل أفضل.

وبعض الأحلام جريمة!


إعلان