“يوميات سماء”.. أرقام ونتائج مرعبة عن فضاء لبنان المستباح

اتخذ طيران العدو الإسرائيلي سماء لبنان فضاء مستباحا، ينتهكه متى ما شاء، وبالطريقة التي يختارها، وبالوسيلة التي يريدها، من غير أن تتحرك الدول الكبيرة، تلك التي لها سلطة قوية ويد طولى في القضايا العالمية، مع أن هذا الأمر يعد عدوانا صارخا وصريحا، وينتهك سيادة دولة قائمة، وعضوا رئيسيا في الهيئات الدولية.

والمُحزن أكثر أن تلك القوى تغطي هذا الإجرام، إما بالصمت المطبق، أو دعمها بالوسائل الرئيسية للقيام بتلك الانتهاكات، وهذا تجاوز واضح لا لبس فيه لقرارات هيئة الأمم المتحدة.

استباحة طيران العدو الإسرائيلي لم يحدث في المدة الماضية فقط، بل هو سلوك ممتد منذ سنوات، أي أنه لم يتوقف قط، ويحدث بدرجات كبيرة وبكل الأنواع، بالطائرات النفّاثة والمسيرات.

كما أن غرضها لم يكن عسكريا فقط، يهدف للتجسس والرصد، وربما هذا أمر ثانوي، مقارنة بالأغراض النفسية التي تحدثها أصوات تلك النفّاثات المفزعة، لا سيما عندما تطير طيرانا منخفضا، في كل الأوقات ليلا ونهارا.

ملصق الفيلم

لذلك فقد زرعت كثيرا من العلل النفسية والجسدية الخطيرة لدى فئات من اللبنانيين، وجعلتهم في حالة ترقب وقلق دائمين، يشعرون بعدم الراحة المستمرة، ناهيك عن إحساس النقص والاستصغار الذي تفرضه عليهم تلك السلوكيات المدروسة بعناية فائقة، وهي معطيات وآثار ونتائج وإفرازات رصدها الفيلم الوثائقي اللبناني “يوميات سماء”، للمخرج لورنس أبو أحمدان (2024).

معالجة سينمائية متميّزة تغرد خارج السرب

يتجاوز فيلم “يوميات سماء” الصياغة العادية التي ألِفها المتلقّي عن الأفلام الوثائقية، فيكسر أفق توقع الجمهور، الذي تعود قوالب مشاهدة معيّنة، تقوده إلى طريق معلوم مسبقا، لكن المخرج حاد عن هذا الخط، ورسم لنفسه أسلوبا متفردا، انتصر فيه للأسئلة التي يراها صحيحة وعميقة، ولكنها لم تُطرح كما ينبغي في المشهد الإعلامي والثقافي والسينمائي اللبناني، وربما حتى العالمي.

لهذا صاغ مقاربة مهمة، انتصر فيها لفعل الصوت ودوره المحوري، وأثره المباشر على حياة الانسان، لا سيما وهو باحث في مجال الصوتيات، وله باع طويل فيها، لذا تعامل معها على أنها ظاهرة، لها ارتدادات الحاضر والماضي وحتى المستقبل.

الصوت في هذا الفيلم ليس حدثا عابرا، بل هو جوهر وقيمة، والمتسبب في خلق علل نفسية كثيرة، لدى كثير من اللبنانيين كما روى الفيلم، لأن العدو “الإسرائيلي” بعدوانه المتكرر، وانتهاكاته الجوية التي لا تنتهي في سماء لبنان، لم يكن بمعزل عن الظاهرة المرضية النفسية، لأنه اعتمدها مقاربة لسياساته “الخبيثة”، لهزيمة الفرد اللبناني، وإلصاق شعور الخوف والرعب فيه، وجعله يشعر بأنه تحت رحمته دائما، وتحت عيونه التي ترصد كل شيء.

ولم تكن الآراء العلمية التي سيقت في هذا الموضوع المهم مجرد أقوال واتهامات عابرة، بل استند في ذلك على آراء علمية في غاية الدقة والمصداقية، سواء تلك التي أجريت في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى من مكاتب الدراسات “الإسرائيلية” نفسها.

