“ديانة الماء”.. صراع الخرافة والعلم على سواحل قرية عمانية

ظلت السينما العمانية وفيّة لتراثها وهويتها، ولم تتخل أو تنسلخ يوما عن هذه العناصر والمكونات المتجذرة في المجتمع، بل سعت دائما إلى ترسيخ كثير من المظاهر سينمائيا وتوثيقها، مسلطة الضوء على علاقة الإنسان العماني بالبحر والمعتقدات الشعبية المتوارثة.
يتطلب هذا الاهتمام فهما عميقا لخصوصية هذه المجتمعات والمواضيع التي تهتم بها، فتناقشها فكريا، وتطرحها أدبيا وسينمائيا، وهنا يختلف تفاعل الجمهور العماني والخليجي معها، مقارنة بالجماهير العالمية، التي قد تجهل كثيرا من عادات المجتمع العماني وتقاليده الغنية.
سعى المخرج العماني هيثم سليمان في تجربته السينمائية الجديدة، لتقديم صورة جديدة عن البدو، الذين يراهم أشد الناس ارتباطا بالطبيعة والأرض، مقارنة بسكان المدينة، بعيدا عن النظرة النمطية التي تظهرهم أناسا فاقدين للرغبة في تطوير الذات.
في فيلم “ديانة الماء”، يقدم لنا المخرج وكاتب القصة شخصيات استثنائية، منها عيسى، وهو شاب كفيف متبصر بحكمته وإيمانه، حافظ لكتاب الله، وصديقته زهرة الفتاة القوية التي لها منظور خاص للحياة، وتسعى لتجاوز التقاليد المجتمعية، وقد وُلد عيسى وزهرة في يوم واحد، ولكن القدر أخذ أحدهما وأبقى الآخر.
تشكل هذه الشخصيات وأخرى جوهر فيلم “ديانة الماء”، الذي تدور أحداثه في قرية ساحلية بسلطنة عمان، حيث يعيش عيسى الذي يراوده حلم إيجاد أبيه، وتتملكه رغبة قوية في البحث عنه في عرض البحر، لكن والدته تعترض على هذه الفكرة، مع أن كثيرا من الناس يشجعونه عليها، وقليل منهم يقنعه بعدم جدواها من الأساس.
ثنائية البحر والثقافة الشعبية الملهمة
مع أن الفيلم يدعم ويعزز فكرة الإيمان بالحلم لبلوغه، فإنه يكشف أيضا عن مدى تأثير الماء في الثقافة العمانية، فالبحر عادة ما يجمع بين الهدوء والاسترزاق، ولكنه يظهر بغموضه وقوته في “ديانة الماء”، من خلال الحكايات المتداولة، ويحتفظ بأسراره لنفسه، مثلما يحتفظ بالأجساد التي يلتهمها في أوج هيجانه.
في مشهد الفيلم الافتتاحي، يعمد المخرج إلى إثارة التشويق، وجعل الجمهور يتأمل وينتظر ثواني، ويضعهم في تواصل مباشر مع البطل، الذي يظهر أنه كفيف بمجرد تغير وضعية الكاميرا، مع أنه ظهر في بداية المشهد مفتوح العيون كأنها تبصر.
إنها لقطة يراد منها شد انتباه الجمهور، وإشراكه في تفاصيل القصة منذ بدايتها، ثم يظهر لاحقا أن عيسى يرى العالم رؤية مختلفة تماما عن الآخرين، كما يُبرز تطابق لون بشرته مع الباب خلفه مدى ارتباطه العميق ببيئته وانتمائه إليها، وفي ذلك تماهٍ وتماسك مع الجذور والأصول.

يتابع المخرج هيثم سليمان أحاديث الصيادين الجانبية، الذين تشغلهم قضية فتح القبور وإخراج من فيها، ويلمح في مشهد إلى تصادم القناعات والأجيال والرؤى، حين يصطدم عيسى بأحد الشيوخ الذين يقصدون الشاطئ.
وبالمقابل يعرض المخرج فكرة التكامل بين الناس، من خلال شخصية عيسى، الذي يرى العالم بعيون زهرة المقعدة، وتسير هي بقدمي عيسى الذي تتوكأ عليه، فهي تجد فيه السند والدعم، وهو يستلهم منها الأمل والإرشاد.
قرابين الجمارية.. ظلال المعتقدات الشعبية على حياة الناس
تظهر زهرة وعيسى في مكان مرتفع، يريهما محيطهما بوضوح وعمق أكبر، ويسمو بأفكارهما، ثم تأتي اللحظة الحاسمة حين يقفز عيسى، وهي قفزة تعكس تحوله الداخلي، واستعداده لتحقيق الحلم الذي لطالما راوده سنين عددا.
ففي “ديانة الماء” تتداخل قصص كثيرة، لعل قصة الشاب عيسى كانت أبرزها، وما حركه نحو حلمه أكثر، وعزز فيه رحلة البحث هذه، هو رحيل زهرة التي نذرت روحها للجمارية.
تُنسب إلى الجمارية أشياء كثيرة يصعب على البعض تفسيرها، وهي معتقد شعبي منتشر في بعض المناطق العمانية، ويظن الناس أنها كائنات أو قوى ذات تأثير قوي على حياة الناس ومصيرهم، فيقدمون لها نذورا أو تضحيات لضمان حمايتهم وسلامتهم، ومن يمتنع عن ذلك يواجه انعكاسات سلبية، قد تنهي حياته.

