“زهرة الصحراء”.. جريمة فرنسا النووية في الجزائر التي فاقت قنبلة هيروشيما 5 أضعاف

 

في اجتماعه السنوي الماضي مع سفراء بلاده في قصر الإليزيه، قال الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إن القادة الأفارقة نسوا أن يشكروا فرنسا، على الدعم الذي قدمته لهم لمكافحة الإرهاب.

يأتي هذا التصريح في ظل توتر العلاقات الفرنسية الأفريقية على عدة أصعدة، في وقت لا تزال شعوب وحكومات القارة تطالب وتنتظر اعتذار باريس عن تاريخها الاستعماري في بعض دول المنطقة، وذلك أمر يرفضه “ماكرون” منذ سنوات، بحجة أن طلب الصفح لن يغير شيئا، ولن يحل المشكلة، فهو يؤمن بقضية الاعتراف، لكنه لا يُقدم على طلب الاعتذار، وقد ردت دول أفريقية على تصريحاته بعبارة “لولا تضحياتنا لما تحررتم من الاحتلال النازي”.

 

من يستمع لتصريح “ماكرون” جاهلا تاريخ فرنسا الإجرامي في أفريقيا، يظن أنها من دعاة السلام ورعاته في العالم، ولكن الواقع يكشف أنها لم تتخل بعد عن عباءة المستعمر، فلا تزال تتدخل في شؤون الدول الأفريقية، وتعاملها وكأنها وصي شرعي، وكأنها محميتها، في حين تتزايد المطالب بضرورة تحمل فرنسا مسؤولياتها التاريخية والأخلاقية والقانونية تجاه الجزائر مثلا، وهو أمر لم تفعله أمام مستعمراتها السابقة من دول القارة أيضا.

إصرار على الإنكار وعدم تحمل المسؤولية

يعد ملف التفجيرات والتجارب النووية الفرنسية في الجزائر من الملفات الأكثر حساسية التي لا تزال عالقة، ومطلبا شعبيا ورسميا ثابتا للدولة الجزائرية، فهي جريمة إنسانية مكتملة الأركان تسميها الجزائر “تفجيرات نووية”، وتصر فرنسا على وصفها بأنها “مجرد” تجارب نووية علمية.

وهي في نظر القانون الدولي تعد انتهاكا خطيرا للاتفاقيات والأعراف والمواثيق الدولية، وإبادة جماعية تستوجب عقابا وتعويضا عن الضرر، وبمفهوم الإنسانية هي جريمة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن محوها باعتذار ولا اعتراف ولا تعويض.

الممثل سليمان بن واري في دور أحد المساجين الذين رُبطوا بأعمدة أمام موقع التفجير

لا تريد فرنسا الاعتذار عن جرائمها النووية التي حلت بالإنسان، وأثرت على البيئة وكل الكائنات الحية، وترفض تعويض الجزائريين المتضررين من هذه التفجيرات التي امتدت لأكثر من منطقة، ولم تبادر أيضا بتطهير تلك المواقع الملوثة، وما زالت ترفض تسليم الجزائر الخرائط التي تسمح بتحديد منطقة دفن النفايات الملوثة والمشعة أو الكيميائية غير المكتشفة، إلى غاية يومنا هذا.

إنها ملفات أو خرائط موجودة إلى اليوم في الأرشيف العسكري الفرنسي، وعليها عبارة “سري للغاية”، وجدير بالذكر أن السكان المحليين لا يزالون يعانون من آثار تلك التجارب والتفجيرات، ففرنسا منذ غادرت تلك المواقع سنة 1966، أخذت معها كل الإحصائيات والمعلومات الدقيقة والمهمة، التي يمكن أن تقلص حجم الكارثة.

الطفل عباس وهو يكتب رسالة لأبيه المجاهد الشهيد

تعمل الجزائر على تنظيف تلك الأماكن الملوثة بالإشعاعات، فوراء هذا الملف حقائق كثيرة، يمكن أن تتخذ دليلا لمحاسبة المستعمر على كل الأفعال التي ارتكبها، وسيظل أثرها قائما إلى أجل غير معلوم.

