“البيكون الكندي”.. فيلم ساخر يتنبأ بأطماع ترامب في كندا منذ 30 عاما

كان الرئيس الأمريكي “ماكينزي” (الممثل ألان ألدا) جالسا على مكتبه ويبدو عليه التوتر، ويقف مستشاروه السياسيون حوله ممسكين بالرسوم البيانية والتقارير. يقلب أحد المستشارين أرقام استطلاعات الرأي، ويقول: سيدي الرئيس، بلغت نسبة تأييدك 17%، حتى فرنسا لديها نسبة تأييد أعلى منك.

يتنهد الرئيس وهو يقرص صدغيه، ويقول: نحن بحاجة إلى حرب، ولكن ضد من؟ فيتساءل جنرال عسكري: الصين؟ فيحذر مستشار آخر: كبيرة جدا، ومحفوفة بالخطر. ثم يتساءل نائب الرئيس: ماذا عن كندا؟ فتصمت الغرفة.

تعرض الشاشة خطابا رئاسيا دراماتيكيا يبث على الهواء مباشرة، يجلس الرئيس على المكتب البيضاوي، ويحدق في الكاميرا بتعبير جاد ومخيف، ثم يبدأ: إخواني الأمريكيين، لطالما وقفت أمتنا العظيمة بقوة ضد أعدائنا، ولكن اليوم يظهر تهديد جديد، ليس من الشرق الأوسط ولا من روسيا، بل من فوق رؤوسنا مباشرة.. كندا.

تعرض الشاشة أدلة التهديد أثناء حديثه، منها لقطات لعواصف ثلجية، كأن كندا تتحكم في الطقس، ثم تعرض لقطات من مباريات الهوكي بعنوان “العدوان الكندي”، ثم صور لرجال الشرطة الكندية على ظهور الخيل. ثم يقول الرئيس: إنهم يتنكرون في هيئة مهذبين، يدّعون أنهم مسالمون، ولكن ماذا لو كان هذا الأدب مجرد غطاء؟

يسحب علبة من مشروب كندي ويهزها: لماذا يخزنون منه الكثير؟ هل يمكن أن يكون سلاحا كيميائيا حيويا؟ رعايتهم الصحية مجانية، من يدفع ثمنها؟ نحن ندفعها بالصفقات التجارية غير العادلة! لقد أعطونا “سيلين ديون”، من يدري ما يخططون له أيضا؟

خطاب الرئيس التحريضي ضد كندا

ينتهي الخطاب بنداء عاجل للتحرك: أيها الأمريكيون، أسألكم: هل سننتظر حتى تضرب كندا أولا؟

ليس هذا المشهد أبرز مشاهد فيلم “البيكون الكندي” للمخرج الشهير “مايكل مور”، ولكنه المشهد الأهم بين الولايات المتحدة وكندا حاليا، ومن المفارقة أنه ورد في فيلم أنتج منذ 30 عاما.

ولئن كان الرئيس “دونالد ترامب” قد كرر أن كندا هي الولاية الـ51 من الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الصفقات غير العادلة تكلف الولايات المتحدة 200 مليار دولار، وأن الحرب الاقتصادية ستخضع كندا، فإن “ماكينزي” فعلها من قبل في خيال المخرج “مايكل مور”، كما فعلها من سبقوه بـ200 عام بالقوة المسلحة.

سخرية الفيلم الروائي الوحيد لمخرج وثائقي

كان المخرج الوثائقي الأمريكي الفائز بالأوسكار “مايكل مور” (70 عاما) على وشك نسيان فيلمه الروائي الوحيد “البيكون الكندي” (Canadian Bacon)، لكن إظهار الرئيس “دونالد ترامب” نياته حول الجارة الشمالية أيقظ تلك الذكرى التي تعود إلى عام 1995، حين عرض فيلمه الروائي الوحيد، وتنبأ فيه بذلك الكابوس القديم الجديد حول رغبة البعض في أن تكون كندا الولاية الـ51 بين الولايات الأمريكية.

