“صدام حسين.. بين الأسطورة والواقع”.. رتوش جديدة في بورتريه قديم

عادة ما يُظن -على نحو خاطئ- أن السينما الوثائقية تخلو من الحكايات وأنها تكتفى على نحو ما برصد الواقع كما هو. يمنحنا فيلم ” صدام حسين.. بين الأسطورة والواقع” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية حكاية ملحمية لا ينقصها أي خيال، تتحرك على نحو كلاسيكي بين بداية وذروة ونهاية.

شاهد فيلم “صدام حسين.. بين الأسطورة والواقع” على منصة الجزيرة 360

يبدأ الفيلم بتتابع خاطف من اللقطات نرى فيها صدام حسين عبر مقطع أرشيفي ممتطيا فرسه ومختالا أمام الكاميرا والحشود في قمة مجده وبين لحظة إسقاط تمثاله الأيقونية بعد الغزو الأمريكي للعراق. بين هذه الذروة الدرامية والنهاية المريرة تتحرك حكاية صدام حسين.

رتوش جديدة في بورتريه قديم

ينقسم الفيلم الى قسمين، يبدأ أولهما من ميلاده في قرية صغيرة قرب تكريت يتيما، وحتى أحداث قاعة الخلد التي تدشن بداية عراق صدام، عراق الموت والخوف والصراعات التي لا تنتهي. كانت أحداث قاعة الخلد أو ما يعرف بمجزرة الرفاق مؤتمرا حزبيا بعثيا في بغداد، عقد في قاعة الخلد، نظّمه صدام حسين بتاريخ 22 تموز/يوليو 1979 بعد ستة أيام من وصوله الى منصب الرئاسة في العراق وانتهى إلى اعتقال وقتل كل المعارضين البعثيين لصدام من تلك القاعة.

قائمة إعدامات قاعة الخلد سنة 1969

كانت لحظة فاصلة أصبح فيها صدام قائدا مطلقا للعراق، ولحظة شبهها المعلقون بليلة السكاكين الطويلة في ألمانيا النازية.

ويبدأ القسم الثاني بتحديات بداية حكمه واشتعال صراعه مع إيران عقب وصول الخميني للسلطة هناك وينتهي بمحاكمته وإعدامه بعد الغزو الأمريكي للعراق. ورغم أنها تبدو حكاية مألوفة للغاية ومكرورة بعض الشيء خاصة في خطوطها العريضة إلا أن الجديد الذي يقدمه هذا الوثائقي يتعلق بتفاصيل تعمق رؤيتنا لشخصية صدام حسين التي ترتبط حكايته بحكاية بلد عريق مثل العراق.

يمنحنا الفيلم أيضا نافذة على الشخصية في عين ذاتها، كيف رأى نفسه أو توهمها عبر تعليقات من المقربين منه تعمل كرتوش في رسم هذا البورتريه.

الهوية السردية لصدام حسين

وفق الفيلسوف الفرنسي “بول ريكور”، لا يمكننا أن نتمثّل شخصا ما أو أفكاره الا من خلال منحه هوية سردية، بمعنى أن نروي قصّة حياة. وتروي تلك الحكاية المسرودة فعل هذه الشخصية لذلك لا بد ّأن تكون هويتها نفسها هوية سرديّة.

دونت العديد من التحليلات النفسية المختلفة لشخصية صدام حسين منذ سقوطه، لكن ما يهمنا هنا هو كيف تتجلى شخصيته من خلال هذا السرد الفيلمي تحديدا.

جداريات صدام حسين تملأ المدن

يتجلى هنا أول الأمر كحالم حتى وإن سعى خلف حلمه بالرصاص والدم، وحتى لو استحال حلمه كابوس العراق كله. مثل هذه الأحلام لا يولد في الفراغ، بل يأتي كتتويج لمرحلة شديدة الاضطرابات في تاريخ بلد مليء بالانقلابات السياسية المتتالية. كان صدام نفسه جزءا من ذلك التاريخ المضطرب حين شارك في محاولة الاغتيال الفاشلة لعبد الكريم قاسم في شارع الرشيد ليصبح بدها مطاردا وهاربا. وشارك أيضا في الانقلاب الذي أتى بأحمد حسن البكر رئيسا للعراق وبه نائبا.