لم يحقق أي رئيس فرنسي تقدما في هذا الملف وملفات أخرى، وخان “ماكرون” وعده الذي قطعه للجزائر منذ ترشحه لولاية أولى، مما يعني رفضه الاعتذار والاعتراف والتعويض، وكل هذه المسائل المتراكمة تجعل العلاقات الجزائرية الفرنسية أكثر تعقيدا.

الممثل سليمان بن واري في دور سجين سيصيبه أثر الإشعاع النووي

تثمن بعض المنظمات إصرار الجزائر على هذه المطالب الشرعية، فقد طالبت منذ سنوات الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية السلطات الفرنسية بتزويد الجزائر بقائمة الأماكن، التي دفنت فيها تلك النفايات، وتنظيف المواقع التي أجرت فيها التجارب عاجلا، فهي مواقع لا تزال تحتفظ لليوم بالانبعاثات السامة والمواد الملوثة، التي تركت ودفنت عمدا هناك، وهي مليئة بالنشاط الإشعاعي الضار، حسب علماء الفيزياء النووية.

جرائم وأكاذيب حول حلم القنبلة الذرية

أرادت فرنسا أن تظهر للعالم قوتها وقدرتها على أن تصبح رابع قوة نووية في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا.

حظي ذلك بمباركة ومتابعة شخصية من الجنرال “شارل ديغول”، فبعد تأسيس محافظة الطاقة النووية الفرنسية في أكتوبر/ تشرين الأول 1945، شُرع في إعداد الدراسات العلمية، وجمع الإمكانيات التقنية لصناعة القنبلة النووية، وتلا ذلك إنشاء المركز الصحراوي للتجارب العسكرية سنة 1957، على بعد 40 كلم من بلدة رقان الجزائرية.

اختارت السلطات الفرنسية منطقة حمودية، التي تبعد عن رقان نحو 50 كيلومتر، واتخذت مساحة تقدر بـ108 ألف كيلومتر من صحراء الجزائر -وكانت يومئذ مستعمرة- لتنفيذ تجاربها النووية، وبررت انتقاء هذا الموقع لبعده عن السكان، وخلوه من كل الكائنات التي يمكن أن تتضرر، في حال فشل تجاربها تلك.

تنو خيلولي في دور مباركة أرملة شهيد

 استمر التحضير لهذه التفجيرات بسرية سنوات، حيث أتت على الأخضر واليابس، ولم يُخبر السكان بما يُحضر له، أو يحصنوا بما يضمن سلامتهم.

ففي صباح 13 فبراير/ شباط 1960، وفي تمام الساعة السابعة وأربع دقائق وعشرين ثانية، فجّرت فرنسا أول قنبلة ذرية تحت اسم “اليربوع الأزرق”، بقوة بلغت 70 كيلو طنا، وفاقت شدتها خمس أضعاف قوة القنبلة التي ألقتها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما باليابان، وامتد تأثيرها وغبارها النووي إلى عواصم أفريقية وأوروبية، ووصل صداها إلى الجزائر العاصمة بعد 8 أيام، وما زالت أضرارها قائمة إلى يومنا هذا.

لحظة إدراك حقيقة استشهاد والده

خرجت السلطات الفرنسية يومئذ لتدعي امتلاكها القنبلة النووية، وتهلل بنجاح تجاربها، وتفتخر بها على أنها منجز القرن، وهي ادعاءات دحضها الخبراء وعلماء الفيزياء والدراسات الجيوفيزيائية، وكذبتها الانعكاسات والتأثيرات السلبية على السكان، وعلى جنودها أيضا، بسبب ما خلفته تلك التفجيرات والتجارب النووية.

وقد صرحت فرنسا أن عدد هذه التجارب لا يتجاوز 17 قنبلة نووية، لكن تؤكد الدراسات أنها 57 تجربة نووية، موزعة على منطقة حمودية ورقان بولاية أدرار، وعين إيكر بولاية تمنراست، وتنوعت بين تفجيرات باطنية وأخرى سرية وجوية وتكميلية.

كل هذا ترفض فرنسا الاعتذار عنه، وتعويض ضحاياها في الجزائر، مع العلم أن الإشعاع الصادر من النفايات النووية، بسبب المواد التي تحتويها -مثل البلوتونيوم الخطير- لن يزول إلا بعد أكثر من 24,500 سنة.

