“لا سلاسل ولا أسياد”.. صفحة من تاريخ العبودية في المستعمرات الفرنسية

استعمرت فرنسا دولا وممالك في مناطق كثيرة من العالم، وبذلك تُعد ثاني أكبر الإمبراطوريات الاستعمارية بعد بريطانيا، وقد نالت تلك السلطة والقوة والأرض بعد أن أسالت أنهارا من دماء السكان الأصليين والشعوب المغلوبة، ممن وقعوا ضحايا لهوسهم وبحثهم عن السلطة، لنهب خيرات تلك المناطق والبلدان، لإخضاعهم وتدجينهم.
وقد مارست في سبيل ذلك أبشع أنواع القتل والتشريد والتعذيب والعبودية، واقتلعت كثيرين من أوطانهم، وكبّلتهم بالسلاسل، ورمتهم في بطون السفن كقطيع ماشية، ثم ساقتهم لخدمة حقول الأسياد والمناجم، لا سيما الأفارقة السود، الذين استعبدتهم في جزيرة موريشيوس الواقعة وسط المحيط الهندي، وهي منطقة احتلّتها نحو قرن من الزمن (1715-1810) بعد أن تركها الاحتلال الهولندي، ثم لما هُزم “نابليون بونابرت” استولت عليها الإمبراطورية البريطانية.
هذه الأوجاع لم تنعكس في السينما الفرنسية، لأنها محرمات لا ينبغي الاقتراب منها، لكن المخرج “سيمون موتايرو” ذهب بشجاعة صوب تلك المرحلة، وتحديدا لسنة 1759، ونقل قصة قاتمة وحزينة ومفزعة من واقع العبيد الذين خدموا “السادة” الفرنسيين في حقول السكر، تحت وقع التعذيب والتجويع والإعدامات، وهي صفحة واحدة من كتاب وقائع وأحداث وفظائع يصعب حصرها.
ماضي العبودية.. صفحة سوداء تتجاهلها السينما الفرنسية
كثيرة هي قصص العبودية التي حدثت في المستعمرات الفرنسية قرونا من الزمن، لكن السينما الفرنسية لم تتعامل معها بأخلاقية ولا بموضوعية، بل تجاهلتها كأنها لم تكن، على عكس السينما الأمريكية التي أظهرت ماضيها العبودي، وأنتجت مئات الأفلام عنه، ولا تكاد تمر سنة لا تصدر فيها أفلام في هذا السياق، وأما فرنسا فما زالت تتعالى على ماضيها الاستعماري، لا سيما موضوع الاستعباد.
وقد أصبح ذلك موضوعا محرما لا يمكن الاقتراب منه أو كسره مهما حدث، ولا ننفي وجود محاولات محدودة، لا سيما في الأفلام الروائية الطويلة، منها فيلم “نقطة البداية” (Case départ) للمخرجين “ليونيل ستيكيتي”، و”فابريس إيبوي”، و”توماس نجيجول” (2011)، وقد تطرق لموضوع العبودية بطريقة كوميدية.

كما أن هناك تجارب أخرى قليلة، تكاد تعد على أصابع اليد، فلم يكتب لها النجاح والانتشار، بسبب محاصرتها وعدم توزيعها، بمعنى أن الأيادي الخفية مارست عليها الرقابة بطريقة غير مباشرة، فمنها: “عش حرا أو مت” (Live Free or Die) عام 1980، و”السكر المر” (Bitter Sugar) عام 1998 للمخرج الفرنسي “كريستيان لارا”.
ومع أنها أفلام قليلة، فإن الموجود منها تطرق للماضي الاستعماري الفرنسي بشجاعة، وعرّج على مرحلة العبودية التي أرهقت الملايين من الشعوب، لكن التوزيع ومنطلقات الدعاية والإعلام دفنتها دفنا مبكرا، لتكون عبرة لكل من تسول له نفسه بالتطرق لهذه المراحل.
والغريب أن أغلب تلك الأفلام أخرجها أفراد من أصول غير فرنسية، ومن هنا تُطرح أسئلة كثيرة حول المخرجين الفرنسيين الذين تجاهلوا هذا التاريخ الموثّق.
عبد مميز تخذله ابنته المتمرد على الأغلال
في فيلمه الروائي الطويل الأول، ذهب المخرج الفرنسي ذو الأصل البنيني “سيمون موتايرو” صوب موضوع العبودية، وقد عنونه: “لا سلاسل ولا أسياد” (Ni Chaînes Ni Maîtres) الذي أنتج عام 2024.
وقد كتب “موتايرو” سيناريو عمله بنفسه، حتى يعكس ما كان يبحث عنه ويصبو إليه، بإعادة إحياء مواجع السياط والعبودية، تلك التي كانت تنهال على أجساد العبيد، فتترك فيهم آثارا لا تمحى، ليس على أجسامهم فقط، بل حتى على قلوبهم.