يتجلى لنا أيضا كشخصية سلطوية تماما، إذ طالما كانت السلطة عين رحلته. يحكي فؤاد مطر كاتب سيرته إنه لا يمكن وصفه أبدا بحاكم الصدفة، لأنه كائن مسكون بفكرة السلطة، يفكر فيها ويخطط لها حتى في نومه. فإذا كان يفكر في السلطة حتى وهو نائم، فلا بد أن يحمل مسدسا معه. يحكي مطر أن المسدس لم يكن حتى يفارقه وهو في سرير نومه.

مثل هذه الكائنات السلطوية لا يمكن أن تعيش دون أعداء سواء حقيقين أم متوهمين فهم وقود رغبته العارمة في السلطة ومتجذرين في “بارانويا” شخصيته (جنون العظمة والاضطهاد).

صدام حسين.. الحاكم المطلق

يركز جزء من الفيلم على ظاهرة تماثيله ولوحاته وجدارياته الحاضرة في كل مكان لتمنحه وجودا كليا. إلى جانب صوره المعلقة في كل بيت وفي كل إدارة حكومية أو خاصة، فنراه في أحد مشاهد الفيلم يزور متحفا يسمى “متحف هدايا الرئيس” يعبر قاعات المتحف المزينة بلوحاته التي أهداها له فنانو العراق والتي تجسده كبطل، نحن أمام نرجسي يتأمل معجبا في مرايا ذاته.

يرى النرجسي هذا الآخر كعدو له أو امتدادا له، عدو ينبغي التخلص منه أو التخلص من جزء منه، ولا ينبغي القلق بشأنه. في أحد المشاهد يتحدث في فيديو مصور له مع خلصائه وقادة جيشه عما يشاع في وسائل الإعلام الغربية عن قرب وقوع انقلاب بالجيش العراقي، يمزح معهم بينما يردد ” كيف ينقلب واحد على نفسه”.

كيف رأى صدام نفسه؟

لا يقدم الفيلم صدام حسين هنا كشيطان، بل يقدم جوانب منه كرجل عائلة محب وكرئيس متواضع يحضر أفراح شعبه ويقاسم الفقراء طعامهم. ولا يسعى الفيلم لفهم تناقضات شخصيته لكنه يثبتها.

إنه منخرط طيلة الوقت في تغذية جانب البطل الأسطوري في ذهن شعبه، إنه على وعي واضح بهذه الهالة التي يسعى إليها. إنه دائما في قلب مسيرة وسط ناس يهللون له وكأنه يتغذى على ذلك.

صدام حسين في أوج سلطة العراق وقوته

ربما نجد دليلا على ذلك بحكاية حكاها المخرج المصري الكبير توفيق صالح مخرج فيلم “الأيام الطويلة” وهو فيلم يستعين به المخرج كمادة أرشيفية لفيلمه. يستلهم “الأيام الطويلة” حياة صدام حسين استنادا إلى رواية كتبها الشاعر عبد الأمير معلّة من جزئين بالعنوان نفسه، وتتحدث عن محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق عبد الكريم قاسم، التي شارك فيها صدام حسين مع شبان بعثيين آخرين، وهربوا إلى سوريا بعد فشل العملية، وإصابة صدّام في قدمه.

يحكي صالح أن الاعتراض الوحيد الذي أبداه صدام حسين تجاه فيلمه أنه يتألم كانسان عادي جراء الرصاصة التي أصابت ساقه كان يرغب في حذف هذا المشهد الذي يتألم فيه لأنه يتناقض مع هالته. تتناغم هذه الحكاية مع تعاظم الذات النرجسية لصدام بالإضافة لوعيه بحالة الأسطرة التي تضفي عليه وحرصه عليها.

