“ملفات بيبي”.. تحقيقات سرية مع المتغطرس الذي جعل العالم رهينة لطموحه

بلا هالة ولا تفخيم معتادين، بل أقرب إلى المهانة، كان دخول رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” إطار الصورة في تسجيل فيديو صورته الشرطة الإسرائيلية قبل أعوام.
وكان في انتظاره شرطيان لم يكونا مهتمين كثيرا بالزعيم السياسي الجدلي، بل واصلا ببرود مهمتهما، وهي التحقيق في فساده، الذي كان متواصلا سنين عددا، قبل أن يأتي عدوان غزة الحالي ليمنحه قبلة حياة جديدة، كان في أمس الحاجة لها.
وصل تسجيل “نتنياهو” السري ذاك، وتسجيلات أخرى مع زوجته وابنه المتطرف ومساعدين وخدم، إلى المخرجة الجنوب أفريقية “أليكسيس بلوم”، لتؤسس عليها فيلمها الوثائقي “ملفات بيبي” (The Bibi Files)، وهو اسم تدليل يطلق على “بنيامين نتنياهو”.
يربط الفيلم بسلاسة كبيرة بين فساده والحرب المدمرة في غزة، كما يغوص في دعوات الفساد، ويكشف تفاصيل بعضها لم يصل قط إلى الإعلام الواسع، ويحاور شخصيات كانت في قلب الأحداث، وشهدت على تفاصيل كثيرة، قبل أن يعزلها “نتنياهو” ويضع لها بدائل.

والحال أن المشهد الافتتاحي المذل سيحدد إلى مديات بعيدة سياقات الفيلم وروحه وخطه الاستقصائي، فالفيلم يهز بقوة لم نشهدها في السينما الوثائقية صورة “نتنياهو” المعتادة، الذي يتصدر المشهد السياسي الإسرائيلي منذ 30 عاما، رسم فيها سياسات الدولة الإسرائيلية، وارتكبت في سنوات حكمه أفظع مجازر التاريخ الحديث.

وليس معروفا كيف وصلت هذه التسجيلات السرية إلى المخرجة، والفيلم لم يتوقف عند ذلك، ربما حفاظا على خصوصية المرسلين، في حين يتواصل الاهتمام بهذا الفيلم الوثائقي في المهرجانات السينمائية التي يعرض فيها، كما أنه وصل إلى القنوات الأوروبية وعُرض عليها، فهيّج في كل عرض كثيرا من الاهتمام والغضب الإعلامي والشعبي، لا سيما مع تواصل عرض الصور الرهيبة التي تنقلها الشاشات من حرب الإبادة في غزة.
“هل تريد أن تجرّمني؟”.. غضب الرئيس الفاسد على المحقق
صرخ “نتنياهو” في وجه أحد الشرطيين اللذين كانا يجلسان على الطرف المقابل له من الطاولة، قائلا: هل تريد أن تجرمني؟ تجرم رئيس وزراء إسرائيل؟
ومع أنه كان في تحقيق رسمي، فقد بدا أنه لم يفهم أن هناك من يجرؤ على إسقاطه من مكانته ويحقق معه، وهو الذي يرى في نفسه أهم من مرَّ على سُدة الحكم في إسرائيل.
وبسبب طبيعة فيديوهات التحقيق التي صورت من زوايا لم تكن مهتمة بإظهار وجوه رجال الشرطة، فلم يكن ممكنا معرفة ردود أفعال المحققين، بل كانوا لا يظهرون في تسجيلات أخرى بسبب زاوية التصوير، فقد وضعت الكاميرات في أعلى الغرف، فلم يكن ممكنا رؤية وجوههم، وكان يمكن سماع ردود أفعالهم، وذلك أمر له أهمية كبيرة في فهم سياقات القضايا التي كانوا يتناولونها.