وقد جاء هذا المخرج ليحيي تلك الآهات، لا سيما أنه ينتمي لبلد عانى كثيرا من ويلات الاستعمار الفرنسي، ومن مخالب العبودية التي تنغرز عادة في كل إنسان أسود البشرة. يروي الفيلم قصة العبد “ماسمبا” (الممثل إبراهيما مباي) الذي يعمل في حقول السكر عند السيد الفرنسي “يوجين لارسنيت” (الممثل بينوا ماغيميل) مالك الأراضي.
وقد استطاع “ماسبما” تعلم اللغة الفرنسية، فأصبح من العبيد المهمين، وحاول أن يغير اسم ابنته “ماتي” إلى “كوليت” (الممثلة أنا ثياندوم)، وفي نفس الوقت أراد تعليمها الفرنسية لترتقي في عبوديتها، لكنها كانت تريد الهرب من ذلك الجحيم، حتى لا تتبع خطوات والدتها التي توفيت وهي في سفينة نقل العبيد.

وذات يوم قرر “لارسنيت” معاقبة عبده “ماسنبا”، فقرّر تفرقته عن ابنته الشابة “ماتي”، لكنها تغلبت على آسريها وهربت في الأحراش، فأرسل فريق تتبع خلفها للقبض عليها، ثم لحق بها والدها “ماسمبا” حين عرف أنها في خطر، فبدأت رحلة المطاردة والبحث في جزيرة فرنسا (موريشيوس حاليا)، للقبض عليها والقصاص منها، ومن كل عبد يفكر في الهرب والتحرر من أغلال العبودية، وقد حدث هذا حسب الزمن الدرامي في الفيلم سنة 1759.
كائنات خلقها الله يوم خلق الحيوانات
تطرق الفيلم الفرنسي “بلا سلاسل وبلا أسياد” إلى نقاط مهمة، منها مسلّمات كانت سائدة في تلك العصور، وهي أن العبيد أو السود ليسوا بشرا، بل يتساوون في القيمة مع الحيوانات.
ولقد نقل العمل في بعض زواياه هذا الرأي الظالم، عند زيارة حاكم الجزيرة لمزرعة “لارسنيت”، ففي أثناء الطعام سأل العبد “ماسمبنا” عن الفرق بين الرجل الأبيض والأسود، فأجاب بما لقّنوه، ألا وهو أن الله خلق الحيوانات والسود في اليوم الخامس، ثم خلق البيض في اليوم السادس، وهذا دليل على الفرق بينهما.

ثم سأله عن أسباب هرب العبيد، فقال إنه التعب والإرهاق، فعجب الحاكم من رده، لأن العبيد في نظره ونظر البيض أمثاله إنما هم بمنزلة الحيوانات، لهذا فهم لا يتعبون أبدا.
وهكذا يُسقَط كل منطلق إنساني للعبيد بعد الوصول إلى تلك القناعة الكاذبة، ومن هنا تسهل معاملتهم بسوء بلا وازع أخلاقي ولا ضمير، بل إنهم يلقون معاملة أدنى من معاملة الحيوانات، حتى يكرهوا أنفسهم ويحتقروها، ومع الوقت يقتنعون بأنهم كذلك، أي يرضون بمنطق العبودية.
لكن هناك دائما من يرفض هذا المنطلق، مثل “ماتي” الشُجاعة، التي كانت تحرض والدها على الفرار إلى منطقة لا استعباد فيها، أو الموت مثل أمها التي رفضت هذا السلوك غير الإنساني.
الكنيسة.. سيف غليظ في يد سادة العبودية
حمّل المخرج “سيمون موتايرو” عدة جهات مسؤوليةً تاريخية وأخلاقية وإنسانية عن معاناة العبيد، لا سيما الكنيسة التي أسهمت في بقاء العبودية، بل إنها كانت تحرض على ممارستها، وكل هذا لخدمة الملك والسادة.
ولقد وظّف منطلقات عدة خدمت وجهة نظره، منها مثلا مشهد الساحة، عندما قرر السيد معاقبة العبيد الهاربين، وتلا عليهم قانون العقاب، وهو أن العبد الهارب أول مرة يوسم جسده بأداة حديد ساخنة على شكل زهرة زنبق، وفي المحاولة الثانية تُقطع أذناه وأوتاره، وفي الحالة الثالثة يُعدم مباشرة، وهذا ما حدث لمجموعة منهم، وكان يقول هذا وفي يده الكتاب الديني المقدس، كما أنه جمعهم في الساحة بدق الأجراس المعلقة في الصليب الكبير.