استغلال للسجناء وخفايا أخرى غير معلنة

لا تزال الشكوك تحوم حول الأرقام التي قدمتها فرنسا بشأن عدد العمليات والضحايا، وحقائق أخرى تتخذ صفة السرية، ومع ذلك فإن الفشل هو السمة الأكثر وضوحا في الشهادات المتعلقة بتجاربها التي استمرت 6 سنوات كاملة.

فقد قال مدير المحافظة الفرنسية للطاقة الذرية سابقا “إيف روكاد” في مذكراته: كل الإجراءات التي كنا نأمل تطبيقها في اللحظة الصفر، فيما يتعلق بقنبلة 13 فبراير/ شباط 1960 المسماة بـ”اليربوع الأزرق” باءت بالفشل، فقد نتجت عن التجربة الأولى هذه سحابة مشحونة بعناصر مشعة، وصلت إلى نيامي (عاصمة النيجر)، وكان نشاطها الإشعاعي أكثر بـ100 ألف مرة من معدلها، وسُجل تساقط أمطار سوداء في 16 فبراير/ شباط على جنوب البرتغال، وهذه الأمطار كانت تحمل نشاطا إشعاعيا أكبر بـ29 مرة من معدلها.

عبد الحليم زريبيع في دور الجد مولود

وأكد عدد من المسؤولين أن القياسات التي وقعت في نقطة الصفر وحول قنبلة “اليربوع الأزرق” قد فشلت، بسبب ضعف خبرة القائمين عليها، مع أنها أعد لها جيدا.

كانت حصيلة هذه القياسات مؤسفة جدا، وشهادة المجندين الفرنسيين بعد مرور عشرات السنين على الجريمة، تؤكد أيضا أن تطبيقات الانفجار السلمية لم تكن مضبوطة ولا دقيقة، فكل الاعترافات والأدلة والمخلفات تؤكد عدم اهتمام الطرف الفرنسي بالأضرار التي ألحقتها الإشعاعات المنبعثة بسكان المنطقة، وتكرار التجارب والتفجيرات خير دليل على ذلك.

يفوق عدد الجزائريين الذين عُرّضوا للخطر المباشر، واستخدمت أجسادهم تجارب في عملية اليربوع الأزرق 3 آلاف إنسان، مع 150 سجينا اقتيدوا من سجن سيدي بلعباس (غرب الجزائر)، ورُبطوا بأعمدة أمام موقع التفجير، لدراسة سلوكهم اتجاه الإشعاعات النووية.

النفايات والمخلفات النووية في مواقع التفجيرات

كان ذلك انتهاكا صريحا لحقوق الإنسان، واستغلالهم في تفجيرات شديدة الخطورة تنظر إليها فرنسا نظرة التجريب والمنجز، هو خرق آخر للقوانين والمواثيق الدولية، التي تجرم وتحرم التجريب على الإنسان، فمن خوّل لهم إخراج المساجين والزج بهم في هذه الجريمة في المنطقة الصفر؟

إنها جريمة أخرى تضاف لسجل فرنسا الاستعماري، فأطماعها أعمت بصيرتها، ودفعتها للتضحية بأبنائها من العسكر والمدنيين الذين أبقتهم في المنطقة، وتتحاشى دوما الحديث عنهم، فأول قنبلة ذرية سخّر لها أكثر من 6500 مهندس وجندي وباحث فرنسي، معهم 3500 من العمال الجزائريين.

جنود فرنسيون أصبح فخرهم مأساة

يفخر أولئك الفرنسيون الذين كانوا بالصحراء الجزائرية التي شهدت تلك التفجيرات بين 1960-1966، لأنهم يقدمون تضحيات وخدمات جليلة لبلادهم ولمجدها، ولكنهم اليوم يحمّلون “شارل ديغول” مسؤولية الأضرار التي لحقت بهم، وتهدد نسلهم وتفتك بصحتهم، فقد أورثتهم تلك الإشعاعات أمراضا خطيرة ونادرة وانعكاسات كبيرة، كما أن بعضهم يقر بتخلي فرنسا عنهم، بل يتهمونها بأنها جعلتهم فئران تجارب، ولم تهتم بسلامتهم ولا بتعويضهم.