موقف أو واقع لم ينتصر له المخرج ولم ينفِه، لأنه موجود في عمان ومتداول في مجتمعات أخرى، وعودة السينما العمانية لطرق مواضيع متعلقة بهذه الخرافات، يدعونا للتساؤل عن مدى اعتقادهم بهذه الطقوس اليوم وتقديسهم لها، فهل ما زالوا يؤمنون بها كما كانوا، أم أن الأمر أصبح متفاوتا بسبب التحولات الاجتماعية والدينية والعلمية؟
مع هذا نرى في فيلم “ديانة الماء” تجسيدا لهذه الطقوس التي يؤديها أتباع الجمارية، سواء كانوا رجالا أو نساء، فهم يلبسون أزياء تقليدية، تتراوح ألوانها بين الأحمر والأبيض للرجال، والأسود للنساء، وينثرون التراب أو الرمال على شاطئ البحر، وهو فعل يرمز للتبرك وتعزيز التواصل الروحي، وربما أيضا لنيل الرضا من القوى التي يؤمنون بها، سواء سكنت البحار أو الصحاري.
هذا المعتقد المتجذر في الثقافة العمانية يحضر بقوة في الأحداث والمراحل التي يمر بها العمل، فحتى زهرة أيقنت بأن الموت قد أدركها، بعدما قُدمت قربانا للجمارية في أحد الأيام.
لقاء مع عجوز مريب يدّعي العلم
بعد أن فقد زهرة، سار عيسى وحيدا في تلك القرية الساحلية، حتى التقى وجالس شيخا كبيرا، كان يعمل في أحد المستشفيات وفُصل منه، وقد اعترف له بأنه يكتم سرا منذ دخوله القرية، فهو ليس بصياد، لكنه يتردد باستمرار على الشاطئ حاملا دلوه الأحمر، ليغسل قطعة قماش بيضاء، محاولا تطهيرها من دمائها، التي تزيلها الأمواج تدريجيا.
يدّعي هذا الشيخ العلم، ويتناول بعض المسائل الوجودية، ويُخضع الموت والحياة لأسئلة فلسفية، تتعارض مع إيمان عيسى العميق، فهذا الشيخ يؤمن أن جميع البشر يأتون من الماء، ويجب أن يعودوا إليه، بحجة أن المياه على كوكب الأرض تمثل 71%.
أما عيسى فيؤمن أن الإنسان خُلق من تراب، وسيعود إليه مرة أخرى، مستشهدا بالآية الكريمة ﴿مِنْهَا خَلَقْنَٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ﴾، وهنا يدرك العجوز أن بصيرة عيسى تتجاوز تلك المعتقدات، ولم يسلّم بها يوما، ولم تتغلب عليه بعد.
جريمة تحت جنح الظلام تغضب الجمارية
في أحد الأيام، يأخذ العجوز (حفار القبور) عيسى إلى أرض لم تحفظها أرجله، وكان قد اعتاد على السير بعيون زهرة، حتى حفظ كل الأماكن التي كانت تقوده إليها، وكان هذا المكان أشبه بمختبر أو غرفة تشريح، يدرس فيها ذلك الشيخ علاقة الجسد بالروح، محاولا إنقاذ الجثث من الأرض التي يزعم أنها تحرقها، ويبحث لها عن خلاص في البحر.