ومع أن الفيلم ينتمي إلى نوع الكوميديا الساخرة، فإن واقع تحقق النبوءة أصبح ميلودراما كندية أمريكية على مستوى العلاقات الاقتصادية والشعبية بين البلدين.

وهو يعالج في إطار كوميدي ساخر عبثية الدعاية السياسية، واقتصاد الحرب، والعلاقات الكندية الأمريكية التي غالبا ما تُتجاهل. وبما أنه فيلمه الخيالي الوحيد، فإنه يعد امتدادا لعمله الوثائقي، فيقدم فيه نقدا لاذعا وفكاهيا للممارسات العسكرية الصناعية الأمريكية والصور النمطية الثقافية.

تاريخ الحرب والهزيمة والأطماع التوسعية

بدأ الطمع الأمريكي بضم كندا نهاية القرن الثامن عشر، ومع أنهما لم تشتبكا في حرب شاملة، فقد نشأت بينهما صراعات عسكرية عندما كانت كندا لا تزال مستعمرة بريطانية، وكان الصراع الأول معاصرا للثورة الأمريكية قبل أن تتشكل ملامح الدولتين.

كانت الولايات المتحدة يومئذ 13 مقاطعة تسعى للاستقلال عن بريطانيا، وحاولت قواتها غزو كندا التي تحتلها بريطانيا، وقد سيطر الأمريكيون على مونتريال، لكن قواتهم التي كان يقودها الجنرال “ريتشارد مونتغمري” هزمها الكنديون والبريطانيون.

الرئيس دونالد ترامب يحرض ضد كندا

وجاء الصراع العسكري الأهم عام 1812، ويرى كثير من المؤرخين أنه شكّل ملاح الدولة الكندية وبلور كيانها، ولم يهزم الأمريكيون فقط في هذه الحرب، بل استولت القوات الكندية والبريطانية على مدينة ديترويت الأمريكية الحدودية، وصدت هجومين كبيرين في مونتريال وشلالات نياغرا، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، ولم يقدّر للأمريكيين السيطرة على الأراضي الكندية التي استقبلت “فلول الثورة الأمريكية”، كما أنشأت ممرا سرية لاستقبال الأمريكيين السود الهاربين من جحيم الاستعباد.

أصبحت لكندا والولايات المتحدة أكبر حدود برية غير محمية في العالم، ويبلغ طولها 9 آلاف ميل تقريبا، ومع أن جولة في الشمال الأمريكي مثل ولايتي فيرمونت ومين وغيرهما، والمقاطعة الكندي الجنوبية الكبرى وهي “أونتاريو”، ستؤكد أن كم التشابهات بين السكان في الدولتين هائل، فإن الملاحظة الأبرز في كندا هي تأسيس الهوية الكندية، على اعتبار أنها عكس كل ما هو أمريكي، فقد بُنيت على ذلك التخوف من سطوة الجار الجنوبي والشمالي أيضا (تقع ألاسكا شمال غرب كندا، وهي تابعة للولايات المتحدة الأمريكية).

“مايكل مور”.. صحفي لاذع النقد يكنّ مودة لكندا

فيلم “البيكون الكندي” هو التجربة السينمائية الثانية للمخرج “مايكل مور” بعد فيلمه الوثائقي “أنا وروجر” (Roger & Me) الذي عُرض عام 1989، ويصور فيه الأثر الاقتصادي السلبي لقرارات “روجر سميث”، الرئيس التنفيذي لشركة “جنرال موتورز”، الذي قرر إغلاق بعض مصانع السيارات في مدينة فلينت بولاية ميشيغان، فخسر 30 ألفا وظائفهم.