وقد تحقق لهم التعويض بعد سنوات من النضال، بسعي ومساعدة من جمعية قدماء المحاربين المشاركين في التجارب النووية، فتوّجت مطالبهم بالقانون الفرنسي لتعويض ضحايا التفجيرات النووية الفرنسية، الصادر عام 2010، ولكنه تجاهل الجزائريين المتضررين من تفجيراتها النووية.

عادة ما تمنع التجارب والمحاولات الفاشلة أصحابها من تكرارها، ومع ذلك لم يكن الفشل كافيا لمنع فرنسا من القيام بالمزيد من التجارب والتفجيرات الشديدة الخطورة حتى عام 1966، أي بعد نيل الجزائر استقلالها في 5 يوليو/ تموز 1962.

مخرج فيلم زهرة الصحراء أسامة بن حسين

ولعل السؤال الأبرز الذي ظل يراود الجميع هو سبب استمرار فرنسا في تجاربها وتفجيراتها حتى بعد نيل الجزائر لاستقلالها، ويرد جموع المؤرخين والباحثين بأن بندا في اتفاقيات “إيفيان” سمح لفرنسا بمزاولة نشاطها، تحت مسمى “تجارب علمية” لا تجارب نووية، وهنا يؤكد المختصون أن فرنسا ادعت “وهي كاذبة” بأن ما تفعل لا يتعدى حدود “تجارب علمية باطنية”.

تجارب تلاحق أضرارها أجيال المواليد حتى اليوم

كانت عملية “اليربوع الأزرق” (13 فبراير/ شباط 1960) أول قنبلة ذرية ضمن 57 تجربة، نفذت منها 17 قنبلة نووية فوق الأرض وفي باطنها، وأتبعتها فرنسا بعمليات أخرى، منها:

  • اليربوع الأبيض (1 أبريل/ نيسان 1960).
  • اليربوع الأحمر (27 ديسمبر/ تشرين الأول 1960).
  • اليربوع الأخضر (25 أبريل/نيسان 1961).
  • أغات (07 نوفمبر/ تشرين الثاني 1961).
  • زمرد مصدي (01 مايو/أيار 1962).
  • زمرد (18 مارس/ آذار 1963).
  • جهز (30 مارس/ آذار 1963).
  • الياقوت الأحمر (20 أكتوبر/ تشرين الأول 1963).
  • عين الهر (14 فبراير/ شباط 1964).
  • الياقوت الأصفر (15 يونيو/ حزيران 1964).
  • الفيروز (28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1964).
  • الياقوت الأزرق (27 فبراير/ شباط 1965).
  • يشب (30 مايو/ أيار 1965).
  • قرند (01 أكتوبر/ تشرين الأول 1965).
  • الحجر الكهربائي (01 ديسمبر/ كانون الأول 1965).
  • بجادي (16 فبراير/ شباط 1966).

كان انفجار “بيريل” أو “زمرد مصدي” الذي حضره عدد من الشخصيات التقنية والرسمية الفرنسية الأخطر والأقوى، فقد قال العلماء والخبراء إن انفجارا ضخما حدث في النفق، أدى إلى خروج حمم ومعادن منصهرة فوقعت على سطح الأرض، وبسرعة تشكلت سحابة على بعد 2600 متر مربع، وأمام ذلك مرت السحابة فوق مركز القيادة وقاعدة عين إيكر النووية، مما يدل على قوة التفجير وخطورته.

لقطة البداية، والممثل الراحل عبد الحليم زريبيع

ومن الأخطاء التي سجلت في الواقعة نسيان 9 أفراد في عزلة المكان بمنطقة التلوث، وقد أصيب هؤلاء بتسرب الإشعاع النووي، وأفاد الفحص الطبي فيما بعد أن الجرعات الإشعاعية قد تطورت داخل أجسامهم.

في ولاية رقان التي ارتبط اسمها في ذاكرة الجزائريين بالتجارب النووية الخطيرة، لا تزال الأمهات يلدن لليوم أبناء مصابين بعاهات وتشوهات، وغالبا ما تجد في الأسرة الواحدة أكثر من مصاب بأمراض مختلفة وفتاكة ومتفاوتة الخطورة، ناهيك عن ارتفاع نسب العقم والإجهاض والعمى، وأمراض أخرى نادرة لم يكن لها وجود في المجتمع قبل تلك التفجيرات، مما يؤكد أن ما تضمنته دراسة بريطانية نشرت سابقا أقرب للحقيقة.