اللعب مع الخيال بديلا للعب مع الواقع

تفاجئني في الفيلم هذه الجملة التي أتت على لسان “جون نيكسون” أحد محققي الـ”سي آي إيه” (وكالة المخابرات المركزية) كرد لصدام حسين حين القبض عليه بعد سقوط العراق عن سؤال هويته ” أولا وقبل كل شيء، أنا كاتب”.

يحكي كاتب سيرته مجددا أنه في وقت الحصار والتفتيشات الأمريكية على العراق بحثا عن أسلحة دمار شامل، أنه بدأ يلجأ للكتابة على نحو مستحوذ. كتب خلال هذه الفترة عددا من الروايات مثل رواية “زبيبة والملك” الصادرة عام 2000 دون اسم، حيث كتب فقط على غلافها لكاتبها.

رواية زبيبة والملك

تحكي الرواية قصة حب عذري يجمع بين ملك في العصر الوسيط وزبيبة التي تعيش حزينة مع زوجها القاسي، ولا تخفى الرواية وراء واجهتها الفلكلورية البسيطة سوى رموز واضحة؛ حيث الملك يمثّل صدام وزبيبة تمثّل الشعب العراقي، فيما يجسّد زوجها القوات الأمريكية بقسوتها وشرورها، وتبلغ الدراما الصدامية ذروتها، عندما يغتصب زبيبة مجهول يتضح أنه زوجها.

كيف كان صدام يرى نفسه؟ من الواضح انه رأى نفسه بطلا مؤسطرا على نحو ما وأسطورته تكمن في كونه مناضلا وبطلا سيعيد أمجاد العراق العظيم. في مرحلته الأخيرة وتحديدا بعد غزو العراق وحين يخذله الواقع ويبدأ في التناقض مع تصوراته البطولية عن نفسه فإنه يلجأ إلى الخيال.

يحكي محامي دفاعه في محاكمته الأخيرة أنه حين التقى به باكيا بعد تصديق حكم الاعدام بحقه، أنه أخبره “لا تبكي، سيظل اسم صدام حسين حيا لخمسمائة عام قادمة”.

السينما الوثائقية كمصدر للتاريخ

ينتمي وثائقي “صدام حسين.. بين الأسطورة والواقع” حسب تصنيف الباحث الأمريكي “بيل نيكولز” إلى ما يسمى الوثائقي الاستكشافي/التوضيحي.

يستعرض هذا النوع من الأفلام الوثائقية أحداثا وقعت ويبدأ باستكشافها وتكون بالأسلوب الكلاسيكي مع راو يسرد الأحداث، وقد يظهر معلّق على الشاشة، أو من خلال السرد من خارج الشاشة، ويستخدم فيها المقابلات، واللقطات الأرشيفية من دون حدود.

وعادة لا تعطي هذه الأفلام المجال للمشاهد لكي يحلل ويربط الأحداث، لأن نصها سردي، يستعرض الوقائع كما هي. ومن الأمثلة على هذه الوثائقيات الأفلام الوثائقية التاريخية.

ينطبق هذا التصنيف على فيلمنا الى حد كبير والذي يعتمد بشكل أساسي على المقابلات المباشرة لتشكيل مادته والتي تتنوع بين مقابلات مع معارضين وأشخاص كانوا قريبين من صدام حسين إبان حكمه.

الجيوش الغربية تغزو بغداد وتسقط تماثيل صدام

كما يعتمد الفيلم أيضا على لقطات وصور أرشيفية لصدام حسين سواء في الحكم أو حياته الخاصة. ويلجأ السرد أحيانا إلى لوحات مرسومة لترافق صوت السارد ليبدو الفيلم في هذه اللحظات القليلة كما لو كنت تقرأ في رواية مصورة.

بالرغم من تقليدية البناء السردي في هذه الأفلام فإنها تسعى لتقديم الحقيقة على حساب الاتقان الشكلي. يساهم هذا البعد الوثائقي للسينما في جعلها على نحو ما مصدرا جديد للتاريخ.


إعلان