يعترض عيسى على معتقد الشيخ، ويسأله عن الفرق بينه وبين الجمارية، ما دام يؤمن بهذه المسائل، فيرد الشيخ قائلا: هل تقارن العلم بالخرافات؟
لم يغير الجدل شيئا من قناعات الشيخ، ولم يحرك ضميره، بل نبش قبر زهرة في ظلمة الليل، ونقل جثتها إلى مختبره، ليخلصها من جحيم الأرض، ويعيدها صباحا إلى الماء.
أثار ذلك غضب عيسى وأتباع الجمارية، الذين نذروا حياة زهرة ذات يوم، فقرروا قتله أو حرقه بعدما اكتشفوا فعلته، وأنه المسؤول عن سرقة الجثث من القبور، لكنه فرّ إلى البحر، الذي يراه ملاذا أخيرا للإنسان.
تمسك بالأمل واحتمال اقتراب من الحقيقة
يستعيد عيسى ذكرياته مع زهرة، ويقرر دخول البحر بحثا عن والده الذي اختفى منذ سنوات، فيركض بسرعة وإصرار على الشاطئ، حتى يصطدم بعمود خشبي وضعه أحد الصيادين ذات يوم.
إنه حاجز آخر يعكس العقبات التي قد تعترض طريقه، لكنه لا يتراجع، بل يواصل السعي والتقدم نحو البحر الذي قد يأتيه باليقين ويعيد إليه الغائب، ثم يخرج من الماء وهو ينظر إلى يديه، في لحظة تأمل توهمنا بعودة بصره إليه، أو تعبير عن اكتشافه فهما جديدا لحلم راوده منذ سنين، حلم كانت تمنعه عنه والدته، وتشجعه عليه زهرة.
يضيف المخرج هيثم سليمان في المشاهد الأخيرة جماليات فنية، ويزيد التشويق، حين يظهر صيادا على قاربه، يربط الحبل بإحكام ويزيد عقده، ويستخدم مشهدا علويا يظهر فيه البحر في حالة هدوء وقاربين متباعدين، ليقدم رؤية شاملة للمكان، ويشعرنا بالعزلة والتباعد بين الشخصيات والحقائق، بدل الاقتراب من الحقيقة، وهو ما يتوقعه أي مشاهد في نهاية الفيلم، ثم يخرج عيسى من عمق البحر، ويتشبث بالقارب بيديه.

مشهد يدل على تمسك عيسى الشديد بالأمل، برغم عدم تحقيق الهدف، ويعزز رحلة السعي المستمر، ويفند الادعاءات الموحية بوجود قوى معينة ذات قدرة على المنع أو العطاء، وأن بيدها الخير والشر.
ثم تأتي الكاميرا من الخلف لتظهر الصياد، ويأخذ وقتا كافيا للاستدارة، وهو ينظر بعيدا، محاولا معرفة ما يحدث في عرض البحر، مثل أي صياد يترقب ما قد يصادفه في غمرة المياه، وما يحيط به.
إنها مشاهد ولحظات حاسمة في سرد القصة وتتبع نهايتها، فرحلة عيسى لم تأته بالجواب أو الحقيقة، وفيلم “ديانة الماء” إنما جاء ليطرح بعض التساؤلات عن ما تعنيه المياه في نفوس البشر.
حكاية “أعمى الرويس” التي اختمرت أعواما
أبان الفيلم تحكم الفريق الذي اختاره المخرج في الصورة، ويتقدمهم مدير التصوير محمد علي البلوشي، فقد بدا المخرج وطاقمه حريصين على إظهار الهوية العمانية في كل مشهد، سواء ما تعلق بالأزياء والأغاني، أو اللقطات الثابتة التي غلبت على معظم المشاهد، مع توظيف اللقطات العلوية التي كانت تعود كل مرة، لتروي الأحداث من منظور آخر.
وتلك مكاسب تحسب للسينما العمانية، التي كانت تستعين بخبرات هندية وإيرانية لتنفيذ أفلامها، وحاجتها اليوم كبيرة لإنشاء معاهد وأكاديميات متخصصة.
وعلى مستوى الصورة، جعل المخرج هيثم سليمان البيوت بسيطة ومتصدعة، كأنها أماكن لم تعد تتحمل مزيدا من الفقد، ولا تستوعب ذلك الكم الهائل من حكايات الماضي، وفي رصيدها قصص لم ترو بعد، ولم يتجاوزها الزمن، وقد تبعث من جديد.
فجدرانها المهجورة الباردة توحي بحاحة ماسة إلى ترميم عميق أو إعادة تشييد، تماما مثل النفوس التي تسكنها، والتي تحتاج إلى الفرح والأمل والتعافي، بعد كل الحزن الذي سلب روح الحياة ومرحها منها.