تذكر الدراسة أن التأثير الجيني على الإنسان يشمل أكثر من 22 جيلا، فحتى الرمال التي تزحف من مناطق الانفجار إلى البلدات المجاورة بسبب الرياح وعوامل طبيعية أخرى -لا سيما في فبراير/شباط- تحمل معها سنويا ذلك التلوث الإشعاعي، مما يؤثر سلبا على صحة ساكنة المنطقة، وهذا الخطر يتجاوز حدود الجزائر إلى دول أخرى.

“زهرة الصحراء”.. أول فيلم روائي عن القنبلة الذرية برقان

أنجزت عدة وثائقيات وأعمال مصورة، تناولت التفجيرات النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، لا سيما منطقة رقان، لكن فيلم “زهرة الصحراء” للمخرج أسامة بن حسين يعد أول فيلم سينمائي روائي يتطرق إلى هذه الجريمة الإنسانية، التي خلفت كوارث بيئية وصحية لا يمكن عدّها، بدأت بتجارب وانتهت بتفجيرات ومخلفات لم يشهدها العالم من قبل، وخلفت أكثر من 42 ألف ضحية بين 1960-1966.

وبرغم الجهود المبذولة لتوثيق هذه الجرائم -التي تتجنب فرنسا الخوض فيها إلى يومنا هذا، وتتحاشى ذكرها ومواجهتها- تبقى هذه الحقيقة التاريخية أكبر من أن يحتويها أي فيلم أو وثائقي، ففي كل بيت وموقع ومع كل إنسان شهادة تروي قصة إنسانية، تتعلق بهذه المجازر التي ارتكبتها فرنسا بمسؤوليها وجنودها في حق الجزائريين وأرضهم.

الطفل عباس وكلبته زينة

فما قدمه أسامة بن حسين هو جزء بسيط من إرث أثقل الذاكرة الجماعية، لهذا بدأ في سرد الواقعة وتفاصيل الحياة من خلال الـ48 ساعة الأخيرة، التي سبقت تنفيذ عملية “اليربوع الأزرق”، والتي ستظل جريمة تروى للأجيال، لا تمحى من الذاكرة ولا يتجاوزها الزمن.

يرصد الفيلم (26 دقيقة) تفاصيل يوميات سكان مدينة رقان، من خلال عائلة تتكون من الجد مولود، والأم مباركة، وابنها عباس، الذي يترقب عودة أبيه، ينتظره بلا ملل، ويراسله باستمرار، على أمل أن يتلقى جوابا من المارة على بلدته.

وفي يوم من الأيام يجد صدفة صندوقا صغيرا مخبأ في بيت جده، يتضمن صورا ووثائق لوالده المجاهد، عندها يدرك أن أباه الذي ينتظر عودته قد أصبح شهيدا. في بداية الأمر يواجه والدته بالحقيقة ويتهمها بالكذب، لكنه يحتفظ في داخله ببعض الأمل والفرضيات، حول إمكانية أن يكون والده حيا.

“لو كان أبي هنا لما خاف من فرنسا”

تتداخل رحلة عباس بين انتظاره لوالده وبحثه المتواصل عن كلبته زينة، التي كانت تؤنس وحدته، فيخرج مرات عدة للبحث عنها، بعدما ركبت بالخطأ صندوق شاحنة الجنود الفرنسيين، وكانت تقل أحد السجناء الذين ستُجرى عليهم أولى التجارب النووية برقان، وبرغم كل محاولاته فإنه لم يجد لها أثرا، فيُشعر جده بالتقصير بقوله: لو كان أبي هنا لما خاف من فرنسا، ولأعاد إلي زينة.

جنود فرنسيون بملابس غير واقية من الاشعاعات الخطيرة

يرغب الجد في نقل عائلته من رقان إلى تيميمون فور انتهاء حظر التجوال، ولا يمكن تفسير ملامحه المتعبة المثقلة بالهموم بأنها خوف من العدو، بل هي مخاوف وأسرار ظل يحتفظ بها، بدأت ترهقه وتثقل كاهله حين علم عباس باستشهاد أبيه، لكن علم فرنسا أن زوج ابنته مجاهد أكثر ما كان يخشاه، ولهذا أحرق كل الوثائق والأدلة التي تثبت ذلك، في إشارة إلى الملاحقات ومضايقات قوات المحتل لعائلات المناضلين.

