“طحطوح ضمير قرية”.. قصة جزائري واجه بالجمال رعب العشرية السوداء

صحيح أن الجزائر خرجت من نفق العشرية السوداء، ولكن جروح شعبها لم تلتئم بعد، وذاكرتهم المثقلة بالقصص الفردية والجماعية لم تتخلص من عبء الذكريات والصدمات، فمن لم يفقد أهله في المجازر كانت حياته تحت التهديد، ومن نجا من الموت في تفجير أو كمين ربما عاش تجربة التهجير القسري.

القصص كثيرة، ولا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، لذا فإن وقوف الفنون عندها ضرورة، وعودة الآداب إليها حتمية، كما أن طرح مواضيع وقصص حقيقية عن تلك الحقبة كان مدفوعا بالرغبة في فهم أسباب العنف الذي اجتاح البلد، ورصد آثاره من الناحية السياسية والاجتماعية والنفسية، فالجميع كان مستهدفا بلا استثناء، والجماعات المسلحة لم تفرق بين حقوقي ورجل أمن، ولم تستثن صحفيا ولا مثقفا.

بيوت مهجورة بقرية أفيغو

عاد المخرج محمد والي هذه المرة إلى العشرية السوداء بفيلمه “طحطوح ضمير قرية”، الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، ولكن بطرح جديد ومختلف تماما عما اعتدناه في الأفلام والوثائقيات، التي تناولت العقد الأكثر دموية في تاريخ الجزائر بعد الاستقلال.

فقد قرر أن يرويها ويوثقها بقصة إنسان عظيم الانتماء لأرضه، متين التعلق بقريته، له إرادة في إعادة إعمارها تفوق كل المخاوف التي عاشها سكانها، الذين عاشوا هجرتين قسريتين؛ الأولى عندما أجبرتهم قوات الاحتلال الفرنسي على مغادرتها، والثانية لما واجهوا تهديدات الجماعات الإرهابية، حينها لم يكن الهروب خيارا بل آخر فرصة للنجاة.

تُوج الفيلم بثلاث جوائز؛ جائزة لجنة التحكيم في مهرجان الإسماعيلية الـ24 للأفلام الوثائقية، وجائزة الوهر الذهبي بوصفه أفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ12 من مهرجان وهران للفيلم العربي، وجائزة أفضل وثائقي في مهرجان الفيلم العربي القصير في نسخته الـ16 بلبنان.

قرية ثائرة لم تسلم جمالها للإرهاب

يقترب وثائقي “طحطوح ضمير قرية” في طرحه من فلسفة البساطة التي تصنع الجمال، سواء في اختيار القصة والشخصية، أو في الأسلوب الذي اتبعه المخرج محمد والي في التصوير.

يظهر إعجابه الشديد بالقرية من خلال عودته المتكررة لالتقاط جمالها، ورصده من زوايا مختلفة، وكأن لديه رغبة دائمة في إبراز سحر قرية “أفيغو” في كل مشهد، حتى وإن كانت الشهادات تكشف بشاعة ما حل بها، ولا تتطابق مع ذلك الجمال الذي في الصورة.

بهذا الوثائقي تعرفنا على شخصية بسيطة وعفوية وإيجابية، قدمت قصتها بنفسها، واكتشفنا بعيونها تاريخ مكان ننتمي إليه وهويته وجماله، وقد يجهله الكثير منا، إنها رقعة من الحضارة والتاريخ، لم ينل منها عسكر فرنسا ولا الإرهابيون.

شباب ورجال القرية في تحدي الترميم والإعمار

يخترق صوت الطبيعة وغناء العم حسان -المعروف بلقب “طحطوح”- سكينة المكان الذي كان يحلم بعودة الحياة إليه، تلك القرية التي سعى جاهدا لترميمها وإعادة إحيائها، فلم يتقبل فكرة أن عمرها انتهى أو أن تعميرها بات مستحيلا، فالرجل مرتبط بأرضه وهويته وتراثه لحد التعلق، وإيمانه كان كبيرا بأن الأماكن الصامدة لها قدسيتها.