بدا واضحا أن “نتنياهو” كان يصارع غضبه، الذي كان يتفجر في مواقف، لكنه حاول مرارا التأثير عاطفيا على المحققين واستمالتهم بتذلل أحيانا، وذكّرهم في مواضع بما قام به في حياته السياسية السابقة، فكيف يمكن لرئيس بهذه “المنجزات” أن يكون فاسدا أو يقبل هدايا من رجال أعمال؟
نبش في قضايا الفساد
اختارت المخرجة توظيف فيديوهات التحقيق السرية، لكشف مزيد من التفاصيل عن قضايا الفساد التي تلاحق “نتنياهو” منذ عقد من الزمان. ويستعين الفيلم بشهادات خبراء ومطلعين إسرائيليين، لاستكمال الصورة العامة عن هذه القضايا التي بدأت في عام 2016، ولم تتوقف حدتها إلا مع الحرب المتواصلة في غزة.
يبدأ الفيلم بالتركيز على تسلم “نتنياهو” وعائلته هدايا منها خمور “شمبانيا” فاخرة، وإلى ضلوعه في قضايا أكثر خطورة، منها التدخل في نشاط الحكومة، لتمرير قوانين معينة لخدمة أناس بعينهم. وفي كل تفصيل يستعين الفيلم بشهادات موظفين مقربين من “نتنياهو”، تركوا الخدمة عنده منذ سنوات.
يبرز في الثلث الأول من الفيلم المدعو “أرنون ميلشان”، وهو رجل غامض يعمل في تجارة السلاح، وكان قد انتقل إلى مجال الإنتاج السينمائي في الولايات المتحدة، فنراه في مونتاج سريع مع نجوم سينمائيين عالميين.
ميلشان” هذا هو أحد المقربين جدا من “نتنياهو”، وقد خضع أيضا للتحقيق، ونراه في تسجيل سري يدافع عن “نتنياهو”، لكنه لم يستطع أن ينفي علاقته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وعائلته.

كما استمعت الشرطة الإسرائيلية إلى شهادات مئات من الناس، منهم من كان مقربا جدا من “نتنياهو” وعائلته، فمن أولئك مدير حملاته الانتخابية “نير حيفتس”، وكان ذراعه الأيمن سنوات، ونراه في مشاهد أرشيفية من تلك السنوات، قبل أن يترك الخدمة ويصبح مُعارضا.
والمفارقة أن “نتنياهو” سخّف كثيرا في أحد التسجيلات أهمية دور “حيفتس”، مع أن الفيلم جمع ما يكفي من المادة الأرشيفية، التي تثبت تقاربهما وقوة علاقتهما في الماضي.
“سارة”.. امرأة الزعيم السكيرة المتعالية
يفرد فيلم “ملفات بيبي” مساحة كبيرة نسبيا لزوجته “سارة”، وقد أجمع كل من تحدث في الفيلم أنها تدير من خلف ستار كل ما يتعلق بزوجها، بل إنها تؤثر على قراراته السياسية، وقد خضعت مثله لتحقيقات الشرطة، بيد أنها حُقق معها في مركز الشرطة، وحُقق معه في مكتبه الرسمي.
ومع أن تحقيقات “سارة” كانت ضعيفة الجودة مصورة بالأسود والأبيض، فإنها وفرت إثارة للفيلم، فقد كانت تتحدث بلهجة متعالية، وتهاجم الشرطة بلا هوادة، وبدت في بعض التسجيلات كأنها سكرى، وقد نقل كثير من المقربين منها أنها تدمن شراب الخمر.

لقد كانت تهاجم الشرطي بنبرة متكبرة، فمن ذلك قولها: كيف تجرؤون على مهاجمة زوجي، إنه يُستقبل في دول العالم استقبال الأبطال وأنتم تهاجمونه هكذا.
ولم تكن تتوقف أمام أسئلة الشرطة، بل كانت لها أجوبة جاهزة، هي في مجملها هجوم متواصل على المحققين وعلى الإعلام في إسرائيل، الذي تتهمه بالعداء لزوجها.
“يائير”.. خليفة مدلل أشد تطرفا من أبيه
يمر الفيلم على ابنه “يائير”، الذي بدأ يكشف في السنوات الماضية طموحات سياسية، وقد خضع إلى تحقيق يتعلق بالتأثير على موقع إخباري، كان يحظى بشعبية كبيرة جدا في إسرائيل قبل عقد، ووجهت له تهمة ممارسة نفوذ غير شرعي على الموقع الإلكتروني.