وفي مشهد آخر أكثر عبثية، تظهر امرأة شرسة معروفة بقسوتها وقدرتها على مصادرة العبيد والقبض عليهم، تدعى “السيدة فيكتوريا” (الممثلة كاميليا كوتين)، وكانت في الأدغال مع ابن السيد المتعاطف مع العبيد، وفي حوارهما ظهر التزامها بتعاليم المسيحية والكنيسة، والدليل أنها تلت صلاتها قبل الأكل.
ولما سألها ابن السيد عن تناقض تدينها ورحمتها مع قسوتها على العبيد، أخبرته بكل هدوء بأن كل “علماء اللاهوت البارزين اتفقوا على أن السود ليست لديهم روح”، ثم سألته مستنكرة: هل تشكك في الكنيسة الكاثوليكية؟
صناعة الأثاث والملامح والوجوه.. رحلة إلى زمن العبودية
ظهر تأثر المخرج “سيمون موتايرو” بالسينما الأمريكية واضحا، وهذا ليس عيبا أو انتقاصا من قيمته وموهبته مخرجا، بل وجد نفسه مرغما على سلوك هذا المسلك، لأن السينما الفرنسية التي يستند عليها -بحكم تربيته وتعليمه وثقافته- لا مرجعية لها، مع أنها سبقت العالم من الناحية الفنية.
ذهب المخرج صوب السينما الأمريكية، واستعار منها قسوة المشاهد وطريقة معاملة العبيد والهروب والملاحقة وطريقة اللباس، حتى تفكير العبيد، والمعمار الهندسي، الذي اعتمد فيه على شحن مشاعر المتلقي بجملة من الأحاسيس التي تعكسها الحسرة والحزن والتعاطف مع شخصيات العبيد مع الفيلم، وبعدها الانطلاق صوب إصدار الحكم وإدانة العبودية بكل أشكالها.

وتتجسد هذه الإدانة في تبني المنطلقات الإنسانية الصافية، التي لا يفرق فيها بين البشر بألوانهم ولا جنسهم ولا دينهم ولا انتمائهم.
كل هذه المعطيات كانت مقبولة، وقد نجح الفيلم في إيصالها، بعد أن اعتمد على منطلق سينمائي مهم، وهذا المنطلق هو المؤسس الأول للأفلام التاريخية أو القديمة، وهي العمل بجدية على “الماكياج” والأثاث التاريخي.
لهذا فإن آثار التعذيب، والخوف والقلق، وقلة الجوع والنوم، وآثار السياط على ظهر العبيد، والمطاردة، وآلة عصر السكر القديمة، والقناع الحديدي الذي يوضع على رؤوس المعاقبين، وصورة الجنود وبنادقهم، كلها معطيات أوهمت المتلقي بواقعية الفيلم، مما هدم الهوة بين الجمهور والفيلم، وجعله يتعاطف ويتعاطى مع قيمة العمل وجمالياته.

كما اعتمد المخرج في انتقاء ممثليه على وجوه سينمائية وممثلين من دول أفريقيا، ولا سيما السنغال، فأسهم ذلك في إبراز منطلقات القصة، وفي نفس الوقت جعل هؤلاء الممثلين الموجوعين من فرنسا الاستعمارية يعيشون آلام أسلافهم بأثر رجعي، لهذا كان أداؤهم قويا ومقنعا.
وكان للموسيقى التصويرية دور كبير في شحن المشاعر وتأجيجها، وهي من تأليف التونسي أمين بوحافة، ووضع التأثيث “ديفيد بيرسانيتي”، وصمم الأزياء “بيير جان لاروك”.
وثيقة سينمائية أبرزت وجه فرنسا الاستعبادية
فيلم “لا سلاسل ولا أسياد” صرخة في وجه العبودية الظالمة، ووثيقة سينمائية مهمة أبرزت وجه فرنسا الاستعمارية، وعمل سينمائي محترم، جاء ليسهم في رفع الحظر غير المباشر عن هذه المواضيع، التي تتجنبها المدونة السينمائية الفرنسية.
ولم يكن دور المخرج “سيمون موتايرو” في هذا الفيلم مقتصرا على الإخراج والكتابة، بل كان منطلقه سياسيا بالدرجة الأولى، لأنه جاء لكسر قيود التاريخ الأسود، وبعمله هذا يكون قد وضع المخرجين والمنتجين وصنّاع السينما الفرنسية في مواجهة مباشرة مع تاريخهم ومنطلقات فنهم.

شارك الفيلم في عدة مهرجانات سينمائية خارج فرنسا، منها قسم “نافذة على السينما الفرنسية” بمهرجان دوفيل للسينما الأمريكية في دورته الـ50، التي عقدت في سبتمبر/ أيلول 2024.