“رياح الجنة”.. حصان وصبي من قرية تركمانية يصارعان في سبيل المجد

تظل أفلام سباقات الخيول -على كثرتها وتشابه مادتها- مجالا مهما للإثارة متعددة الوجوه، فمن بواعثها جمال الجياد، وحماسة التنافس الذي تبلغ سرعة خيوله 71 كيلومترا في الساعة، وجمال الفضاء الذي تجري فيه السباقات.
ومع ذلك تسري في فيلم “رياح الجنة” الوثائقي الذي أخرجه محمد رضا فرطوسي روح مختلفة، فيعرض عمل الطفل التركماني عاطف على الفوز في سباق الخيول، ومن خلال وقائعه يجعلنا نتسلل إلى حلمه، وفي الآن ذاته نتعرف على حياة التركمان الإيرانيين وثقافتهم.
كابوس الحصان العاجز عن السباق
ينتمي الفيلم إلى النمط الوثائقي، لكنه مع ذلك ينشد المتفرج إلى النتيجة المنتظرة، لسباق يرى صاحبه أن حياته بعد خط الوصول لن تكون شبيهة بما كانت عليه قبله، وذلك طبيعي، فكل المؤثرات الدرامية كانت تؤجج فيه التشويق، وتدفعه إلى تبني حلم الطفل عاطف.
يبدأ الفيلم بصوت الطفل، يسرد علينا تفاصيل كابوس عاشه في ليلته، فقد ركب حصانه واتخذ مكانه من مضمار السباق، ولكن شيئا ما كان يشد الحصان إلى الخلف، ويمنعه من الانطلاق كغيره من الخيول.
يفهم المتفرج سريعا أن ذلك ليس كابوسا بل رؤيا، تكشف لنا شيئا ما سيحدث في المستقبل، فيعصف بحلم الطفل، ويمنعه من الفوز في السباق.

لقد دأبت الأفلام الوثائقية الجديدة على تقديم ملخص لمحتواها قبل الشارة، ثم يتولى ما يرد بعدها شرح ما جاء مجملا وتوسيع أفقه. ولم يحد فيلم “رياح الجنة” عن هذا البناء تقريبا، لكنه توسل لذلك طريقة إبداعية أضفت على الوقائع مسحة تخييلية.
رفيق الخيال واللحظات السعيدة.. العناصر المساعدة
عبر صوت الصبي الوارد من خارج الإطار، تُعرفنا مرحلة العرض على المساق عامة؛ على الصبي عاطف الطامح للانضمام إلى عالم الفروسية، وليس حلمه بأن يكون فارسا مشهودا له، بحثا عن المجد وعن المكانة بين الأهل فحسب، ولا يجعل الحلم طريقه لكسب المال وبناء أسرة صغيرة، بل يجد فيه استجابة لشعور داخلي، يشده إلى عالم الخيول، ويربطه بصديقه الحصان جوهر خاصة.
حتى أنه حينما يتخيل حفل زفافه، لا يستطيع أن يتخيل وجه العروس أو شكل الحفل، ولكن أمرا واحدا يقفز إلى ذهنه؛ ألا وهو أنه سيأخذ زوجته يومئذ على ظهر جواده، وستوفر له رفقة الجواد في هذا الحدث البهيج سعادة لن يمنحها له ركوب سيارة فخمة.

يجعلنا السرد ننفذ إلى باطن الصبي، فنشاركه أحلامه، ونأمل فوزه في السباق المنتظر، على رغم تلك الرؤيا التي استهل المخرج بها عرضه.
وفي السياق العام من العناصر المساعدة ما يدفعنا إلى ذلك، فعاطف محب الخيول عارف بعالمها، لا يستطيع العيش بعيدا عنها، ووالده يرعى هوايته، وقد كان فارسا في شبابه، واليوم هو مكلف بالعناية بالحصان جوهر، وأما برهام المدرب الخبير بالسباقات فلا يبخل عليه برعايته ونصائحه.
وللخيول التركمانية من اللطف ما يجعلها تقاسم صاحبها مشاعره، ومتى ما وثقت به انقادت إلى مشيئته.
أحداث مفاجئة تحبط الفارس الصغير
ينشأ التشويق في الأفلام التخييلية من الحواجز التي تعترض البطل، فتحول بينه وإدراك هدفه، ومن إصرار هذا البطل على تحديها، وعلى تذليل شتى العقبات.
وفي فيلم “رياح الجنة” الكثير منها، فعاطف تواجهه عراقيل كثيرة، منها قلة خبرته بعالم السباقات، فالصبي حدَثٌ، وقد قضى حياته بين الخيول، ولكنه لم يخض سباقا رسميا قط.

