“إلى أن أطير”.. طفل من أعالي الهملايا يعاند العنصرية وينتصر عليها

العنصرية منبوذة، وتغدو أكثر نبذا حين يتعرض لها الأطفال.
هكذا يقدم الوثائقي الهندي “إلى أن أطير” (Until I Fly) العنصرية، من خلال رصده لحياة الطفل “فيرو” الهندي الأم، النيبالي الأب.
فبسبب ازدواج جنسيته، كان الناس يعاملونه بالعنصرية، في القرية الهندية التي انتقل إليها والده من النيبال المجاورة، وعاش فيها دهرا، ومع ذلك ما زالوا يعاملونهم وبقية النيباليين باحتقار، ويصفونهم بـ”اللصوص”، ويذيقونهم ألوان العذاب، كي يهجروا الهند ويعودوا من حيث أتوا.
لكن مشكلة الطفل “فيرو” أنه لا يعرف بلدا آخر غير الهند التي وُلد فيها، ويشعر أنه ينتمي فقط إليها. لذا يتحمل الأذى الذي يلقاه من أقرانه، ولمواجهته يهرب إلى الخيال، فيتصور نفسه أحيانا طيرا، أو يتخيلها في حلم، يقابل فيه آلهة يترجاها أن تخلصه من الأشباح التي تطارده.
عنصرية تلاحق طفلا نيباليا في قرية هندية
منذ عام 2017 والمخرجة “كانيشكا سونتاليا” وزميلها “سيديش شيتي” يلازمان الطفل “فيرو”، في القرية الحدودية الواقعة في جبال الهملايا، ليوثقا مسار حياته منذ أن كان ابن 5 سنين.
وللمباشرة في سردها ينقلان معلومات توضيحية للمُشاهد، تفيد بأن الحدود بين الهند والنيبال في منطقة الهملايا ظلت مفتوحة، تسمح بحركة الناس بين الجانبين، ولكن لسوء الأوضاع الاقتصادية في النيبال، يضطر بعض السكان للعيش والعمل في الجانب الهندي.

وذلك ما فعل والد “فيرو”، فقد استقر في الهند، وتزوج امرأة هندية ولدت له 4 أطفال، آخرهم “فيرو”، ومعناه باللغة الهندية “الشجاع”، ومع أنهم اندمجوا في المجتمع الهندي فإن سكان القرية لم يزالوا يؤذونهم، ولا سيما “فيرو” الذي يؤذيه بقية الأطفال.
يظهر ذلك جليا في لقطة تتبع تصويره وهو جالس على مقعد الصف المدرسي، يرسم على الورق صورة عائلته، فنرى إخوته وأخواته يقفون إلى جواره، أما الأب فغائب عن الصورة، وأما الأم فتحاول الرد على ضرب الأطفال لها بالحجارة.

المشهد الذي يليه يجيب سؤال المخرجة له: لماذا تضربهم؟ ويظهر فيه أطفال يرمون منزلهم البسيط بالحجر، والأم تُوبخ ابنها لأنه لا يكف عن مواجهتهم.
هروب من ضيق التنمر إلى سعة الخيال
يتبين أول مظاهر التنمر من خلال مناداة الأطفال له بالنيبالي أينما حل. إنهم يعيرونه بأصله، وهي عادة منتشرة في كثير من دول العالم، وإليها يضيفون صفات أخرى، منها اللص والشحاذ، وهو يحيل سلوكهم إلى ما يسمعونه من أهاليهم في بيوتهم.
لا تكف الأم الشجاعة عن الدفاع عن ابنها، مع ما تلقى من مشاكل بسبب ضعف بصرها، وإهمال زوجها لها ولأطفالها، لكنها في الوقت نفسه تنصحه بالابتعاد عن المشاكل، وتتفق معه على أن الأطفال يتصرفون وفق ما يسمعون من عنصرية في بيوتهم، وجراء ذلك تعاني عائلتها من العنصرية والتمييز العرقي، ولا سيما ابنها “فيرو” الذي يحاول الهروب من قسوته، بالذهاب إلى الخيال.

يجمع الوثائقي بإبداع بين نقل الواقع وتصوير العوالم الخيالية التي يعيش فيها الطفل، ويضفي ذلك على اشتغالاته الجمالية بعدا بصريا مذهلا، إلى جانب قوة التوثيق المتأتية من رصده لتفاصيل الحياة في القرية البعيدة، التي تصل إليها العنصرية وتتجذر فيها.
هجرة عن الظلم إلى أحضان الجبال
يُضرب الطفل “فيرو” ويهان في كل مكان من القرية، ويشتد ذلك في المدرسة، فيعامل فيها على أنه كائن طارئ، ويتجاهل أولياء الطلبة قسوة سلوك أبنائهم عليه، مما يدفعه لهجر المدرسة.
لا تجدي نصائح والدته له بضرورة الذهاب إليها، لأن التعليم هو السلاح الوحيد الذي يمكّنه من حماية نفسه مستقبلا، وهي تبث في نفسه الثقة، وتعلمه أن ازدواج هويته ليس عيبا ولا أمرا مشينا، لكن كلامها لا يصمد أمام ما يناله من عذاب يومي، يحيل حياته إلى جحيم.

