الشعب الألماني”.. قتل على الهوية يعيدنا إلى عصر النازية

في 19 فبراير/ شباط لعام 2020، قتل متطرف ألماني يميني 10 أشخاص رميا بالرصاص في مدينة هاناو الألمانية، وقالت جهات التحقيق إن الجريمة ذات دافع عنصري، فقد ظن القاتل أن الضحايا أجانب أو ألمان من أصول مهاجرة.
بعد مرور خمس سنوات على الحادث الإرهابي، ومع زيادة شعبية اليمين المتطرف الكاره للأجانب في أوروبا عموما وألمانيا خصوصا، يكتسب فيلم “الشعب الألماني” (Das deutsche Volk) أهمية استثنائية.
حظي الفيلم بعرضه الأول ضمن العروض الخاصة لمهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الـ75، التي جرت في فبراير/ شباط 2025، قبيل الانتخابات البرلمانية الألمانية التي حصد فيها حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف نحو 20% من أصوات الناخبين، وهي النسبة التي وضعته في المركز الثاني في نتيجة الانتخابات.
يتتبع فيلم “الشعب الألماني” شهادات الناجين من الحادث، ورحلة أهالي الضحايا لكشف تفاصيل الحادث والضالعين فيه. ويطرح الفيلم سؤالا مهما؛ هل كان الحادث عملا فرديا من إنسان متطرف كما أعلنت جهات التحقيق الألمانية، أم أن أجهزة الشرطة الألمانية والساسة الألمان متورطون أيضا؟
الناجون يعيدون معايشة الحكاية
تدور أحداث الفيلم بالكامل بالأبيض والأسود، ويعتمد على تتبع لقاءات الناجين وأهالي الضحايا واجتماعاتهم.
في البداية يعيد الناجون سرد تفاصيل يوم الحادث الإرهابي، حين وصل القاتل لحانة يجتمع فيها عادة ذوو الأصول العربية والتركية، ثم بدأ بإطلاق الرصاص، وقد حاول بعضهم الهرب، لكن باب الحانة الخلفي كان مغلقا.

في البداية يعيد الناجون سرد تفاصيل يوم الحادث الإرهابي، حين وصل القاتل لحانة يجتمع فيها عادة ذوو الأصول العربية والتركية، ثم بدأ بإطلاق الرصاص، وقد حاول بعضهم الهرب، لكن باب الحانة الخلفي كان مغلقا.
استمر القاتل في قتل ضحاياه، ثم مضى وقاد سيارته، فتتبعه أحد شهود العيان، وهو الروماني “فيلي باوين”، وحين توقف القاتل في مكان آخر حاول “فيلي” الاتصال بالشرطة، لكن القاتل أطلق الرصاص عليه وقتله أيضا، ثم دخل محلا صغيرا يبيع المشروبات والتسالي، ويجتمع فيه عادة ذوو الأصول المهاجرة أيضا، فأطلق الرصاص وقتل معظم من كان فيه.

ننتقل بعد ذلك للقاءات الأهالي، فيسرد كل منهم تفاصيل ليلة الحادث، وكيف ومتى علم كل منهم أن ذويه قد قتلوا.
يبدأ الفيلم هكذا بشكل عاطفي للغاية، لكن يتحول بعد ذلك لما يشبه فيلم غموض وتشويق.
الأهالي يجرون التحقيقات لا الشرطة
يعرض الفيلم شعور أهالي الضحايا بعنصرية الشرطة منذ اللحظة الأولى، فلم تخبرهم بمصير أبنائهم طوال الليلة الأولى للحادث، وقد عرف بعضهم بالحادثة صدفة، ثم أغلقت الشرطة تحقيقها في الحادث مبكرا جدا، بمجرد العثور على القاتل، بعد أن قتل نفسه داخل المبنى الذي يقيم فيه.
يضفي السرد البصري بالأبيض والأسود طابعا سوداويا على الفيلم، وكأننا في رثاء مستمر، ويتحول الفيلم أيضا -باستخدام الظلال السوداء والأضواء القليلة البيضاء والموسيقى التي تضيف طبقة من التوتر- إلى ما يشبه بمزيج بين الطابع الوثائقي وأسلوب النوار، ويتطلب النوار بطبيعة الحال وجود محقق، والأهالي هنا هم من يقوم بهذا الدور.

