“عيش الأرض”.. شاعرية التحول إلى الحداثة في قرية صينية

قبل بلوغ عقد الثمانين حلقته الأخيرة، بدأت الحكومة الصينية التخلي طوعا عن رداء الاقتصاد الاشتراكي، واستعارة ثوب الرأسمالية، وعندها بدأت الاستثمارات الأجنبية تهطل بغزارة، بعد سنوات طويلة من اعتماد سياسة التقشف القسري.

قد ينظر البعض إلى تلك الوقائع بعين الترحاب، وهذا صحيح بدرجة أو بأخرى، لكن المعتاد عند قراءة التاريخ، إنما هو الاتكاء على المصادر المعتمدة، والعودة كذلك إلى الروايات غير الرسمية، التي عند مجاوراتها للمتداول تكتمل زوايا الصورة بكافة تفاصيلها المستترة.

وتلك الزاوية البعيدة عن المشهد، تشكل المكون الرئيسي للفيلم الصيني “عيش الأرض” (Living The Land) الذي أُنتج عام 2025، وقد كتبه وأخرجه “هوو مينغ”، وهو ثاني تجاربه الروائية الطويلة، وعُرض عرضه العالمي الأول في المسابقة الدولية من مهرجان برلين السينمائي الـ75، وحصد بجدارة مستحقة جائزة الدب الفضي عن فئة أفضل إخراج.

وهنا لا بد من استكمال تسلسل المقدمة، والسؤال الإجباري عن باقي تفاصيل الصورة، أثمة حقا شيء لم تذكره السجلات والوقائع المعتمدة؟

لإجابة هذا السؤال المشروع، يرجى إلقاء نظرة وإن سريعة على أحداث الفيلم، التي تدور في عام 1991 بقرية صينية، بعيدة نوعا ما عن المدينة، في تلك الأثناء يُترك الطفل “تشوانغ” (10 سنوات) مع جدته المسنة وباقي عائلته الكبيرة نسبيا، ويعمل الوالدان في المدينة مع أخويه، خشية اكتشاف أمره وهو ابن ثالث، مما يُعرض الأسرة للعقوبات القانونية، وفي تلك الإقامة الجبرية تبدأ رفاهية المدينة تختطف ما بقي من الأهل مع مرور الزمن وتوغله.

المصلق الدعائي للفيلم

حكاية غير معتادة عن نمط غير مألوف، توصل إلى صيغة تفاهمية بشأن مضمون الفيلم وأفكاره، التي تحتوي على طرفين متقابلين، أحدهما يدثر الآخر، فالصراع بين الحداثة والتقليدية، أو -بمعنى أكثر رحابة- النزاع المستعر بين المدينة والريف، يشكل الطبقة الأولى من المضمون العام، في حين ينشغل السرد بتقديم نظرة تأملية هادئة الإيقاع نحو صفحات الحياة، المكللة بالحضور والغياب، وبذلك تكتمل أطراف المضمون الفيلمي، بكل ما ينطوي عليه من إشكاليات وتشابكات، تبعث على القراءة والتأمل.

حكاية طفل تدور بين قوسين

تنطلق مشاهد الفيلم الأولى مع صوت الطفل “تشوانغ” (الممثل الصيني وانغ تشانغ)، فيخبرنا بأن ما نراه أمامنا يعود إلى عام 1991، حين توفيت زوجة أخي الجد الأكبر، وهنا تنفتح الشاشة على لقطة استهلالية من الريف بكل تجلياته الخضراء، وكأننا أمام لوحة مكتملة الأركان الفنية، ثم يعقب هذا الافتتاح مشهد آخر نرى فيه بطلنا الطفل مستغرقا في النوم على النعش الخشبي، الذي يرقد فيه الجثمان.

وفي الدقائق التالية يتواصل المشهد، كاشفا ما يحيط بالدفن من تفاصيل، على وقع الحوارات المتناثرة بين الشخصيات، التي تكشف بقدر ميسور تاريخ عائلة “تشوانغ”.

“تشوانغ” وابنة عمه يستذكران دروسهما على الأضواء الخافتة

وبهذا نصبح أمام تمهيد مسبق، يصلح مدخلا للعالم السردي الذي تقوم عليه الأحداث، فتبدأ المصفوفة السردية وقائعها بالموت، وستنتهي كذلك بموت الجدة الكبرى، وهكذا ينسج الحكي سرديته وفق مبدأ الأقواس الدرامية، أو بالأحرى بين غلافين، سيتقابل كل منهما مع الآخر، وما بينهما تقبع الحكاية ذاتها، بكل مساراتها وتشعباتها.