كما يلاحظ أن الأزياء العمانية والموسيقى التقليدية والأهازيج تكمل قصة الفيلم، والموضوع الذي يعكس مدى ارتباط الفرد العماني بالبحر والحكايات الشعبية، وبعض الخرافات والغيبيات أيضا.
وقد قال هيثم سليمان مخرج الفيلم إن كل قرية في عمان لها حصتها من القصص الشعبية المتوارثة، وإن للحكومة مساعيَ ومحاولات جادة لتوثيق هذا التراث المحكي، ولم يستبعد فكرة إعداد ملف خاص لمنظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (اليونسكو)، لتصنيفه تراثا إنسانيا غير مادي.
وقد دفعت بعض الهواجس والتساؤلات الشخصية هيثم سليمان إلى كتابة الفيلم القصير “أعمى الرويس” عام 2015، وقدم نصه لإحدى المسابقات الوطنية، فتُوج بالجائزة الأولى، واستغرق تحويل القصة إلى سيناريو ثلاث سنوات كاملة.
وبعد كتابة السيناريو والحوار وتطويره، أصبح فيلم “ديانة الماء” جاهزا للعرض في عام 2023، ونفذ بدعم من صندوق الإنتاج التابع للجمعية العمانية للسينما والمسرح، وحظي بجوائز مهمة، منها جائزة أحسن سيناريو بمهرجان السعيدية بالمغرب.
وقد خرج من مهرجان مسقط السينمائي الدولي في دورته الـ11 بثلاث جوائز؛ جائزة أحسن فيلم، وجائزتي أفضل ممثل وممثلة، لبطليه حمزة الهاشمي ودليلة الدرعية، كما نال جائزة لجنة التحكيم بالمهرجان السينمائي للجامعة الأمريكية بالكويت.
نهضة السينما.. تراكم يؤسس غد الصناعة الفنية
لطالما كان للشعر والأدب مكانة راسخة بين العمانيين، وانفتاحهم على السينما والمسرح والفنون الأدائية الحديثة بات لافتا في السنوات الماضية، كما أن تأسيس مهرجان مسقط السينمائي الدولي الذي استقطب أسماء وأفلاما مهمة، دفع سينمائيي عمان للتفكير في دعم صناع الأفلام المحليين، وإنجاز أفلام تعكس أفكارهم.

ومن هنا ولد مهرجان مسقط للأفلام الوثائقية والقصيرة، الذي مهد الطريق لإنتاج أفلام عمانية، بدعم من الجمعية العمانية للسينما، ثم عُممت الفكرة على مؤسسات أخرى، بدأت تتبنى أفكار الشباب العماني في شكل مهرجانات وورشات ومسابقات وإنتاجات أيضا.
وبدأت المهرجانات تتبع بعضها، فمنها مهرجان السينما والصحراء، ومهرجان الظاهرة للأفلام الوثائقية، ومهرجان المرأة والطفل، فعاليات يعمل السينمائيون على استمرارها وخلق جمهور دائم لها، جمهور لا يراد لثقافته السينمائية أن تنقضي بمجرد انقضاء عمر هذه المهرجانات وأخرى.
بناء على جسور التميز وحصد الجوائز
يقر كثير من السينمائيين بدور الجمعية العمانية للسينما، التي أخذت زمام المبادرة منذ تأسيسها سنة 2002، ووفرت بيئة ملهمة ومساندة لصناع الأفلام، فلم تكتفِ بالدعم والإنتاج ورعاية المسابقات فحسب، بل حرصت على تنظيم قوافل سينمائية وملتقيات خارج العاصمة مسقط، وعملت على تحسين تقبل الجمهور العماني للسينما، بما يتماشى مع الطبيعة المحافظة للمجتمع، الذي لا يتجاوز تعداد سكانه 6 ملايين نسمة.
هذا ويتطلع السينمائيون إلى مزيد من المكاسب بعد كل ما تحقق لهم، والأشواط المهمة التي قطعوها، وتطوير القطاع يعني التحول من الاستهلاك إلى استثمار متكامل، تدعمه مؤسسات الدولة، ويسنده الجمهور.

كما أن تميز الأفلام العمانية وتتويجها في مهرجانات مهمة زاد انتشارها إقليميا ودوليا، وقد أتاحت هذه الإنجازات للجماهير تعميق فهم ثقافة المجتمع العماني وتقاليده، مما شكل دعما قويا لصناع السينما من الأجيال كافة، الشباب والمؤسسين، أمثال الدكتور خالد الزدجالي، وهو رائد السينما العمانية، وصانع أول فيلم سينمائي طويل في تاريخها، ألا وهو فيلم “البوم” (2006).
جدير بالذكر أن د. خالد الزدجالي تخرج من معهد السينما بالقاهرة عام 1989، وبدأ مسيرته الفنية ممثلا، ثم حول تركيزه إلى الإخراج التلفزيوني والسينمائي، وله بصمات واضحة في تنظيم كثير من المهرجانات السينمائية والمبادرات المبدعة.