وهنا يجب الإشادة بالممثل الراحل عبد الحليم زريبيع، الذي استطاع باحترافية تأدية الشخصية بمخاوفها، ونقل الصراع النفسي الذي كان يعيشه.

وفي صباح 13 فبراير/ شباط 1960، لم يكن أمام الأم مباركة -وهي في أشهر حملها الأخيرة- خيار آخر غير الخروج للبحث عن ابنها عباس، الذي راح يبحث في قلب الصحراء عن كلبته زينة، وبالتزامن مع سعيها وقع انفجار عنيف، هز الأرض وسبب هلعا كبيرا للسكان.

عباس يركض حلف كلبته التي ركبت سيارة الجيش

كان الانفجار أشبه بزلزال قوي ومدمر، فاحتمت مباركة واختبأت داخل شاحنة قديمة، وحاولت استيعاب الكابوس الذي كانت تعيشه أو النجاة منه، ولكن وسط هذا الفزع جاءها المخاض، فصرخت بصوت مدوّ كأي امرأة تضع حملها، لكن صوت جنينها لم يسمع أبدا، وحينها توقفت الحياة، وتحول الترقب إلى حزن وصدمة.

يبرز المشهد قسوة الظرف والوضع غير الإنساني الذي عومل به سكان القرية والمدينة، ولم يفرق فيه المحتل بين حامل أو طفل، ولا عجوز أو مريض.

جزائريون في قلب الحدث وفرنسيون بلا أقنعة

استحضر فيلم “زهرة الصحراء” مواقف ووقائع حقيقية، سردها من عايشوا التفجيرات النووية الأولى بمدينة رقان. ومنها قصة المساجين الذين جُلبوا من سجن سيدي بلعباس، وأخضعوا للتجارب على بعد أمتار من النقطة صفر، لدراسة تأثير الأشعة النووية عليهم، وقد أظهرت بعض المشاهد هذه الجزئية كما وردت في الشهادات وكتب التاريخ، وهي حادثة معروفة جدا.

وتكشف بعض المشاهد قسوة المعاملة، التي كان يخص بها الجنود الفرنسيون المجاهدين والسجناء، واستفزازهم المستمر لهم، ففي أحد المشاهد يخاطب العريف الفرنسي (الممثل إيدير بن عيبوش) أحد المساجين قائلا: لا ينقص سوى عائلتك لحضور العرض ومشاهدته والتصفيق على النجم.

فرد عليه السجين الجزائري (الممثل سليمان بن واري) بعبارة تحمل دلالات كثيرة: أنا على الأقل أعرف أبي.

يحدث هذا قبل إخضاع المساجين الجزائريين لذلك الخطر والموت غير الرحيم بساعات قليلة.

موقع عين إيكر الذي شملته تلك التفجيرات النووية

وكما هو مدون في شهادات الجنود والمدنيين الفرنسيين التي أصبحت فيما بعد اتهامات مباشرة للرئيس “شارل ديغول” ووزرائه، أظهر أسامة بن حسين الأقنعة والألبسة التي وزعتها فرنسا على جنودها، ولم تحمهم من تلك الأشعة الخطيرة، ولم تكن آمنة لهم قط.

كما أن بعض الجنود قابلوا ذلك الإشعاع بلباسهم العسكري العادي بلا أقنعة، وفي ذلك تأكيد على أن فرنسا لم تكن تهتم بسلامة جنودها، الذين أرغموا على دخول معركة لم تدرس جيدا بما يكفي.

وقائع ولحظات توقف عندها المخرج وتعمد عرضها، مع تركيز على ملامح العريف الفرنسي، الذي أدرك بأن سلطات بلاده ضحت بأبنائها، وستقدمهم بعد دقائق قليلة فئران تجارب في عملية “اليربوع الأزرق”، التي انتظرت أن تدخل بها التاريخ.