ولتقديم هذه الحكاية، لا يعمد البناء العام إلى الالتواءات الدرامية، أو ما شابهها من تقنيات حداثية، بل يلجأ إلى المسار التقليدي في الحكي، حيث الاتكاء على الفصول الدرامية الثلاثة، التي تتصاعد فيها الأحداث وصولا إلى العقدة المنتظرة، وهل تحتوي الحكاية على ذروة محمومة يشتعل عندها الخط السردي؟

المخرج “هيو مينغ” أثناء المؤتمر الصحفي بعد عرض الفيلم

الإجابة الراسخة اليقين هي لا، فنحن أمام فيلم يقدم حكاية طفل، قادته ظروفه إلى الاحتكاك بمنعطف زمني حساس، وهنا لا يبقى سوى الالتقاط والنظر وما يرافقهما من جرعات تأمل مكثفة، وهكذا نصبح أمام فيلم تأملي هادئ، يبعث على التفكير والتدبر، ومن ثم فلا داعي لخلق نسيج سردي، مستعر بالصراعات المجانية بين الشخصيات، فالرغبة في تقديم سردية تأملية نحو الزمن السابق بكل معادلاته وتفاعلاته، تشكل الهم الأكبر من الرؤية العامة للفيلم.

هذا من ناحية المعمار السردي، أما فيما يتعلق بخريطة الفيلم الزمنية، فالأحداث تدور في إطار عام واحد، يبدأ في ربيع عام 1991، وينتهي في شتاء العام التالي، وبين هذا الزمن وذاك، تنطلق آلة السرد البطيئة الإيقاع، كاشفة ما تيسر من أحداث وتطورات متلاحقة.

ملامح أولية عن خيوط الحكاية

يبدأ الخط الدرامي مساره -كما ذكرنا- في ربيع 1991، أي بعد عامين تقريبا من انتهاء الحرب الباردة، وقبل شهور قليلة من انهيار الاتحاد السوفياتي، وصعود القطب الأمريكي الأوحد، وهل لتلك الإحداثيات التاريخية تأثير ما على حكايتنا؟

قد يبدو ذلك استطرادا لا طائل من ورائه، لكن الحقيقة أن بيئة الأحداث العامة وصل دبيب تأثيراتها إلى أرجاء القرية، ولامست بطريقة أو بأخرى “تشوانغ”، مع أنها لم تذكر تلك الوقائع صراحة.

فالحديث الدائر بين أفراد العائلة لا يخلو من الانبهار بالحلم الأمريكي والتجربة الاقتصادية الحديثة، فنرى في أحد المشاهد سخرية أحد أفراد العائلة من نمط الزراعة التقليدي، قائلا إن الآلات الحديثة في الولايات المتحدة تستطيع حرث قطعة كبيرة من الأرض بمنتهى السهولة واليسر، من دون أدنى معاونة إنسانية.

“تشوانغ” يقرأ من كتاب للجدة الكبرى التي ترعاه

في أجواء تلك الأوضاع التنافسية غير المتكافئة آنذاك، تنطلق الدولة الصينية في إجراءاتها الحثيثة سعيا إلى مواكبة هذا التطور المتلاحق، وضربة البداية تنطلق من العمق، فالفيلم يحفل بما يكفي ويفيض من مشاهد متناثرة، تكشف التعسف الحكومي تجاه المواطن الريفي.

فالقانون يحول دون إنجاب الطفل الثالث، ومن أتعسه حظه ورزق بهذا الطفل، فينبغي أن يخفيه عن السجلات الرسمية، وإلا تعرض للتعقيم والغرامة المالية المرتفعة، ناهيك عن القوافل الطبية والاجتماعية، للسيطرة على ما يدور داخل القرية.

فالنمط المعيشي بدائي تقليدي، يبتعد تماما عن وسائل الترفيه الحديثة، عدا الوجود المحوري لجهاز التلفاز الضئيل الذي لا يعمل بكفاءة، نظرا لانقطاع التيار الكهربائي، فالسطوة الكاملة هنا للهامش، المبتعد قسرا عن المدينة وعن الواقع الحقيقي المعاش.