لكن الغريب في الأمر هو قوة شكيمته وشجاعته، المقرونة بوعي مبكر عنده لأسباب ما يواجهه وعائلته، فيصف الأطفال المسيئين بـ”الجهلة” ويعاملهم على هذا الأساس، وفي داخله اعتزاز بهنديته من غير كراهية لأصله المزدوج.
ويظل لديه إحساس بالانتماء للمكان الذي ولد به ولا يريد أن يفارقه، حتى عندما تقرر والدته ترك بيتها في القرية، والانتقال إلى مكان آخر بعيد في عمق غابات الهملايا الكثيفة والباردة.
تحيل الأم سبب قرارها إلى رفع مالك البيت لإيجاره الشهري، وعدم كف الصبيان عن رمي بابها بالحجارة ليل نهار، إلى جانب المشاكل التي يفتعلها الجيران معها ومع أولادها، كما أن إهمال زوجها لها ولأطفالها يزيد ثقل أحمال عيشها في قرية رافضة لوجودها فيها، مع أنها امرأة هندية.
عودة إلى مدرسة ذات أجواء إيجابية
في منزلهم الجبلي البسيط، وفي الاحتفال العائلي بميلاده التاسع، تسأله المخرجة عن الأمنية التي يتمنى تحقيقها في هذا اليوم؟ فيهمس لها: أريد أن أصادق الطيور، وأن أطير مثلها حرا فوق الهضاب!
لا يجد الطفل في وقته الطويل ما يشغل به نفسه، سوى التجوال مع الرعاة في أعالي الجبال، والقفز من مرتفع إلى آخر.

فهو هنا في هذا المكان المعزول لا يجد تنمرا كالذي كان يجده في القرية، لكن والدته لا ترتضي له ترك مدرسته، ولا حتى أخواته. ويؤتي النصح أُكله، فيقبل النزول إلى المدرسة الوحيدة، للقاء معلمها بمساعدة أخته الكبرى.
وبذهابه للمدرسة ومقابلة المعلم تنقلب مسارات حياته، وينقلب مزاج الوثائقي جراء ما يحدث فيها، فيكرّس صانعاه ثلثه الأخير لرصد التحولات التي تطرأ على حياة الطفل، لمجرد وجود معلم يعرف واجبه المهني والأخلاقي جيدا. فهو يعامله مع بقية الطلبة بنفس المستوى، وبأسلوب تربوي يعتمد على اللعب كثيرا، ويمنع بروز أي سلوك عنصري ضده.
موهبة رياضية كانت مخفية
يظهر فجأة عند “فيرو” ميل نحو الرياضة كان ضامرا بداخله، وتظهر موهبته أساسا في لعبة “كابادي” الشعبية. ففي دروس الرياضة يكتشف المعلم موهبته، فيأخذ بيديه ويشجعه على ممارستها، وتطوير قدراته فيها.

يغدو الذهاب إلى المدرسة شغفا عنده، فيتسابق مع إخوته للنهوض مبكرا، والوصول إلى مدرسته وقضاء أوقات ممتعة مع أقرانه فيها. ينجز دروسه وواجباته، ويقضي بقية الوقت في الأرجاء القريبة من منزلهم.
لم تمنع المدرسة حبه للطبيعة، بل ربما تجواله فيها، والقفز فوق صخورها، ومراقبة تحولات فصولها هي ما تمنحه القوة الروحية والجسدية اللازمة للتفوق في لعبة “كابادي”.
“عاشت الهند الأم”.. صرخة انتصار على العنصرية
اختير الطفل “فيرو” ليكون ضمن الفريق المدرسي، ويتبارى مع بقية المدارس على بطولة كأس “كابادي”، وكان ذلك مما زاد ثقته بنفسه، ودفعه لتقديم المزيد للفريق.
يكرس الوثائقي جزءا من زمنه لنقل مشاهد من المباريات التي يخوضها الفريق، وتظهر شدة المنافسة في البطولة التي تنتهي بحصول فريقه على كأسها. كانت صرخة المنتصرين الجماعية “عاشت الهند الأم!” تعني له الكثير فهي بمنزلة إعلان الهند قبولها به ابنا، كما أنها انتصار على العنصرية البغيضة.

ومن دون وقوع في فخ التبسيط والشرح، يترك الوثائقي الواقع يحكي عن أهمية المعلم في حياة الطلبة، وما تعنيه القيم الرياضية النبيلة للمتشبعين بها، وفي الوقت نفسه ينقل الدور العظيم الذي تقوم به الأمهات، مع كل البؤس الذي يعشن فيه، لهذا يمكن القول إن فيلم “إلى أن أطير” هو تحية للأم في كل مكان.
كما أن الفيلم إسهام سينمائي مهم لعرض بشاعة العنصرية والتمييز العرقي بين البشر. وعلى المستوى الإبداعي يمكن القول إنه من أهم الأفلام الوثائقية في عام 2024، التي تناولت هذا الموضوع باشتغالات جماليات مذهلة، وبيقين من أن القيم الإنسانية النبيلة هي الأبقى.