وأثناء الاستعداد يمرض جوهر، فيشتد خوف الصبي من أن يعلم صاحب الحصان بمرضه، ولا يسمح له بالمشاركة في السباق.
ومع كل الجهد الذي بذله البيطري تتعكر حالة جوهر، ويتشنج بسبب الألم، فلا ينام جيدا ولا تجدي المهدئات نفعا، فيشتد هياجه ويتنكر لصديقه، وتظهر عليه عدوانية تجعله يعض ويرفس، ويصبح حتميا تأجيل المشاركة إلى سباق ما بعد العيد.
بعد تعافي جوهر يواجه عاطف العقبة الأشد، فمالك الحصان يريد توظيف فارس جديد أكثر خبرة منه، ويهدد الأب برفع الأمر إلى القضاء بتهمة الإهمال، إن لم يفز جوهر بالجائزة الأولى.

وحينها يصل الفيلم إلى المرحلة المعقدة وذروة التوتر في الأفلام التخييلية، وتكون الصدمة شديدة على عاطف، فحصانه الذي يرعاه ويبني عليه أحلامه كافة يُنتزع منه فجأة، فيجد نفسه يعيش حالة من الفراغ.
ولا تسعفه مرحلة حل العقدة كثيرا، مع أنه يشارك في السباق، لكنها لا تعيد إليه حصانه جوهر ليمتطي صهوته، بل تُركبه حصانا آخر لا يعرفه ولا يحسن التعامل معه، فلا ينقاد لمشيئته. وكما رأينا في لقطات الرؤيا التي سبقت الشارة، فقد تلكأ في الخروج من البوابة، ثم لما خرج كان الوقت متأخرا جدا.
ولايجد عاطف ما يكفي من رباطة الجأش ليصف لنا تفاصيل ما حدث، فيهرب من الكاميرا، ويكتفي بإعلامنا أنه قرر ترك القرية، ليبحث عن فرصة جديدة للنجاح بعيدا.

وحتى يجسد لنا المخرج الخيبة التي حطمت قلب الصبي بعد أن اكتفى بالمركز الأخير، فقد جعل النهاية المؤلمة مصحوبة بالبرد الشديد والأمطار الغزيرة. وكما جعل البداية استشرافا لنهاية سباق عاطف الأول، فها هو ذا يجعل تصميمه على مغادرة القرية جبرا بخاطره، وتطلعا إلى مستقبل أفضل، واستمرارا لحلمه ولحلمنا بالنصر القريب.
قرية تعيش في ظل الخيول
ليس الفيلم إيهاما قصصيا صرفا، وإن اشتمل على سمات تخييلية كثيرة، فليست حكاية عاطف وصديقه جوهر إلا تعلة اعتمدها المخرج ليأخذنا إلى علاقة القرية التركمانية في شمال إيران بعالم الخيول المثير، من العناية بأكلها وتجفيف عرَقها بعد التدريب، وفحصها الدوري لوقايتها من الأمراض، وارتباط من يشرفون على تربيتها بها عاطفيا.

وهذا ما يمكنهم من إتقان لغتها، ومعرفة أسلوبها في التعبير عن شتى حالاتها؛ كالعطش والجوع والمرض والذعر. فحين لم ينتبه عاطف إلى الألم الذي يجده جوهر في رجليه، رد الفعل بعنف حتى ينبهه إلى عجزه عن بذل الجهد.
يستدعي هذا المشهد المؤثر إلى أذهان المتفرج العربي قول عنترة، عندما وصف جواده في ساحة الوغى قائلا:
فازورَّ من وَقْع القَنا بلَبانِهِ
وشَكا إليّ بعَبرةٍ وتَحَمحُمِلو كانَ يدري ما المُحاورةُ اشتكى
ولَكانَ لو عَلِم الكلامَ مُكلِّمي
ويدفعنا ذلك إلى أن نقارن الجواد التركماني بنظيره العربي.
“معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة”
يشيد المدرب بهرام -وهو خبير بالخيول التركمانية- بجمال تلك الخيول الذي يجعلها تفوز في سباقات الجمال، وما يميزها عن غيرها هو هيكلُها النحيف، وألوانها اللامعة، لسمة في شعرها تعكس ضوء الشمس، فتظهر جسدها الرشيق.
ولكن عيبها الوحيد هو نسبة صفاء عرقها، فالخيول التركمانية الأصيلة تعد من الخيول المنقرضة، وما يوجد اليوم منها إنما هو أحفادها التي يكون نقاؤها مختلف النسبة. أما الخيول العربية ذات الرؤوس المنحوتة جيدا والعيون المستديرة الواسعة والأعضاء المتناسقة، فتحافظ إلى اليوم على أصالتها وصفاء عرقها.