من هنا يكون المخرج قد صاغ مقاربة سينمائية في غاية المعرفة، لأنه استند على منطلقات علمية جمعها من جهات شتى، وأرقام نالها بجهوده، قادته حتى لهيئة الأمم المتحدة ومكاتبها.

تحولت سماء لبنان الى فضاء مستباح للعدو الإسرائيلي

كما وازن بالمعالجة الإخراجية بين الموضوع والشكل أو الأسلوب السينمائي، بمعنى أنه ابتكر أسلوبا خاصا به، اعتمد فيه على رصد سماء بيروت، وتسجيل الانتهاكات الجوية، من غير أن يتحرك بكاميراته على الأرض، كما أنه لم يعتمد على شهادة الضحايا أو السياسيين والمختصين، بل ذهب مباشرة إلى لغة الأرقام ونتائج الدراسات، وكأنه بذلك يكتفي بتلك القيم التي وصل لها.

حتى إنه استطاع تجاوز وقت الفيلم الافتراضي، وحصره في زمن درامي قدره 44 دقيقة، ومع أن تصوير السماء شحيح، فإنه سيّر ذلك الفضاء بحكمة، انطلاقا من سرد الراوي العليم، ذلك الذي يقدم مقاربات في غاية الدقة، وفي نفس الوقت يعطيها قيمة أكثر اتساعا، لا سيما أن السارد هو المخرج، وهو الباحث، وهو مقتفي الآثار الجانبية، وهذا ما يجعلنا نذهب ونطلق على هذا النوع من الأفلام سينما المؤلف، حتى لو كان الجنس السينمائي الذي تعامل معه هو “الوثائقي”.

أرقام مفزعة تثبت حجم الانتهاكات

أرقام مفزعة تلك التي ساقها المخرج لورنس أبو حمدان في فيلمه “يوميات سماء”، ولقد وصل لها بعد مراسلته وزيارته لجهات كثيرة، بداية من الحكومة اللبنانية، ثم مبنى هيئة الأمم المتحدة، ولم يجد إلا الصد من كثير منها، لكنه استطاع بطرقه ووسائله أن يقف على بعضها، منها مثلا أنه في شهر مايو/ أيار 2020، سُجل 150 اختراقا للمجال الجوي اللبناني، منها 102 من المسيرات، و46 طائرة نفاثة، فكان المجموع 453 ساعة و40 دقيقة من زمن الاختراق.

وفي الشهر الموالي سُجل 200 اختراق، من طرف 156 طائرة مسيرة، و38 طائرة نفاثة، وكان مجموع ساعات الاختراق 672 ساعة و42 دقيقة.

المخرج أبو حمدان في جولة في سماء بيروت

ثم في الشهر الموالي سُجل 440 اختراقا، منها 360 طائرة مسيرة، و42 طائرة نفاثة، وقد استهلكت تلك الاختراقات 1976 ساعة و49 دقيقة.

هذه الأرقام المخيفة حدثت ــــ في بضع شهور من سنة 2020 فقط، وقد حدث مثلها وأكثر منها في الشهور والسنوات الأخرى، حتى أن ممثل دولة لبنان في هيئة الأمم المتحدة قدّم 243 رسالة احتجاج وشكوى في سنة 2006 فقط، لكن لا حياة لمن تنادي، والحال كذلك لغاية كتابة هذا الأسطر، أي بعد سنة من تاريخ إنتاج الفيلم (2024).

رعب الأصوات.. طائرات نفّاثة تنتج العلل النفسية

أثرى المخرج لورنس أبو حمدان محتوى فيلمه “يوميات سماء” بحقائق علمية كثيرة، منها دراسة ألمانية أُجريت على مجموعة من الألمان، ممن كانوا يسكنون بجانب القاعدة العسكرية الأمريكية في ألمانيا الغربية في عهد الانقسام، وهذا بسبب زئير الطائرات التي كانت تنطلق يوميا وتحلق بعلو منخفض بلغ 70 مترا.