يتتبع الأهالي تفاصيل ليلة الحادث، ثم يجمعون الشهادات، ويعرضون النتائج على الكاميرا، لنشاركهم مسار التحقيق، ثم يكوّنون ما يكفي لصنع طراز مكتمل بفيديوهات توضيحية لكل ما حدث في ليلة الحادث.
مع الضغط وظهور بعض الأدلة، يصبح جليا أن المجرم في هذه الليلة لم يكن وحيدا.
تفسير الشرطة المتهافت
يكشف الفيلم حقيقة يصعب تصديق أنها صدفة، فالحانة التي اقتحمها القاتل وقتل ضحاياه فيها لها باب خلفي للطوارئ، وكانت قد أغلقته الشرطة قبل بضعة أيام من الحادث.
وقد فسرت ذلك بأنها كانت تحاول اعتقال مروجي المخدرات الذين يترددون على الحانة، وفي كل مرة تذهب إليها يهرب هؤلاء المشتبه بهم من الباب الخلفي، لذا أغلقت الشرطة الباب هكذا، وحين أتى القاتل بعدها بأيام قليلة لم يجد ضحاياه منفذا للهرب من رصاصه.

فكيف عرف القاتل أن هذه الحانة قد أُغلق بابها الخلفي؟ هل نصدق أنه اختار هذه الحانة عشوائيا؟!
بعد جهد كبير من الأهالي، تُدفع وزارة الداخلية لبدء تحقيقات جديدة، تنتهي بإثبات أن عددا من رجال الشرطة الألمان الذين كانوا يعملون في تلك الليلة، هم ذوو ميول نازية ويمينية متطرفة.
“الشعب الألماني”.. مصطلح غامض من عصر النازية
يحمل الفيلم اسم “الشعب الألماني” وهو مصطلح يطلقه القوميون الألمان المتطرفون منذ عصر “هتلر”، وهم يرون أن الجنس الآري هو الوحيد الذي يصلح ليكون الشعب الألماني، وهكذا برروا قتل ملايين البشر في عصر النازية وخلال الحرب العالمية الثانية.
يطرح الفيلم السؤال مرة أخرى في عصرنا الحالي، من هو الشعب الألماني؟

نرى في الفيلم ضحايا من الألمان، لكنهم ذوو أصول مهاجرة، منهم مسلمون ومسيحيون أرثوذكس، بعضهم من أصول تركية وبعضهم من أصول رومانية، لكن هل يراهم الشعب الألماني جزءا منه، أم يظل التعريف النازي حاضرا؟
هل تنقذنا السينما من الكارثة القادمة؟
عُرض الفيلم قبيل الانتخابات البرلمانية التي حصد حزب “البديل من أجل ألمانيا” فيها أعلى نسبة تصويت له أو لأي حزب يميني داخل ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، وهو حزب يعرض في برنامجه الانتخابي بلا مواربة خططه لإعادة تهجير المهاجرين المقيمين داخل ألمانيا.
كما يصرح بعض قياداته بفخر أن إعادة التهجير هذه ستشمل أيضا من يحملون الجنسية الألمانية، لكنهم مزدوجو الجنسية، أو لا يتماشون مع قيم الهوية الألمانية.

يشكل الفيلم بهذا ناقوس خطر، يذكر الألمان أن القتل على الهوية الذي حدث في هاناو ليس ببعيد عن خطايا ألمانيا في القتل على الهوية أثناء عصر النازية، يراهن الفيلم هكذا على محاولة تغيير الحاضر من خلال جعل الماضي القريب حيا، لا سيما أن الجرائم التي تقع من اليمين المتطرف في حق المهاجرين وأصحاب الأصول المهاجرة يُتكتم عليها داخل ألمانيا، في حين يركز الإعلام الألماني بشكل شبه يومي على أي جريمة قد يتورط فيها أجنبي أو مهاجر.
تحاول السينما بأفلام مثل “الشعب الألماني”، أن تعمل على موازنة كفة التحريض على الأجانب والمهاجرين داخل الإعلام والمجتمع الألماني، فذلك تحريض قد تكون نتيجته تكرار أبشع لمأساة هاناو.