“طوفان”.. مأساة مفعمة بالأمل عن قطة تواجه فناء العالم

على مدار تاريخ جوائز الأوسكار الممتد 95 عاما، لم يُرشح فيلم من جمهورية لاتفيا للجائزة قط، وفي عام 2025، رُشح أول مرة فيلم التحريك “طوفان” (Flow) للمخرج “غينتس زلبالوديس”، ليس فقط لجائزة أفضل فيلم رسومي، بل أيضا لأفضل فيلم في فئة الأفلام الدولية.

مع ذلك، لا شيء في هذا الفيلم ينبئ بالدولة التي خرج منها، إنه فيلم يستعير بهاء أفلام السينما الأولى وقوة تعبيرها في زمنها الصامت، إذ يتخلى طوعا عن الحوار.

يحكي الفيلم في ظاهره عن قطة مجهولة تحاول النجاة من طوفان (توراتي) يوشك أن يبتلع اليابسة، وهي تتشارك في هذه الرحلة قارب النجاة مع كلب وخنزير ماء وهبّار وكاتب ضخم (طائر سكرتير).

تبدو القصة ذات بساطة ظاهرة، لكنها تجربة مشاهدة غامرة ومؤثرة. إنه فيلم شاعري عن الصداقة وعن الرفقة في مواجهة الكوارث، إنه أيضا قصة عالمنا في لحظة حرجة من تاريخه، كما يمثل تذكيرا واضحا بالقوة الفريدة للرسوم المتحركة على رواية القصص على نحو بصري خالص.

كان “فيم فيندرز” مخرج السينما الألمانية الكبير، قد شبه الحكاية السينمائية ذات مرة بأنها نهر، وأنك -أيها الحكّاء- إذا تجرأت على الإبحار فيه والثقة به، فإن قارب الحكي سيحملك إلى شيء ما سحري.

في فيلم “طوفان” شيء ما يمنح هذا الأثر، حتى لو كان نهر الحكاية يحمل اندفاعا طوفانيا، ففيه شيء ناعم وسحري، يتجلى منذ الإطار الأول، ويسحبك تماما معه.

الملصق الدعائي للفيلم التحريكي “طوفان”

تحول نجاح الفيلم إلى ما يشبه الظاهرة، فقد عُرض أول مرة في مايو/ أيار 2024 بمهرجان “كان” السينمائي في قسم “نظرة خاصة”، ثم أصدرته دور العرض السينمائية اللاتفية في 29 أغسطس/ آب من نفس العام.

أشاد النقاد بالفيلم، وحطم عددا من أرقام شباك التذاكر، وأصبح أكثر الأفلام مشاهدة في تاريخ دور العرض اللاتفية، بما في ذلك الأفلام الأجنبية، وفي حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ97، فاز بجائزة أفضل فيلم رسوم متحركة.

القطة بطلة الفيلم

وقبل الأوسكار، كان الفيلم قد فاز تقريبا بكل جائزة ممكنة في موسم الجوائز حول العالم؛ من أبرزها جائزة “غولدن غلوب” لأفضل فيلم رسوم متحركة، وجائزة الفيلم الأوروبي، وكذلك جائزة “سيزار” لأفضل فيلم في نفس الفئة.

أطلال عالم مدمر ورثته حيوانات تسعى للنجاة

“اسمي أوزيماندياس، مَلِكُ الملوك
انظر إلى ما صنعت، أيها الجبار، وإبتئِسْ!
لا شيء باق من حوله سوى أطلال ذاك الحطام الهائل
في صحراء جرداء بلا نهاية”

في الفيلم أصداء من قصيدة “بيرسي بيش شيلي” الشهيرة، لكن المسافر في صحراء القصيدة يتحول لرفقة من الحيوانات، عبر عالم مغمور بالماء، ليكونوا شهداء على السقوط المأساوي لحضارة الإنسان.

تبدو حكاية الإنسان أثرا عرضيا لرحلة نجاة حيوانات المخرج “غينتس زلبالوديس”، الذي لا تطالبك حكايته أن تبتئس، بل أن تفتح قلبك وتسأل عما جرى.

الحيوانات الناجية من الطوفان

لا يمنح “زلبالوديس” جمهوره إلا القليل جدا حول السياق العام لحكايته. ويمثل الحدث الأساسي والمؤسس في حكايته طوفانا يدمر الأرض، ويجبر الحيوانات البرية على التنقل بقوارب في عالم غارق في الفيضانات، وهو لا يخبرنا بأي سبب لحدوث هذا الطوفان، ولا تبدده في ختام الفيلم.

يكمن جمال فيلم “الطوفان” في أن ما يعرفه الجمهور هو نفس قدر المعرفة الذي يُمنح لكائنات الفيلم، فتصير هذه الرحلة في المجهول اكتشافا مشتركا بين المُشاهد والكائنات.

ربما هذه هي المرة الأولى التي نشاهد فيها فيلما من أفلام الفناء (نهاية العالم) يخلو من البشر، فهنا اختفاء مادي كامل لهم، لا نرى إلا بعض آثارهم.