وللتعبير عن هذه الأسلوب، يجعل السرد البيئة المحيطة متوافقة مع ما كانت عليه الصين يومئذ، ومن ثم تصبح الصورة المتداولة في فيلمنا غير معتادة ولا مألوفة لما نراه على الشاشات أو وسائل الإعلام، فللحقيقة أوجه متعددة كما نعلم.

مكان كهذا له بلا شك قواعده وأسلوبه، وهنا نرى متانة العلاقات الأسرية بين أعضاء العائلة، وقوة حضور الجدة الكبرى، في مقابل تصاعد قوة الرجل الذكورية، وبذلك نصبح أمام نسيج متشابك من العلاقات، يسهم تنوعه الزخم في دفع مسار الأحداث نحو الأمام، والأهم إزاحة اللثام عن أجواء تلك المرحلة السابقة، بما تحتويه من اختلافات متباينة عن العصر الحالي.

عالم جديد تصل آثاره إلى القرية

تتكاثر الأقاويل عن المدينة المدججة بفرص العمل الواسعة ووفرة الرزق، فالشركات الأجنبية الوافدة على السوق الصيني المنفتح حديثا، تؤسس لعالم جديد مغاير عما يألفونه في تلك القرية البدائية، صحيح أن تلك المدينة البعيدة لا نراها بالعين المجردة، لكن حضورها طاغٍ محسوس وملموس تأثيره، لا على الأفراد العائدين في إجازات قصيرة المدى فقط، بل إن هذا التأثير يتنامى في الرغبة في اللحاق ومواكبة هذه التغيرات المتلاحقة.

عائلة “تشوانغ” مجتمعة

وهنا يصبغ السرد على المدينة صفات سحرية، وكأنها إحدى مدن ألف ليلة وليلة، ومن ثم تنشأ تلقائيا مقارنة غير متكافئة بين القرية والمدينة، أو -بمعنى أدق- بين جغرافية الهامش واتساع المتن، وهكذا يمكن قراءة دلالات الصراع الدرامي، القائم على الصراع بين التقليدية والحداثة، وحينها يمكن تأويل معالم أركان هذا النزاع إلى الاحتكاك بين بدائية الريف وأصالته الطازجة، وحداثية المدينة الهشة.

ولأن لا شيء يبقى على حاله، كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش، تهتز أعمدة القرية الثابتة، لتبدأ غواية المدينة ممارسة دورها المألوف، فالجميع يرغب بالهجرة والهروب من أَسر هذا المكان المحدود ذي الفرص الشحيحة إلى أضواء مكان آخر بعيد، فالمقارنة بين حالة الطرد المركزي التي تمثلها القرية، في مقابل القوة المغناطيسية الهائلة للمدينة الحديثة، تشكل النسبة الكبرى من الرقعة الفيلمية (132 دقيقة تقريبا).

فريق الفيلم أثناء العرض العالمي في مهرجان برلين

ويستمر السرد الفيلمي في التعبير عن التوغل الموحش للمدنية الحديثة على حساب بدائية القرية، فأطقم التنقيب عن النفط قد انتشرت بين ربوع القرية النائية، وبدأت تبزغ بشائر عملهم مع ثقب الأراضي الزراعية وتفجيرها، بحثا عن إشارة -وإن يسيرة- لوجود قطرات من الماء الأسود، وبذلك تنحسر رقعة الأراضي الزراعية، في تناسب عكسي مع عدد الشركات والمصانع المتزايدة.

فالتحول من المجتمع الزراعي العتيق إلى الصناعي الحديث تلزمه تضحيات، لذلك لم تتوقف قاطرة التنمية عند هذا الحد، ففي أحد المشاهد نرى أحد أفراد الأسرة، يخبره العم الأكبر بعدم الحاجة لاستخراج الطمي من الأرض الزراعية، فلا أحد يحتاج الآن إلى هذا النوع من الأحجار، فأنماط البناء الحديثة هي التي تحظى بالقبول.

وبناء على ما سبق، يمكن ملاحظة أن الفيلم يؤسس لتقديم سيمفونية شجية عن تتابع الزمن وتدفقه، فالحقيقة التي يرغب الفيلم بصياغة أفكارها هي قدرة الزمن واندفاعه على محو كل ما عداه، فالبقاء في هذه الحالة النادرة ليس للأقوى، بل للأكثر تطورا واندماجا مع المتغير الحديث القادم من المجهول.

