“المستعمرة”.. بحث عن الثأر في الأحياء المصرية الفقيرة

تتشابك سمات الفيلم الروائي الأول الذي انضوى تحت عنوان “المستعمرة” أو “التسوية” للمخرج المصري محمد رشاد، المستوحى من قصة حقيقية حدثت على أرض الواقع.

ومع أن سمة الفيلم الرئيسة تتمحور على سؤال واحد مفاده: هل مات سيد ديب والد حسام ومارو بحادثة عرَضية، أم قُتل عمدا مع سبق الترصد والإصرار؟

مارو الصغير ينام على صدر أخيه بعد ساعات العمل الطويلة

تتشظى عن هذه السمة الجوهرية موضوعات تثري قصة الفيلم الواقعية، وتعمق أنساقها الفنية والفكرية والاجتماعية. فالفيلم يرصد بيئة اجتماعية مهمشة، تضم شريحة كبيرة من العمال الفقراء، الذين ينهمكون في الأعمال البدنية الشاقة في مصانع نائية، ليست فيها شروط السلامة المتعارف عليها في البلدان المتطورة، مما يعرض العمال والموظفين لأخطار جمة، قد تبلغ حد الإعاقة أو الموت.

كما يناقش الفيلم عَمالة الأطفال، وما تنطوي عليه من مصادرة لحقوقهم الإنسانية، وحرمانهم من الدراسة التي توفر لهم لاحقا عيشة كريمة ومقبولة في أضعف الأحوال.

كما يتناول الفيلم موضوعات الأخوة، والحياة الأسرية، والثأر، والتشرد، وعلاقة حب تنقدح شرارتها الأولى، لكنها سرعان ما تنطفئ حين تتقطع السبل بالشاب حسام، وهو لم يجتز عامه الثالث والعشرين بعد.

واقعية تحاكي بيئة القصة الحقيقية

من يتتبع هذا الفيلم الدرامي، يجد أنه ينتمي في جانب كبير منه إلى الواقعية الإيطالية، التي ينزل فيها المصورون إلى الشوارع والميادين العامة والأسواق والمصانع وما إلى ذلك، ويهجرون الأستوديوهات ذات الأثاث الباذخ، بحثا عن نبض الحياة الحقيقية، وإيقاعها السريع الذي يصم الآذان في كثير من الأحيان.

لم يختر المخرج ممثلين مشهورين، كما اعتمد على الإضاءة الطبيعية، لكي يتفادى المزوقات الإخراجية المبالغ فيها، التي تضفي -في خاتمة المطاف- رهافة مخملية، لا يريدها المخرج وكاتب القصة الذي سمعها غير مرة، من والده ومن أناس آخرين عاشوا قصصا مشابهة، تقايض فرصة العمل المتواضعة بالسكوت على فقدان حياة عامل، بسبب افتقار المصنع لشروط السلامة المتعارف عليها في البلدان المتحضرة، التي تعد الإنسان أثمن ما في الوجود.

يستهل المخرج فيلمه بمشهد انفعالي متوتر، فنرى الأخ الأصغر مارو يقف مهددا أمه وأخاه بقطع شريان يده، إن لم يسمحا له بترك المدرسة والنزول إلى العمل، فتنهار الأم التي سنعرف أنها مريضة، وتعاني من ورم في الساقين.

أما حسام فلا يأخذ الأمر على محمل الجد، ومع ذلك تنتهي الأزمة لمصلحة مارو، فيترك الدراسة وينهمك في العمل، ليكتشف شيئا واحدا هو سبب وفاة أبيه، الذي ظل غامضا لديه.

مقايضة الموت بفرصة عمل متواضعة

تحظى شخصية حسام (الممثل أدهم شكري) باهتمام المخرج وكاتب السيناريو محمد رشاد، فقد تبين أن هذا الشاب له علاقة بتجار المخدرات، الذين يتمترسون في الجبل، وكأنه مستعمرة لهم، وأن الشرطة لا تستطيع ملاحقتهم ودهم مواقعهم الحصينة النائية التي لا تغطيها شبكة الهاتف.

