فيلم “سودان يا غالي”.. احتجاجات سلمية مخضّبة بالدم والفنون

لم يحِد السودان -مثل دول عربية أخرى- عن رياح التغيير التي حملها “الربيع العربي”، فأسقط أوراق النظام الذي رسمه وغرسه ونمّاه الرئيس “المخلوع” عمر حسن البشير (1989-2019)، بعد أن جاء الى السلطة بانقلاب عسكري، خططت له “الجبهة الإسلامية القومية”، واستطاعت يومئذ الإطاحة بالحكومة المدنية، التي كان يرأسها الصادق المهدي، وهو سياسي ومفكر حملته الانتخابات إلى السلطة.
حكم الصادق المهدي السودان مدتين؛ أولاهما بين عامي 1966-1967، والثاني بين 1986-1989، لكن البشير وضع حدا لهذه التجربة الديمقراطية، وأسس حكما مستبدا دام 3 عقود، حكم فيه السودان بالحديد والنار على عادة الأنظمة المستبدة، بعد أن سيطر على كل مفاصل السلطات العسكرية والمدنية، وأصبح الرجل القوي الأول في البلاد.
لكن هذه السلطة طالت ولم تعمر، فتناثرت أوراق نظامه في جهات شتى، حين قُطعت شجرة نظامه التي كان جذعها الأساسي، بعد احتجاجات ومظاهرات دفعت الجيش السوداني إلى زمام المبادرة والتحرك، فتولى المجلس العسكري برئاسة وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف مقاليد السلطة في 11 أبريل/ نيسان 2019، حين أزيح الرئيس عمر البشير من السلطة.
وقد وافق المجلس يومئذ على تسليمه إلى الجنائية الدولية، التي تتابعه وتتهمه بجرائم الحرب، لكن بعد محاكمته ومحاسبته على جرائم الفساد التي ارتكبها في السودان، خلال حكمه الذي دام 30 سنة.
لكن مستجدات السودان السياسية والعسكرية ودخوله في مواجهات وطنية دامية، لم تسمح له بالمحاكمة النهائية والتسليم، ولا يزال مصيره مجهولا لغاية كتابة هذه الأسطر، مثله مثل مصير السودان.
فيلم حمل ثورة السودان إلى محافل السينما
كان ضروريا ذكر بعض الأحداث، لفهم السياقات التاريخية التي جاءت بعد الإطاحة بنظام البشير، وهي المدة الزمنية المهمة والمحورية التي سلّط عليها الضوء هذا الفيلم الوثائقي المهم، وقد جاء في مرحلة زمنية فاصلة، يعيشها هذا البلد الذي يبحث عن الاستقرار، حتى يتفرغ أبناؤه للبناء والتشييد، وإقامة دولة تليق بتضحيات من ارتقوا أو وقعوا ضحايا لتلك الصراعات المتكررة.
الفيلم الذي تطرق لهذه المرحلة الحساسة هو “سودان يا غالي”، وقد وضع له عنوان باللغة الإنجليزية: (Sudan, Remember Us)، بمعنى “تذكرنا يا سودان”، وقد أخرجته التونسية هند المدب (2024).