ضوء الانفجار الذي أظلمت المنطقة بعده

لا صوت يعلو في “زهرة الصحراء” على صوت الأذان والناس والطبيعة بكل مخلوقاتها، باستثناء مشاهد البداية والنهاية، وبينما يتهيأ الفيلم لاستعراض حياة سكان رقان، والدخول إلى إحدى قراها قبل التفجيرات بـ48 ساعة، اختار المخرج أسامة بن حسين موسيقى مفعمة بالحيوية والأمل مدخلا، مستعينا بأغنية “تينيري” لفرقة “تيكوباوين” الشهيرة، وتعني “الصحراء”.

مطلع الأغنية يقول:

ساكن في الصحراء بلا ماء، ولا نبات
لمَ لا نقف متحدين معا
ونخرج للشمس ولا نبقى في الظلال

طلاب الكتاتيب، تفاصيل يراعيها الفيلم

هذا المشهد مع إيقاع الموسيقى يجذب الجمهور إلى عمق الصحراء، ويحيلهم إلى قصص أناس لا تتعارض مع الحياة مقاومتهم للظلم والطغيان، ولا تنفي تمسكهم بالأمل.

فمدينة رقان وضواحيها لم تكن على الهامش، بل كانت في قلب ثورة التحرير، فقد أسهم أهلها في كتابة تاريخ البلد والمنطقة، وتحملوا ما تحملته ولايات الجزائر كافة من تقتيل وتضييق وتهجير وتعذيب واستغلال للخيرات والممتلكات، وربما أكثر.

حالة الترقب التي تسبق الكارثة، يكسرها ضوء الانفجار، الذي يُفقد البصر ويُؤجل الحياة في رقان وضواحيها، ومع بلوغ القصة والفيلم نهايتهما، يسود الصمت ويطغى الحزن بشكل يوحي بأن القادم أسوأ، وأن الكارثة أعظم على الإنسانية، انتقال في السرد تطلّب دعامة موسيقية قوية، تعبر عن مصير الشخصيات، وتدعم المشاهد المأساوية.

كان الاعتماد هنا على أوتار العود، لتعزيز مشاعر الحزن والفقد والألم، واستطاعت الموسيقى التصويرية أن تكمل المشهد، وأن تنقل تلك المعاناة بصريا ووجدانيا.

الطفل عباس في الكتاب

فيلم “زهرة الصحراء” هو العمل الثاني الذي يتعاون فيه أسامة بن حسين كاتبا مع الموسيقي محمد يونس قماط، والفنان سفيان زيقم على آلة العود بعد مسلسل “عين الجنة”.

يؤكد سكان رقان ومناطق أخرى شهدت التفجيرات -التي يفوق عددها 17 تفجيرا- أن منسوب المياه تراجع، وأن أنواعا كثيرة من الحيوانات قد انقرضت، حتى أن بعض النباتات لم يعد لها وجود، والأشجار لم تعد تثمر كما كانت.

تفاصيل كان المخرج وكاتب السيناريو حريصا جدا عليها، فحضور بعض الحيوانات كان طاغيا في أكثر من مشهد، ناهيك عن اهتمامه بجزئيات لا تقل أهمية عما ذكر، سواء ما تعلق بمظاهر الحياة في المنطقة، مثل الكتاتيب القرآنية واختيار الشيخ الفقيه والطلاب تلاوة سورة الزلزلة، أو لباس أهل الجنوب الجزائري، وظهورهم على أنهم أهل علم ودين.

تشبه بعض الأفلام أصحابها

في أول تجربة إخراجية له، حاول أسامة بن حسين تنويع اللقطات، فكان يتنقل بين اللقطات الواسعة التي تُبرز بيئة القصة والأحداث، مع تركيز أكبر على الشخصيات وعلاقتها بمحيطها، لا سيما الطفل عباس، واللقطات القريبة التي تقترب من تعابير الشخصيات وملامحها في لحظات الفرح والتوتر والحزن والخيبة والصمود، محاولا ترجمة حالتهم النفسية بدقة، كما أن زوايا التصوير مكنته من تقديم كل شخصية حسب أهميتها والموقف الذي كانت تمر به.

وعلى مستوى الصورة، استطاع مدير التصوير محمد سعدي نقل تفاصيل مهمة عن البيئة الصحراوية، وخصوصيات المجتمع والأزياء والبيوت التقليدية، التي تجمع بين البساطة والأصالة، واستحوذت لقطاته على الجمال الطبيعي للصحراء واتساعها وامتداد رمالها، وضيق ممرات القرية النابضة بالحياة وروح التعاون، مما أضاف عمقا بصريا للفيلم، وأثرى العمل إثراء كبيرا.