نظرة شاهد على العصر يفيض براءة

كفيلمه السابق “عبور الحدود” (Crossing the Border) الذي أخرجه عام 2018، يقدم المخرج “هيو مينغ” سرديته من زاوية طفولية المنشأ، فالبطل في كلا الفيلمين طفل لم يتذوق مفردات العالم بعد، أولهما ينطلق برفقة جده في رحلة إلى العمق الصيني لزيارة صديق العائلة القديم، أما في سردية فيلمنا الجديد فيواجه انحرافات تبدل الأزمنة.

فنظرة الطفل إلى العالم دوما ما تتباين مع غيرها، فالاحتكاك الطفولي الصادق البريء مع مكونات الحياة الصلبة وما يحيط بها يضيف قيمة مضاعفة، وفي هذا الفيلم تروى الأحداث والوقائع من عين طفل لم يكد يبلغ عشر سنين، وتبدو عيناه المحدقتان نحو ما يدور حوله كالقوة الجاذبة، فتلتقط ما يكفي ويفيض من التفاصيل المحيطة، التي تقدم قراءة واسعة المدى عن هذا الزمن البعيد نسبيا.

وكأن الطفل هنا شاهد على مغادرة عصر، وحضور زمن جديد بمفرداته وتراكيبه المغايرة عن السابق، وحتى يكتمل السياق التعبيري عن هذه الفكرة، يطبق السرد ذلك عمليا على الشخصيات، فالزمن الماضي يندثر على حين فجأة عند وفاة الجدة، وفي تلك الأثناء تتوالد من رحم هذا الحاضر حقبة أخرى جديدة، دعم ظهورها ازدياد موجات الهجرة نحو المدينة، أما القرية فتجابه وحدتها بمفردها.

عمة الطفل “تشوانغ” تساعده على إرتداء ملابسه قبل حضور جنازة الجد، بينما تحيط بهما الحقول الخضراء الواسعة
ولتكتمل الصياغة البصرية عن هذه الفكرة، تلجأ كاميرا مدير التصوير “جوو دامينغ” إلى التنوع في الزوايا واللقطات وأحجامها كذلك، فالبداية مع أحجام اللقطات المتوسطة الوصفية، التي تسهب في التعبير عن ملامح هذا الزمن، وتسمح بالنفاذ إلى عمق المشاهد، مما يزيد إحساس المتلقي التأملي، هذا بالإضافة إلى الاعتماد على مصادر الإضاءة الطبيعية، مما يضفي لمسة صادقة على المحتوى البصري، أما تشكيلة الألوان فتتنوع درجاتها بحسب تبدل الزمن، وإن كان أغلبها يميل إلى الدفء.

ومن ثم بدا الإيقاع المونتاجي هادئا متوازنا، بما يتناسب مع الطبيعة المكانية والزمانية للأحداث، وعندئذ لا حاجة إلى الركض اللاهث وراء اللقطات، ومع ذلك بدا الفيلم مشدودا كالوتر، لا لقطة زائدة، ولا أخرى ناقصة، فالرغبة في بث التأمل ودفع الفكر على التدبر، هي ما ينشغل به الإطار السردي، وحينها يغلف السياق العام بلمسة شاعرية عذبة لا تخلو من الشجن، وتجعل الفيلم قطعة فنية رفيعة المستوى، ستصمد كثيرا أمام اختبارات الذاكرة، وهكذا الحال مع الأفلام السينمائية الكبيرة فنيا.

المخرج “هيو مينغ” بعد فوزة بجائزة الدب الفضي من مهرجان برلين السينمائي

وفي سياق وطيد الصلة بموضوع فيلمنا، يقول الكاتب والمفكر الأمريكي “فريدريك جيمسون”: ما بعد الحداثة ليست مجرد كلمة أخرى لوصف أسلوب معين، بل على الأقل مفهوم له وظيفة زمنية، يربط بين ظهور نوع جديد من الحياة الاجتماعية ونظام اقتصادي جديد.

والصغير “تشوانغ” تلتقط ذاكرته المطاطية تلك المشاهدات الكاشفة لميلاد زمن جديد، من رحم السابق الآمن في غفوته الممتدة، تُرى هل سيندمج وينصهر تلقائيا مع مكونات هذا الواقع الجديد؟ أم سيواجه غربة هذا العالم فردا منسيا؟

وكم في عالمنا من فرادى!


إعلان