ينقل العمل كما جاء في ملخصه الرسمي: “الفترة المضطربة التي سبقت الانقلاب العسكري في السودان سنة 2019، حين اندلع صراع على السلطة بين الجيش والمجموعة شبه العسكرية التي تمثلها “قوات الدعم السريع”، التي أحكمت قبضتها على ثروات البلاد، وأجبرت الملايين على مغادرته بسلوك طريق المنفى”.
“في هذا السياق، خاض مجموعة من الشباب الذين يحلمون بسودان ديمقراطي جديد المخاطر لبدء ثورة حماسية والإطاحة بالنظام العسكري، مع شجن ومها ومزّمل، مثل عدد آخر من الناشطين الشباب، يناضلون بكلماتهم وأشعارهم وأغانيهم من أجل الحرية”.
عُرض الفيلم أول مرة في فعاليات الدورة الـ81 لمهرجان البندقية السينمائي (من 28 أغسطس/ آب إلى 7 سبتمبر/ أيلول 2024)، كما افتتح فعاليات مهرجان أجيال السينمائي في قطر بدورته الـ12 (16-23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، ثم انتشرت فعاليات عروضه وتكريماته في المهرجانات الدولية.
دماء على الإسفلت وجثث تطفو على النيل
عادت المخرجة هند المدب في هذا الفيلم الوثائقي إلى لحظات مهمة وفارقة من تاريخ السودان الحديث، بمعايشتها أجواء الاعتصامات والمظاهرات التي حدثت أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، بداية من 6 أبريل/ نيسان 2019، يوم رفع المعتصمون شعارات طالبوا فيها بمدنية الدولة السودانية، ولقد استمرت تلك الاعتصامات، في ظل تنظيمها بشكل محكم، وإدارتها بعدد من اللجان.
لم تستجب القيادة العامة يومئذ لمطالبهم المشروعة، بل باغتتهم في اليوم الأخير من شهر رمضان (3 يونيو/ حزيران)، وفضت الاعتصام بطريقة دموية، فاقتحم الجيش ساحة الاعتصام، بدعم من قوات الدعم السريع، مُستعملين أسلحة ثقيلة وخفيفة وقنابل الغاز المسيل للدموع، فقُتل أكثر من 66 متظاهرا، وجُرح المئات حسب التقديرات، وقد قُطعت الإنترنت في الخرطوم يومئذ، لدفن هذه الجريمة المروعة، وتغييب الحقائق حتى لا يراها العالم.

سالت في تلك الواقعة دماء كثيرة على إسفلت ساحة الاعتصام وطرقاته، وطفت عشرات الجثث على مياه النيل، حتى اختلط ماؤه بدماء المتظاهرين.
وقبل حدوث الفاجعة، استطاعت المخرجة هند المدب أن تقف بين المئات من المحتجين في الميدان، ترصد تحركاتهم وأحلامهم وهواجسهم وكوابيسهم، بكاميرا تسجل وتوثق وتحفظ في ذاكرتها تلك الأحداث التاريخية.
مهرجان متنوع يفيض آدابا وفنونا
ابتعدت هند في فيلمها عن الشعارات والأهازيج التي عادة ما ترفع بكل مظاهرة في العالم، لأن ذلك لا يقدم شيئا للمتلقي، بل هو متوفر تنقله القنوات الفضائية والتقارير الصحفية، لكن هند ذهبت إلى تفكير هؤلاء وأحلامهم، ودخلت إلى أذهانهم لترى وجهة نظرهم حول بلدهم.

كما أنها لامست الجوانب الأدبية والفنية التي طبعت يومياتهم، بالقصائد الشعرية التي يكتبونها، واللوحات الفنية التي يرسمونها، والأغاني التي يغنونها، والعزف على الآلات الموسيقية، والرسم على الجدران، وغيرها من صنوف الفن، وكلها منطلقات تعبيرية ترصد وتعبر عن الحدث العام بطريقة فنية.
كل تلك المنطلقات السياسية كانت تطبع يوميات السودان في تلك الحقبة، وبذلك أصبح الاعتصامات مهرجانا فنيا متنوعا، تشارك في رسم أبعاده طوائف المجتمع وفئاته كافة، بعيدا عن الخلفيات الفكرية والدينية والسياسية.
المرأة والرجل.. صوت واحد يرصد الآهات
غيّب نظام حسن البشير طيلة حكمه صوت المرأة وصورتها الحضارية، وكرّس صورة أن المرأة السودانية ما هي إلا تكملة للرجل، أو في أحسن الأحوال ظلا له، فليس لها رأي ولا وعي سياسي ولا ثقافي.
لكن المخرجة هند المدب اقتربت من هذه المرأة بالاستمتاع لصوتها وحلمها ورأيها، فكسرت تلك الأحكام الخطأ، وأثبت بأصوات بطلاتها -مثل شجن ومها وأخريات- أن لديهن رأيا راجحا وتصورا حكيما وأحلاما معقولة، وتحليلات صائبة واستشرافات سياسية تحقق كثير منها.