الصبي الصغير مارو الذي قرر الانخراط في العمل الشاق لاكتشاف موت أبيه الغامض

تتكشف أبعاد شخصية حسام تباعا، فما إن يلتقي به المهندس كريم حتى يخبره بأنه لن يسأل عن سجله الجنائي، فنعرف أن هذه الوظيفة التي أسندت له ولأخيه الأصغر هي تعويض عن موت الوالد، مقابل التخلي عن رفع دعوى قضائية، للمطالبة بحقوقه بعدما توفي في حادث عرَضي لم يصدقه أغلب عمال المصنع.

يعيد عليه العم مصطفى خطوات تشغيل الآلة بالترتيب، وينبهه إلى ضرورة الاهتمام بعمله ومستقبله، وألا يسمع كلام العمال الذين يبالغون كثيرا، ويخبره بأن موت والده كان حادثة عرضية لا غير، وأنه كان يعاني من آلام في القلب منذ سنة أو يزيد.

تكتم على السر الذي يعرفه الجميع

يجد مارو إعياء شديدا من العمل الشاق، حتى أنه كان ينام واقفا في سيارة العمال، قبل أن يخصصوا له مقعدا فيها، ومع ذلك يبدو أنه منتبه جدا إلى ما يدور في البيت والمصنع على حد سواء.

فهو يعرف أن أخاه حسام كان يذهب إلى الجبل، ويعمل عند “العرباوية” الذين يتاجرون بالمخدرات، وأنه سمع هذا الكلام من والده، لكن حسام كان ينفي ذلك جملة وتفصيلا، لأن الذي يذهب إلى الجبل إما أن يكون قد صدر بحقه حكم إعدام أو سجن مؤبد، أو أنه يخشى القتل، فيلوذ بذلك المكان النائي المعزول المحصن.

أدهم شكري يعمل في المصنع الذي توفي فيه والده

تكسر مكالمة عبير رتابة الإيقاع الذي يعيشه حسام، فقد جاءت هذه المكالمة مثل مفاجأة سارة ومدهشة في حياته العقيمة، التي تتوزع بين الممنوعات والأخبار المخجلة، وهو يتكتم عليها غير مدرك أنها مكشوفة للجميع، بدءا من ضابط الشرطة، ثم الأم التي فضحت سرقاته، حتى لثمن الدواء الذي تتعالج به من آلام الساقين، ثم مارو الذي تبين أنه يعرف كل شيء.

يلقن مارو أخاه الأكبر دروسا في رد الاعتبار والأخلاق والأخذ بالثأر، حتى أنه ترك الدراسة وتخلى عن كل شيء من أجل “الانتقام”، لكنه لا يقدر على تنفيذه، بسبب صغر سنه، وضعف قدراته البدنية عن مواجهة من هم أسن منه.

اتصالات ذات نفَس عاطفي

تتمنع عبير في الكشف عن هويتها، مع أنها تكون يوميا في المصنع، وبعد مكالمات عدة يتعرف عليها حسام، ويكتشف الطريقة التي أخذت بها رقم هاتفه.

ففي أثناء عزاء والده، كانت أمه تتصل به لتخبره بوفاة أبيه، لكنه لم يرد فاضطرت للاتصال به من هاتف آخر، فكان هاتف عبير، ثم إنها حفظت الرقم، وأخذت تتصل به بين آونة وأخرى.

حسام ومارو يناقشان شؤون العمل ومقتل الوالد

ونعرف من خلال لقاء قصير أن أمها وخالتها كانتا تشتغلان في المصنع، ثم توفيت الأم وتبنت خالتها تربيتها.

يسهم مارو في استفزاز حسام، وتحريضه على الانتقام، حينما يتهمه بالجبن، ويصفه بالفرخة العاجزة عن فعل أي شيء.

هروب إلى الجبل من ضربة مميتة

تتطور الأحداث تباعا، فيمتنع حسام عن جلب المخدرات للمهندس كريم، لأن أخاه الأصغر عرف مجمل التفاصيل التي تربطه بجماعة الجبل.

وفي خضم انغماس حسام في أكثر من موقف متوتر، سواء مع المهندس كريم وطلباته التي لا تنتهي، أو مع أخيه الذي بدأ يشتبك مع مسؤوله المباشر في العمل، نسمع خبرا مفاجئا مفاده أن حسام قد ضرب المهندس إيهاب ضربة مميتة، وهرب مسرعا لا يلوي على شيء.