“مايكل مور” في مظاهرة تضامنا مع المسلمين ضد قرار ترامب بمنع دخول مواطني 6 دول مسلمة إلى الولايات المتحدة

وكان “مور” قد بدأ حياته صحفيا، وعمل لجريدة “ميتشغان تايمز”، ثم تحول من القلم إلى الكاميرا، وأصبح من أشهر الناشطين السياسيين والمخرجين الوثائقيين الأمريكيين، ونال جائزة الأوسكار عام 2003 عن فيلمه الوثائقي “بولينغ لأجل كولومباين” (Bowling for Columbine)، وجائزة السعفة الذهبية من مهرجان “كان” عام 2004 عن فيلم “فهرنهايت 9/11” (Fahrenheit 9/11).

وقد عرف “مور” بنقده اللاذع وجرأته في مواجهة الرؤساء الأمريكيين، لا سيما “جورج بوش” و”ترامب”، ويوجه انتقاداته بكتاباته وأفلامه في قضايا عدة، منها العولمة وسيطرة الشركات العملاقة وجماعات العنف المسلحة، وعُرف بتأييده لبناء مسجد “غراوند زيرو”، ويكنّ مودة للمجتمع الكندي، وقد عبر عن ذلك في أعماله وتصريحاته.

“البيكون الكندي”.. كوميديا تجسد عبثية السياسة

يدور الفيلم في أمريكا ما بعد الحرب الباردة التي تكافح الركود الاقتصادي، ورئيسها “آلان ريتشموند” (الممثل آلان ألدا) يدرك ضعف شعبيته، ويحاول استعادتها بافتعال صراع جديد مع إحدى الدول، وذلك شأن كل رئيس أمريكي يواجه هذا الموقف، كما في كثير من الأفلام الهوليودية.

تؤدي قلة الأعداء الدوليين القابلين للشيطنة إلى تحول مستشاري البيت الأبيض شمالا، فيبدؤون صنع توترات مع كندا، وفي الوقت نفسه يصبح رجل القانون المتحمس “بود بومر” (الممثل الكندي جون كاندي) واجهة معادية للكنديين، بعد إلقائه خطابا مثيرا للجدل.

ومع تصاعد الدعاية، ينشأ سوء تفاهم سخيف، ناتج عن إبداء آراء في أنواع الطعام والشراب ووصفاتها في الدولتين، ويؤدي إلى غزو هزلي لكندا تحت شعار “الولاية الـ51”.

الممثل الكندي “جون كاندي”

وقد استخدم “مايكل مور” في فيلمه الكوميديا البصرية لصناعة الابتسامة والضحكة، كما ظهرت التقنية الوثائقية في العمل الروائي، لكن سردها هنا يستعين بالخيال، وإن بدا أقرب إلى واقع 2025. وقد احتفظ “مور” أيضا بملامحه التلقائية، التي تجلت بوضوح في سائر وثائقيات فيما بعد.

جاءت المشاهد والمفاهيم المراد تقديمها بالعمل مباشرة وصريحة وجريئة بقدر صادم، لكن العمل احتوى بصيرة مكنته من التفرس بتفاصيل محيرة، قد يصل السؤال فيها إلى قمة السخرية عن استنساخ الساسة الأمريكيين للفيلم في واقع الحياة.

وكانت المبالغة هي مبعث الضحك في الفيلم، وقد كشفت عن عبثية الخطاب السياسي المحرض على الحرب، كما فندت هشاشة الشعور القومي بين شعبين يصعب تمييزهما.

وسائل الإعلام.. وقود صناعة الخوف وتسويقه

لفت السيناريو إلى دور وسائل الإعلام في صنع الخوف وتسويقه، وهي سياسة معروفة للتلاعب بالوعي الشعبي، وقد دفع “مور” في نصه الساخر البديع بمفارقة مركبة، فالأمريكيون يسخرون من “أدب الكنديين المبالغ فيه”، ومع ذلك يجعلهم الساسة المفلسون والإعلاميون تهديدا مفترضا.

المخرج “مايكل مور”

وكان دور المحرض الأكبر على كندا “باد بومر” آخر أدوار الكوميدي الكندي الشهير “جون كاندي”، وقد قدم فيه شخصية الوطني الأمريكي المتطرف، الذي يؤدي جهله إلى سلسلة من المغامرات الفاشلة، ولا سيما محاولاته إيجاد أسباب للعداء بين الدولتين، ولو بانتقاد وصفات الطعام، وذلك ما جعل العمل كوميديا صارخة، تبرز التفاهة السياسية في أسوأ صورها.