كما رافقت المرأة شريكها الرجل في المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات، وكان دورها محوريا في التعبئة والتنظيم والابتكار، لهذا نجحت تلك الاعتصامات، وعجز النظام الجديد عن زحزحتها إلا بالقوة المفرطة، بعد أن وجد نفسه أمام جيل شاب لديه وعي كبير، ووجهة نظر صائبة في الأحداث، ولا يمكن إقناعه أو الكذب عليه بسهولة.
لهذا واجه المرأة والرجل بحزم كبير، حتى أنه استعمل منطلقات غير أخلاقية معهم، لثنيهم عن الرجوع إلى ساحة الاعتصامات، وهي الرسالة الواضحة التي زرعها الفيلم وعمل عليها.
جسر الراوي البديل.. تقوية التوثيق وتنويع المصادر
وظّفت المخرجة هند المدب عدة تقنيات وأساليب فنية، لتمكين رؤيتها الفنية في الفيلم، ومن ذلك تقنية الراوي، بمعنى أنها تروي أحداث عملها بصيغة الماضي، مع استحضار صور ومشاهد وكأنها آنية، كما أنها استعملت صوتها وتحدثت بصيغة ضمير المتكلم، بمعنى أنها كانت تغرف من الذات، فزرعت نوعا من الحميمية، وفتحت أبواب التقارب والتلاحم والانسجام بين عناصر الفيلم، وصولا إلى شتى أبعاد التلقّي.

كما أعطت الراوية دفعا قويا، انعكس في موضوعية ما، بمعنى أن الصوت عكس لهجة غير سودانية باستعمالها لهجة مغاربية، فكانت بمنزلة العنصر الملاحظ للأحداث، وهو معطى غلّف الفيلم برداء الموضوعية، وجعل بعض الأحكام التي أطلقت في سياقات الفيلم رزينة وعقلانية.
ثم إن الصدفة أدت دورا محوريا في توليد الأحداث وتكاثفها، فقد سافرت المخرجة صدفة إلى السودان، فوجدت نفسها وسط المظاهرات وهي تحمل كاميرا، لكنها غادرت السودان قبل بداية فض الاعتصام.
ولتغطية هذه الثغرة استعملت مكانها الراوي البديل، فصارت الشخصيات التي كانت تتعامل معها جزءا من رواية الحكاية، فكانوا يرسلون لها خطابات مسجلة يروون فيها الأحداث، وقد عوضت بذلك هذا الابتعاد، ثم قوّت الفيلم بتنويع الوثيقة، وكسر رتابة الخط الواحد، وهنا يمكن وصف هذا المنعطف بأنه خيار ذكي، منحها البديل الفني المناسب.
حين تكون السينما الوثائقية أداة استشراف
الفيلم الوثائقي “سودان يا غالي” عمل سينمائي شاركت في إنتاجه فرنسا وقطر وتونس، وهو جهد استشرافي مميز، قدّم قراءة مهمة للأحداث في السودان قبل سنوات، لكنه في المقابل قدّم أيضا قراءات للمستقبل، عن طريق ضيوفه شجن سليمان، ومها الفقي، وأحمد مزمل، وخطاب أحمد.
وفي سياق جمالي وفني، لم تهمل المخرجة الأداة الإخراجية التي تعطي للعمل سينمائيته، بل اهتمت بجميع تفاصيل العمل وعناصره، لهذا كان الفيلم وثيقة معرفية وجمالية وتاريخية وسياسية مهمة، حمت الأحداث في سياقها التاريخي، واحتفظت باللحظة الزمنية، حتى تقدمها لكل من يبحث عنها مستقبلا.

تستند المخرجة هند المدب إلى مرجعية سينمائية مهمة، فقد أخرجت بين سنتي 2013-2015 فيلمي “إلكترو- شعبي” و”كلاش تونسي”، وهما عملان وثائقيان تلفزيونيان عن ثورية الإبداع الموسيقي، عُرضا على عدة قنوات تلفزية، منها “آرتي” فرنسا، وقناة “بلانيت+”، والتلفزيون السويسري، والتلفزيون البرتغالي، وقناة الجزيرة، وقناة فرانس 2.
ثم أخرجت بعد ذلك فيلم “باريس ستالينغراد” عن رحلة اللاجئين في باريس، الذين ضايقتهم الشرطة، وأجبروا على العيش في مخيمات مؤقتة قرب محطة مترو ستالينغراد، وقد أشاد النقاد بالفيلم، واختير للمشاركة في مهرجانات كبرى، منها مهرجان كوبنهاغن الدولي للفيلم الوثائقي، ومهرجان سينما الواقع، ومهرجان تورونتو.
أما فيلم “سودان يا غالي” فهو فيلمها الوثائقي السينمائي الطويل الثاني.