الأخوان في طريقهما إلى المصنع

لم يجد حسام بدا من الهرب إلى الجبل، والأغرب من ذلك كله أن مارو قرر مؤازرة أخيه والتشبث به، ليس بسبب رابطة الدم، بل لأنه أخذ بثأر الوالد الذي مات غيلة كما يرى هذا الصبي الصغير ذو العقل الكبير والرؤية النفاذة، التي تتجاوز حدود طفولته.

ربما تكون المكالمة الأخيرة رمزية ودالة بين حسام وعبير، فهو يريد أن يسمعها ويتكلم معها على الدوام، لكن الهاتف سيكون خارج التغطية إذا ما صعد إلى الجبل، فالجبل يمنحه الحماية من جهة، لكنه يحاصره بالعزلة الأبدية من جهة أخرى.

يمكن تصنيف “الجبل” في هذا الفيلم نموذجا للمكان الهامشي، الذي يوجد في غالبية المدن المصرية، ولا سيما المدن الكبيرة، كالإسكندرية -التي تدور فيها أحداث الفيلم- والقاهرة وغيرها من المدن، التي تحتضن هذا النمط من الأعمال الخارجة على القانون.

طاقم فيلم التسوية في مهرجان برلين السينمائي لعام 2025

فمن لا يدخل في العمل معهم لا يستطيع أن ينجو بنفسه، ويكون غالبا هدفا سهل التصفية، فيجهزون عليه في رابعة النهار، ويضعون حدا لحياته التي لا تساوي نقيرا من وجهة نظر الكائنات العاملة في الممنوعات والمحرمات، التي تدمر أرواح الشباب وعقلياتهم، وتمزق النسيج الاجتماعي المصري.

محمد رشاد.. مخرج ذو نبرة سياسية واجتماعية خافتة

مَن يدقق في تفاصيل هذا الفيلم جيدا، سيلمس النبرة السياسية اليسارية الخافتة، التي نقرأها على الآلات القديمة المصنوعة في الاتحاد السوفياتي، كما أن المناطق العشوائية والمهمشة هي إشارة أخرى تعزز هذا الاتجاه، أو تشير إليه في الأقل.

ثم إن شريحة العوائل الفقيرة هي التي تتسيد قصة الفيلم المحورية، وربما تذهب أبعد من ذلك حينما نكتشف أن المهندس كريم يتعاطى الأشياء المحرمة دينيا واجتماعيا وأخلاقيا.

طاقم فيلم التسوية في مهرجان برلين السينمائي

لم يشأ المخرج محمد رشاد أن يقدم لنا فيلما باذخا، يعتمد على قصة مخملية تتأجج بالخيال الرومانسي المجنح، فتلك قصص لا نجدها إلا في الأحياء الثرية النادرة، لكنه اختار مكانا عشوائيا وعائلات فقيرة لا تجد متسعا من الوقت حتى للقيلولات الخاطفة، فلا غرابة أن يناموا واقفين في السيارات التي تقلهم بين بيوتهم والمصنع.

وهذا هو دأب الأفلام المستقلة، لتكشف لنا الواقعية الفظة والخشنة، التي يعيشها غالبية أبناء الشعب المصري، الباحث عما يسد الرمق.

وقد اعتمد مخرج الفيلم على عمال حقيقيين، منحوا الفيلم لمسة واقعية أبعدته عن التصنع والافتعال. كما أن الغموض المستحب الذي أضفاه كاتب السيناريو على موت الأب قد صنع مناخا تشويقيا، سوف يلازم المتلقين على مدار الفيلم (94 دقيقة)، فلم نشعر بثقله مع أن إيقاعه بطيء.

المخرج محمد رشاد

جدير بالذكر أن فيلم “التسوية” أو “المستعمرة” -بعنوانه الأجنبي الثاني- هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج والكاتب محمد رشاد، وقد اشترك في مسابقة “آفاق” في الدورة الـ75 من مهرجان برلين السينمائي الدولي.

بقي أن نقول إن المخرج محمد رشاد قد أنجز 4 أفلام، وهي على التوالي:

  • النسور الصغيرة.
  • بعيدا.
  • مكسيم.
  • التسوية.

إعلان