ففي بداية الفيلم، نرى القطة تعيش في بيت خالٍ من البشر، مع وجود علامات على حياة بشرية كانت هنا قبل وقت قصير، منها مكتب فنان تحب القطة النوم عليه، ورسم تخطيطي غير مكتمل أبدعه قبل رحيله المفاجئ مخلفا وراءه قطته المحبوبة. وحول المنزل تماثيل للقطة ذات مقاييس مختلفة قرب الغابة الجميلة، بعضها شديد الضخامة.

قارب الحيوانات يبحر إزاء مدينة خاوية

في النصف الثاني من الفيلم، يمر القارب الطافي بمدينة باذخة الجمال، لكنها خاوية على عروشها. تنتشر آثار البشرية في كل مكان في المشهد الغارق. إن المشهديات أكثر غموضا من كونها فناء، لكنها بالتأكيد للتساؤل عما حدث لهذه الحضارة وأين ذهب سكانها؟

يبدو الأمر اختفاء مفاجئا، ربما ورثت الحيوانات الأرض، ولك أن تحاول تخمين مصير هذا العالم، أو ما حدث للبشر، لكن السرد أكثر اهتماما بمصير هذه الحيوانات، ورغبتها في النجاة.

قطة سوداء منعزلة في مواجهة العالم

ينسجم مسار الحكاية في فيلم “الطوفان” مع مخطط “رحلة البطل” كما صاغه الكاتب “جوزيف كامبل”، فللبطل رحلة عبر الخارج وأخرى عبر الداخل. نشاهد في البداية العالم العادي الذي تعيشه القطة، وندرك عزلتها واستقلاليتها وخوفها من الآخر، فهي لا تستطيع أن تثق في الآخر، ثم يأتي الطوفان فيقلب عالمها العادي، ويدفعها باتجاه الآخر بقوة الضرورة والحاجة.

يريد الكلب أن يكون صديقا، لكن القطة لا تريد أي علاقة به، وتهرب إلى مكان راحتها المفضل في منزل صاحبها، تاركة الكلب يتجول خارجه، وحين يبدو أن الطوفان قد خرج عن السيطرة، يحاول الكلب مرة أخرى أن يدعوها لركوب القارب مع مجموعة من الكلاب، لكنها تتمسك بخوفها وحذرها، وتبقى وحدها في مواجهة الغرق، وحين تقفز على متن قارب يبدو فارغا تجد على متنه خنزير ماء، فتواصل توترها وانزواءها بعيدا.

القطة وخنزير الماء وحيدان على متن القارب

مثل كل رحلة، نرى أصدقاء يساعدون البطل، وهم هنا كثر، منهم حوت هائل يبدو كأنه يد إلهية، كلما ظهر قدم لقطّتنا نوعا من المساعدة، تدفعها قدما في طريق رحلتها المقدورة، ومنهم الطائر الكاتب الذي ينقذها أكثر من مرة.

في المرات الأولى التي يحاول فيها الطائر الجميل إنقاذها، يدفعها الخوف للهرب من المساعدة، حتى نصل إلى المشهد الذي يدافع فيه عنها ضد طيور من فصيلته، فيدفع كبير هذه الطيور لكسر جناحه عقابا له. يكون هذا المشهد حاسما في تحول القطة، وبداية ثقتها فيه وفي بقية الحيوانات شيئا فشيئا.

يمثل الموضوع المشترك في “رحلة البطل” دائما مفهوم التحول والنمو الشخصي، فطوال الرحلة يخضع البطل عادة لتغييرات كبيرة، ويتطور من فرد عادي أو معيب إلى شخصية بطولية، وغالبا ما يكون موضوع التحول مصحوبا بالتحديات والتجارب واكتشاف الذات، مما يجعله عنصرا مركزيا وعالميا في روايات رحلة البطل.

الطائر الكاتب ينقذ القطة

في قصتنا كان على القطة أن تدرك أنها تحتاج للآخر لتواصل مغامرتها، وأن عليها أن تثق في شركاء رحلتها لتنجو، وعند الوصول إلى ذروة القصة، يوضع البطل تحت اختبار جديد في طريق تحقيقه لهدفه، لصقل مهاراته بالتضحية الأخيرة، من خلال موت وانبعاث جديد، ولكن بمستوى أعلى وأكثر اكتمالا هذه المرة.

الاستعداد للتضحية.. رسالة إنسانية يمررها الفيلم

تخاطر القطة لإنقاذ رفاقها العالقين في قارب معلق فوق هاوية، ليلتئم شملهم جميعا في النهاية. ثم تكافَأ القطة بعائلة في النهاية.

فكرة التضحية أو -على الأقل- الاستعداد لها هي جزء من معنى الفيلم، ففي واحد من أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها تسامحا نرى طائر الكاتب الأبيض فجأة يرتفع في السماء عبر دوامة ناعمة من الضوء، وكان قد عجز قبل ذلك عن الطيران، حين كسر جناحه وهو يدافع عن القطة.

المشهد الجميل الذي يُرفع فيه الطائر نحو السماء عبر دوامة النور

حين يرجع البطل إلى وطنه بعد نهاية رحلته، يعود حاملا معه الدروس التي تعلمها خلال مغامرته.

في خاتمة الفيلم، نشهد على قوة وحميمية الرابطة التي أقامتها القطة السوداء وأصدقاؤها بطريقة مرضية وصادقة، ومن الرسائل التي نسجتها القصة مدى ما يمكننا أن نتعلمه من بعضنا، عندما نتوقف عن الخوف من “الآخر”.


إعلان