لكنهما على اختلافهما يشتركان في قدرتهما الكبيرة على التحمل، وعلى التكيف مع شتى الظروف، كدرجات الحرارة المرتفعة والمنخفضة، كما ترث صلابتها من اعتماد أصحابها عليها في التنقل، أثناء رحلات البحث عن الكلأ والماء.
وتشترك السلالتان في رمزيتهما على المستوى الاجتماعي، فملكية الخيول عند التركمان أو العرب ترمز إلى المكانة والوجاهة، وتعد الخيول هنا وهناك حيوانات مبجلة، تصل إلى نوع من القداسة.
لذلك يعتقد التركمان أن الرياح التي تمر من بين أذنيها أثناء السباق من رياح الجنة، ومن هذا الاعتقاد يستمد الفيلم عنوانه، وقد جاء في الحديث قول النبي ﷺ: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
عوالم مظلمة خلف عالم الخيل المشرق
يعبّر عاطف بوجع عن قانون رياضة الفروسية الجائر، فالفارس يستعد أكثر من شهرين لسباق يدوم أقل من دقيقتين، ولا يُمكّن المخطئ في المسابقة من التدارك أبدا.
ولكن الوجع الأكبر يحدث خارج المضمار، فغالبا ما يكون الفرسان من اليافعين وطلاب المدارس، حتى لا يحمل الجواد عبئا ثقيلا يمنعه من العَدو بأقصى سرعته، ويمنع أن يتجاوز وزن راكبه 52 كيلوغراما، وإن قلّ عن ذلك أضيفت صحيفة معدنية تعدل الوزن وتضمن العدالة بين الخيول.

ويتطلب الحفاظ على الوزن المطلوب حمية قاسية، تضر أجسادهم الغضة التي ما زالت في طور النمو. أضف إلى ذلك أن عالم الفروسية يشغل صاحبه ويستهلك كل وقته، فيؤثر على مسار الطلاب الدراسي، ويتسبب في الهدر المدرسي.
وعاطف مثال جيد على ذلك، فقد أهمل دروسه، وأصيب مرارا بكسور خطيرة، وبعد أن درب حصانه جوهر طويلا وسهر على علاجه، انتزعه مالكه منه.
ويمثل الرهان بابا آخر من أبواب الوجع، فالمتراهنون يلاحقون أحلامهم بالثروة، ويبددون أموالهم القليلة في سبيل ذلك. إنها الرأسمالية التي لا تكترث بغير الربح الأقصى، وتطحن كل من يعترض سبيلها.

فخلف الخيل وما يرتبط بها من القيم المعنوية والجمالية التي يتغنى بها الفنانون، ويتنعم بها الأغنياء ليل عميق وظلام دامس يعيشهما الفقراء، وخلف رياح الجنة يكمن وهج الجحيم.
الثقافة التركمانية وصراع البقاء
يتخذ المخرج محمد رضا فرطوسي الخيول واجهة، أما الخلفية فتوثق حياة المزارعين في القرية، بما فيها من خدمة للأرض وتربية لقطعان الماشية، وما يعيشونه من شغف بتربية الخيول ليس إلا امتدادا لهويتهم التركمانية.
يمثل جدّ عاطف تجسيدا لهذه الهوية، فيمارس طقوسه في العناية بأرضه، لأنه يرى أن الأرض تمسك خيراتها، ولا تجود بها حين يهملها أصحابها، فيحرص على زيارتها باستمرار، ويعمل على إرضائها.
كما يستعين بفرقة “ذكر الخنجر” الصوفية، حين أمسكت السماء ماءها، لتبتهل نيابة عنه، وتستسقي وتطلب الرحمة. ولأنه يدرك القفا المؤلم خلف الظاهر الخادع من حياة تربية الخيول، يطلب من عاطف أن يعتني بدراسته أولا، ثم بخدمة الأرض ثانيا.

بين وجهتي نظر عاطف وجدّه مسافة بطول المسافة بين حماسة الشباب الحالم والسرج السابح المنفصل عن الأرض على عبارة المتنبي ورصانة الشيخ وواقعيته الملتصقة بالأرض في ثبات.
وفي المفارقة بين الموقفين، يحاول تركمان إيران ذوو الأصول التركية (أقلية لا تتجاوز 2% في إيران) أن يحافظوا على خصوصياتهم الثقافية، التي جاؤوا بها من آسيا الوسطى، عندما استوطنوا المحافظات الشمالية الشرقية من إيران، واختلطوا مع الأكراد خاصة، لما بينهما من تشابه في الثقافات والعادات.
وبذلك يجسد الفيلم مغامرة صبي يأبى الهزيمة، بقدر ما يجسد نضال ثقافة وهوية ترفضان الزوال.