صورة للمساجين الحقيقيين الذين ربطتهم فرنسا بالقرب من موقع التفجير النووي

تشبه بعض الأفلام أصحابها، كلام ينطبق على أسامة بن حسين، ففيلمه “زهرة الصحراء” يقترب من البساطة التي يفضل أن يقدم بها أفكاره دوما. بساطة طرح مقترنة بقوة القصة الحقيقية وحسن اختياره للممثلين، الذين كان أداؤهم قويا وصادقا، وأقرب للواقعة التي تشبعت بها أجيال، ولا تزال تتأثر بهول الكارثة.

أداء الممثلين.. ظلال الانتماء على ملامح الوجوه

كان أداء الممثل الراحل عبد الحليم زريبيع في دور الجد مولود، والممثلة “تنو خيلولي” في دور الأم مباركة، يوحي بأنهما كانا مرتاحين في أدوارهما، فانتماؤهما للمكان، واقترابهما من اللهجة المحلية، وانسجامهما وجدانيا مع التفاصيل، عزّز صدقهما، وجعل أداءهما أقرب للواقعية التي تطلبتها القصة والفيلم عموما.

أما الطفل عباس (الممثل محمد بن شرقي) فقد كان المفاجأة الجميلة التي قدمها أسامة بن حسين، وجعل الفيلم يرتكز عليها، فأبان الفتى قدرات هائلة في التمثيل، لا سيما في انتقاله بين الحزن والفرح في مشهد واحد، مما أضاف عمقا عاطفيا للشخصية التي قدمها، فتمكنه جعل الأنظار تتجه إليه توجها لافتا.

أما الممثلان سليمان بن واري وإيدير بن عيبوش، فمع أن دورهما محدود فإنهما قدما أداء استثنائيا وقويا، قوة اللحظات المهمة التي تجسدها كل شخصية في الفيلم.

بدا أن أسامة بن حسين الذي كتب وأخرج فيلم “زهرة الصحراء” وصوره بولاية تيميمون تحت درجة حرارة تتعدى 60 درجة، في انتقاله من قصة لأخرى ومن مشهد لمشهد، كان لديه الكثير ليقوله عن تجاوزات وتجارب لا يسعها فيلم روائي لا يتجاوز 26 دقيقة.

ولكنه على الأقل تمكن من إيصال فكرة أن كل الأجيال كان لها موقف، وشاركت في كتابة التاريخ، وكان لها نصيب من النضال، وأن الثورة في الشمال والجنوب واحدة، كما أن فيلمه عند عرضه خارج الجزائر عرّف بهذه الجرائم، التي ظلت مجهولة لدى كثير من الشعوب.

وثيقة سينمائية تعيد جرائم فرنسا إلى الواجهة

أنجز فيلم “زهرة الصحراء” عام 2023، في إطار ستينية استقلال الجزائر، التي نظمتها وزارة الثقافة والفنون، عن طريق المركز الوطني لتطوير السينما، وقد تُوج بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الـ13.

إنها وثيقة سينمائية مهمة تجرم فرنسا مرة أخرى، وتعيد فتح دفاتر التاريخ المثقل ببطولات أبناء الوطن وتضحياتهم، والمغلف بالتزييف والتهرب والمجازر الفرنسية، التي تشبه مجازر الكيان الصهيوني بحق سكان غزة، فالعدو واحد، وقد اجتمعت فرنسا والكيان في التحضير والتخطيط وإطلاق أول قنبلة ذرية في صحراء الجزائر، حسب شهادات الباحثين والمؤرخين.

والمتصفح لتاريخ الاستعمار الفرنسي بالجزائر، قد يجد وهو يتتبع الأحداث انتهاكات وجرائم كثيرة، من مجازر الثامن مايو/ أيار 1945 التي خلّفت أكثر من 45 ألف شهيد، إلى 60 ألف متظاهر خرجوا مطالبين بالاستقلال، فألقت قوات الأمن الفرنسية بهم في نهر السين بباريس، يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961.


إعلان