فقرية “أفيغو” ليست في نظره مجرد موقع استوطنه أناس فحسب، بل هي جزء من شخصيته وانتمائه وذكرياته، بُنيت ذات يوم بسواعد أبنائها على أسس متينة، وتشكلت من حجارة وطين ومواد أخرى تجمع بين القوة والبساطة.

تقع “أفيغو” بولاية برج بوعريريج، على بعد نحو 200 كيلومتر من العاصمة الجزائر، وقد كانت مزدهرة بالسكان والحياة، ولكنها أصبحت مسرحا للأحداث والاعتقالات، فالعسكر في الصباح والمسلحون في المساء، وإلى غاية يومنا لا يزال طحطوح يحمّل الجماعات المسلحة مسؤولية ما حل بقريته، وتدهور أوضاعها بعد تفرقة العائلات، وهروب سكانها منها حفاظا على حياتهم وسلامتهم.

العم حسان المدعو طحطوح يستذكر تاريخه في القرية

ولأن “الروح أغلى من كل شيء” كما يقول أحد جيرانه، فقد كان الهروب الحل الوحيد، فتأزُّم الوضع في التسعينيات دفعه لتهريب بناته البالغات خارج القرية، حفاظا على حياتهن وشرفهن، فالجماعات المسلحة لم تستبح دم الجزائريين وحده، بل كانت تعبث بالشرف أيضا.

لم يكن ذلك الخيار خيار عائلة طحطوح، فوالداه المجاهدان فضلا عدم الخضوع للتهديدات، وقررا البقاء في القرية، الأرض التي كانت تحقق اكتفاءها الذاتي من خيراتها وثرواتها، وتدعم الثوار وتساعد المجاهدين إبان الثورة التحريرية، فهذا الارتباط بالجذور لا يخضع لأي ظروف، ولا يغيره الزمن.

رحلة ترميم القرية وإعادة إعمارها من جديد

بدا العم حسان البار بوالديه مرتاحا ومتصالحا جدا مع الكاميرا، مسترسلا في الحديث، عفويا في التعامل مع رجال القرية الذين استطاع إقناعهم بضرورة ترميم “أفيغو”، وذلك مشروع بدأه ذات يوم منفردا، ثم أقنع الآخرين بضرورته وأهميته.

صحيح أنه استغرب في البداية فكرة ترميم قرية كاملة بمفرده، وأقر بأن شعورا غريبا تملكه عندما رفع أول حجر، لكنه لم يستسلم لمخاوفه، بل انطلق نحو حلم آمن به وراوده طويلا، فكان يتردد على الأسواق الشعبية والمحلات أسبوعيا ليقتني المواد اللازمة، لترميم جدران المنازل وأسقفها، وفي طريقه يمر بالقرى والبلدات المجاورة، فيحث أهلها على المشاركة في هذه المهمة، التي تعبّر عن مدى التزامهم تجاه وطنهم وتاريخهم وتراث أجدادهم.

محطة البنزين التي لم يجد من يعيد تشغيلها

وقد استطاع تعبئة شباب القرية، فاقتنعوا أن الأمر لا يتطلب إمكانيات كبيرة، بقدر ما يحتاج إلى همة الرجال وتكاتف جهودهم حول هدف نبيل، بدأه رجل واحد يدعى حسان، ويجب أن يستمر حتى في غيابه عن القرية أو رحيله عن الحياة.

رقعة من التاريخ قاومت وصمدت

جعل المخرج محمد والي بطله طحطوح ضمير هذه القرية، التي لم تجد من يسكنها ويؤنس وحشتها، فهو يستحضرها في حديثه باستمرار، ويبكيها أحيانا، فذكرياتها لا تزال عالقة في الوجدان، وبرغم كل الذي عاشته لا تزال تصدر جمالها للسياح وتعرضه للمخرجين والسينمائيين، وتحافظ حتى اليوم على طابعها العمراني القديم، الذي يتجاوز عمره مئة عام.