وقد قدم الممثل الأمريكي “آلان ألدا” دور الرئيس الأمريكي “ريتشموند” صورة كاريكاتورية للسياسيين في الحياة الواقعية، الذين تشغلهم أولوياتهم عن احتياجات شعوبهم.

كوميديا إنسانية ومبالغات ساخرة

عالج المخرج “مايكل مور” ضعف الميزانية بذكاء، فاعتمد على الكوميديا الإنسانية النابعة من الأداء أساسا، ولا سيما في مشاهد المواجهة الحدودية، فالضباط الأمريكيون يحاولون التحريض على صراع، لكن الكنديين يواجهونهم بأدب ثابت، وذلك تباين متعمد بين الإخراج العدواني وردود الفعل السلبية، مما يزيد التأثير الكوميدي.

الملصق الدعائي لفيلم “البيكون الكندي”

أما الموسيقى التصويرية التي ألفها “جون كوريليانو”، فكانت استكمالا لنبرة الفيلم الساخرة بموضوعات وطنية مبالغ فيها، تحاكي أفلام الحرب الأمريكية التقليدية، وعمل الإفراط في استخدام التوزيع الموسيقي الدرامي في المواقف العادية على إظهار كيفية إضفاء وسائل الإعلام للإثارة على الصراع، كما أضافت الإشارات الثقافية الكندية -مثل الموسيقى الشعبية وأناشيد الهوكي- حالة سخرية من الصور النمطية الوطنية.

يعد فيلم “البيكون الكندي” انتقادا حادا وممتعا للمناخ السياسي اليوم، ومع أن “مايكل مور” انتقل للعمل الوثائقي، فإنه احتفظ بروح الناشط السياسي، وقدم نقدا سهلا ومريحا للمشاعر الوطنية المتطرفة التي تحركها وسائل الإعلام، والعسكرة الاقتصادية، وسوء الفهم الثقافي.

فيلم من أيقونات السينما السياسية الساخرة

لم يحقق الفيلم نجاحا كبيرا على مستوى شباك التذاكر عند عرضه، لكنه اكتسب شعبية كبيرة لدى جماهير الفكاهة السياسية والعلاقات بين الولايات المتحدة وكندا، وبقي إنجازا فريدا ومهما في السينما الساخرة، ثم بُعث من جديد في أجواء الاستقطاب الحاد التي أدى إليها شعار “الولاية الـ51″، الذي يرفعه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”.

ويعد دور وسائل الإعلام في تشكيل الإدراك العام من موضوعات الفيلم الرئيسية، ناهيك عن الغضب المصطنع الذي تبديه الحكومة الأمريكية ضد كندا، وتعد أدوات قادمة من العالم الحقيقي لتبرير الصراعات، ويسخر الفيلم من مدى سهولة شحذ الهوية الوطنية، ولا سيما في لحظات عدم الاستقرار الاقتصادي أو السياسي.

مشهد من الفيلم الكوميدي

وقد قلب “مايكل مور” الصور النمطية بذكاء، فصوّر الأمريكيين عدوانيين لا يعرفون شيئا عن جيرانهم، وأما الكنديون فهم مهذبون تهذيبا مفرطا وغير مبالين بالعداء. ويظهر ذلك في سؤال: “هل تتحدث الكندية؟” الذي يسلط الضوء على الافتقار العام إلى الوعي الثقافي، في حين يؤكد رفضُ كندا الانخراط في العداء عبثيةَ السياسات الأمريكية.

ويوجه المخرج سهام نقده إلى اعتماد الولايات المتحدة على الصناعات العسكرية، وهو يرى من خلال فيلمه أن المسؤول إذا لم يجد عدوا واضحا، فسوف يسعى لإيجاد مبررات للإنفاق الدفاعي.


إعلان