أطلقت أمريكا يومئذ على تلك التدريبات “صوت الحرية”، لكن النتائج كانت وخيمة على الأفراد الألمان الذين شملتهم الدراسة، وأثبت الدراسة أن أصوات الطائرات النفاّثة لها تداعيات صحية خطيرة على القلب والأذن وضغط الدم والجلطات وغيرها من الأمراض والعلل الأخرى، سواء الجسدية أو النفسية.

وتلك سياسة خبيثة يمارسها العدو الإسرائيلي اليوم على لبنان، لتوسيع دائرة الأمراض والخوف، لا سيما باستعمالها المفرط لطائرة “آف 35″، فهي تُسير تجارب عليها في فضاء لبنان، لا سيما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تستطيع إجراء تحسينات وتجارب على تلك الطائرة، مع أن كثيرا من الدول شاركت في استثمار صناعتها.

طلعات جوية مستمرة لزرع الخوف والعلل النفسية بين اللبنانيين

ولقد وجّهت وزارة الدفاع الأمريكية تحذيرات لكل الدول التي اقتنتها، بضرورة عدم فتح برغي واحد من الطائرة، إلا بإشراف مباشر من الولايات المتحدة، وقد استثنت من ذلك إسرائيل، التي تحسنها وتطورها، وقد اتخذت الفضاء اللبناني مسرح تجارب.

ولم يكتف الطيران الحربي الإسرائيلي بإرهاق اللبنانيين جسديا ونفسيا فقط، بل تعداه إلى أفعال أخرى، ففي 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 رمت طائرتان نفاثتان جسما غريبا على أحد شواطئ لبنان، عند الساعة السادسة وخمس دقائق، وماتت بعدها جميع الأسماك، وقد استنتجوا أنهم جربوا شيئا ما لقتل الحياة في ساحل لبنان، وبذلك تتسع دائرة الإجرام، وتشكل خطرا واضحا ووجوديا على كل شيء في هذا البلد الجميل.

جسد على الأرض وعدسة موجّهة للسماء

لم يتردد المخرج لورنس أبو حمدان (مواليد 1985) في تشكيل سمفونية سينمائية مغايرة، لا سيما أنه ركّز في عمله على ثقافة السماع والأصوات، خدمة لأبحاثه وتخصصه في مجال الصوتيات، وهو السياق الفني الذي تخصص فيه، وأنجز حوله أبحاثا أكاديمية وسينمائية.

لهذا فإن ثقافة السماع حاضرة بقوة في فيلمه، انطلاقا من صوت الطائرات المدوية، وانتهاء بصوت مولدات الكهرباء، حين يبدأ دويها مع انقطاعات الكهرباء المتكررة في بيروت، وبذلك تصبح أذن اللبناني واقعة تحت كثير من الصدمات، نتيجة تلك الفوضى الكبيرة.

بذلك يقدّم المخرج سردية سينمائية وثائقية صادمة ومرعبة، عن الحقائق المغيبة، والتعذيب المقنن، والسياسات الإجرامية التي يرتكبها العدو الإسرائيلي، انطلاقا من التسليح الجوي.

مخرج الفيلم لورنس أبو حمدان

والسياسات الإجرامية التي يرتكبها العدو الإسرائيلي، انطلاقا من التسليح الجوي.

من هنا يصبح التكرار حالة مقلقة، ترسم خيوط مستقبل غامض وخطير، في ظل تلك التوترات التي تحدث يوميا.

كل هذه الصور والمعطيات الجمالية، نابعة من ذات المخرج وعذاباته الشخصية، لهذا التحم معها ومع كل تفاصيلها بجدية بالغة، كما استحوذت سماء بيروت المستباحة على انتباهه وتركيزه، فصنع فيلما وثائقيا ينبض بالحياة والحقائق والجمال، بجسده الملتحم مع الأرض، وعدسته الدقيقة الموجّهة للسماء.


إعلان