هذا التعاطي مع الأرض على أنها ميراث عظيم، يكشف ضمير هذا الرجل والتزامه اتجاه مسقط رأسه، فالأمر يتعدى محاولة ترميم بيت أو أكثر، إلى تقدير إرث الأجداد وروح المقاومة، ورد الاعتبار لممتلكات تشكل جزءا آخر من حياتنا، وقد تعمد المخرج رصد مظاهر الحياة وتفاصيلها خارج القرية، فبعض الممتلكات لم تجد من يعيد تشغليها، منها محطة البنزين، مع أن المارين عليها كثير.

حديث طحطوح مع أحد جيرانه عن أيام العشرية السوداء

أنهى محمد والي وطحطوح القصة كما بدآها، باستعادة لحظات الميلاد وشريط الذكريات، فالحلاق البسيط الذي تمسك بأرض الأجداد مع قلة المكسب لم يكن يملك الكثير، ولكنه كان يملك ما لا يملكه الكثيرون.

ومع ذلك فإن نظرته للقرية تغيرت بمرور الزمن، فقد أصبح يراها أطلالا، أو رقعة من التاريخ قاومت وصمدت وكتبت التاريخ وانتهى، لم تعد كما كانت، قد يعاد ترميمها من جديد، ولكن العم حسان لا يكفل عودة الحياة إليها.

طحطوح.. رجل أشعل شمعة الحلم ثم نام

لم تنته قصة العم حسان هنا، بل كانت مجرد بداية، فما شاهدناه في الوثائقي ما هو إلا فصل واحد من فصول عدة لشخصية يتوقع بأن مسارها زاخر بالمواقف والحكايات، فشخصية حسان أثبتت نفسها نموذجا إيجابيا وأسطورة محلية لأبناء بلدته، كما أن نهاية العمل تشير بأن المخرج محمد والي كان يخطط لتقديم جزء ثان، أو تكملة أخرى لم ترد في هذا الوثائقي.

لكن رحيل الشخصية الرئيسة في 25 يونيو/ حزيران 2024 منح القصة نهاية مختلفة عما كان يتصوره المخرج ويتوقعه المشاهدون، صحيح أن طحطوح استطاع لمّ شمل أبناء القرية لإعادة بناء بعض البيوت، ولكن لا نعرف هل أعاد إعمارها بالكامل وحقق مسعاه؟

طحطوح يسترجع الذكريات مع والديه

نأمل أن يُتم أبناء بلدته ما بدأه في يوم من الأيام، حفاظا على واحدة من أجمل القرى، وتخليدا لرجل أخلص لأرضه، ولم يتخل عنها تحت أي ظرف، كما أن قصة هذا الرجل البسيط قد تكملها قصة إنسانية أخرى ذات طرح مغاير ومتمم لهذا التصور.

محمد والي.. مخرج ينفض الغبار عن كنوز الجزائر

يمثل هذا العمل مغامرة جديدة لمخرجه محمد والي، الذي اعتاد عرض أغلب أعماله على قناة الجزيرة الوثائقية، أما عمله هذا فهو نقلة نوعية في مسيرته المهنية، أتاح له فرصة التفاعل مع جمهور جديد، والتعرف على انطباعاته، ومناقشة الأفكار والمضامين معه، ودخول تجربة المسابقات أول مرة.

برج زمورة بولاية برج بوعريريج

يعد محمد والي من المخرجين والمنتجين الشباب ذوي الإنتاج الغزير، فقد استطاع تنفيذ أكثر من 40 فكرة ومشروعا سينمائيا، وكان قد اتجه للأفلام الوثائقية واختص به بعد تخرجه، لإيمانه الكبير بأن للجزائر تاريخا كبيرا ومواقف دولية تستحق أن تنجز عنها أفلام توثيقية.

من هذا المنطلق، جاء أول أفلامه الوثائقية عام 2015، عن إعلان قيام دولة فلسطين في الجزائر بتاريخ 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، ثم واصل اشتغاله بعد ذلك على شخصيات وطنية، لها مسار وتأثير مهم في تاريخ البلد.

وليس غريبا أن يعود لاستنطاق ذاكرة الناس وما تعني لهم الأماكن، وكان قد اهتم بهذه الجزئية في وثائقي “قلب مدينة” الذي يتعمق في رمزية المكان وقيمته لدى سكان ولاية تلمسان، ثم عاد اليوم إلى قصة العم حسان، وهي قصة تجمع بين البساطة في الطرح وقوة الارتباط بالأرض.

المسرحي عبد القادر علولة

وقد امتد اهتمام محمد والي إلى رجال المسرح الذي اغتيلوا خلال العشرية السوداء، فأنجز وثائقيا قصيرا (26 دقيقة) عن المسرحي عبد القادر علولة، صاحب التجربة الرائدة المعروفة بمسرح الحلقة أو القوال، واشتغل أيضا على الموروث الثقافي المحلي في وثائقي “سبيبا فرح الصحراء”، وتوقف عند شخصيات مهمة، منهم الشيخ العربي التبسي، في فيلم “الشيخ العربي التبسي، شهيد بلا قبر”.

تحدّ كبير خاضه المخرج حديثا، ففتح ملفات التاريخ والتعرض لشخصيات وطنية تواجهه جملة من الصعوبات، لعل أبرزها ندرة المراجع والأرشيف.

عشرية تقاطعت فيها الأحداث والقصص بالمواقف

يظن بعض الناس أن الجزائريين تجاوزوا العشرية السوداء، التي استمرت من أواخر الثمانينيات إلى نهاية التسعينيات، وأسفرت عن أكثر من 200 ألف قتيل، وخسائر يرجح أنها تجاوزت 30 مليار دولار، فضلا عن عدد كبير من المفقودين، وانتهت المرحلة بموجب ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي اقترحه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ووافق عليه الشعب في استفتاء أجري يوم 29 سبتمبر/ أيلول 2005.

الملصق الداعائي للفيلم الوثائقي “سبيبا فرح الصحراء”

ولكن الذكريات المؤلمة لا تزال تلاحق الذاكرة الجماعية، وتعود للظهور بأشكال شتى عبر الأدب والسينما، فقد شكلت القصص المستمدة من هذه الحقبة قاعدة لعدد من الروايات والأفلام والوثائقيات، أحدثها رواية “حوريات” للكاتب الجزائري كمال داود، وقد أثارت جدلا كثيرا بعد نيلها جائزة “غونكور” الأدبية، أرقى الجوائز الأدبية في فرنسا، وهي تطرح قصة إحدى ضحايا العشرية السوداء الناجيات من الموت المؤكد.

كما حاولت السينما الجزائرية تجسيد مآسي الشعب في تلك الحقبة بأفلام منها “مال وطني” لفاطمة بلحاج، و”التائب” لمرزاق علواش، و”أبو ليلا” لأمين سيدي بومدين، و”البطلة” لشريف عقون، و”عطور الجزائر” لرشيد بن حاج، و”رشيدة” ليمينة بشير شويخ، الذي حصد أكثر من 15 جائزة دولية.

ولا ينبغي اقتصار الحديث عن العشرية السوداء على عدد الوفيات والمجازر، وما حل بالبلاد والعباد، بل لا بد أن يمتد لبعض المظاهر والمواقف التي استحق أصحابها الثناء.

الملصق الداعائي للفيلم الوثائقي “الشهيد العربي التبسي، شهيد بلا قبر”

ففي ذروة العشرية، زار بعض الأشقاء العرب الجزائر وأقاموا بها حفلات، متحدّين بذلك حصار الجماعات الإرهابية للشعب الجزائري وبلاده التي عُزلت سياسيا وثقافيا، وتنكر لها جهات كثيرة.

ومن أبرز أولئك الفنانين الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي، التي تألقت بمحاولاتها لمواساة هذا الشعب الجريح، وقد تكررت زياراتها لبلد المليون ونصف المليون شهيد، فأصبحت قريبة من الجمهور وتراثه وفنانيه.

ففي إحدى زياراتها، فاجأت الجزائريين بأداء أغنية من التراث الموسيقي الشعبي للراحل الهاشمي قروابي، وكان لذلك أثر عميق على قلوبهم، في ظرف حساس كانت أخبار الموت تهيمن على الحياة اليومية.


إعلان