كما يمر الفيلم على ابن “نتنياهو” “يائير”، الذي بدأ يكشف في السنوات الاخيرة عن طموحات سياسية. وقد خضع هو الآخر إلى تحقيق يتعلق بدوره في التأثير على موقع إخباري على الإنترنت كان يحظى بشعبية كبيرة جدا في إسرائيل قبل عقد من السنوات، ووجهت له تهمة ممارسة نفوذ غير شرعي على الموقع الالكتروني.
كانت لهجة “يائير” المتطرفة تفوق بمراحل لهجة أبيه التي اشتهر بها، فقد هاجم بقسوة كبيرة اليسار الفكري والسياسي في إسرائيل، كما تناول بعنصرية بغيضة الفلسطينيين، تقارب ما يتحدث به اليمين المتطرف في إسرائيل.
كما بدا مشغولا بتصوير نفسه خليفة أكثر تطرفا وتشددا من والده، وترسيخ تلك الصورة، وهو ما يبدو أن المجتمع في إسرائيل في حاجة متواصلة له.
“أخذنا كلنا رهائن”.. الحرب التي كان ينتظرها “نتنياهو”
لم يقدم فيلم “ملفات بيبي” في أكثر من نصفه خطا زمنيا واضحا، لكنه استهل في ثلثه الأخير مسارا زمنيا بدأ بما حدث في السابع من أكتوبر عام 2023، ومرّ بعدها على الحرب في غزة.
وهو يجمع مشاهد من الحرب، ومشاهد من احتجاجات فلسطينية من سنوات ماضية، تكرس طريق آلام الفلسطينيين الطويل.

يقول خبير إسرائيلي في الفيلم: لتفهم فوضى المنطقة، عليك أن تفهم أولا الحمولة القانونية الثقيلة التي يعاني منها “نتنياهو” بسبب قضايا الفساد.
تلخص هذه العبارة الظروف التي قادت لعدوان غزة المتواصل، ويصف هذا الخبير الحرب من منظور “نتنياهو” بأنها “وسيلة للبقاء في السلطة”، حتى أنه “أخذنا كلنا رهائن”، و”كلنا” يقصد بها إسرائيل والعالم.
يختار الفيلم مشاهد مروعة من حرب غزة، من التي تصل كل يوم إلى الإعلام، ويضعها أحيانا في مقابل “ما فعلته حماس في السابع من أكتوبر”، لمنح الفيلم توازنا، لكنه يعود كل مرة إلى قضايا الفساد ويربطها بحرب غزة.
كما يربطها بتحالف “نتنياهو” مع سياسيين إسرائيليين متطرفين للغاية، وضمهم لحكومته، ومنحهم مناصب وزارية، مع أن هؤلاء ضالعون في جرائم وتصريحات عنصرية، كانت ستضعهم في السجن لو كانوا يعيشون في دول تحترم القانون.
حوادث وفراغات تفسر ظاهرة “نتنياهو”
بما أن “نتنياهو” هو مركز هذا الفيلم الوثائقي، فقد توقف أمام حياته ونشأته، ولقي صديقا قديما له وصف نفسه ضاحكا بأنه صديق رئيس الوزراء الوحيد، وكان معروفا أن “نتنياهو” لم يكن له كثير من الأصدقاء.
وبدا أن مقتل أخيه الضابط الشاب في عملية مخابراتية بأفريقيا في منتصف السبعينيات أثناء مواجهة مع ثوار فلسطينيين، هو الحدث الفاصل في حياة المراهق “نتنياهو”، وقد حددت إلى حدود كبيرة وجهاته في المستقبل، وهي ما يفسر تطرفه وقسوته.

يكمل الفيلم فراغات سيرة “نتنياهو”، ويعرضها بين مشاهد تحقيقات الشرطة السرية معه، فنراقب مثلا صعوده السياسي عبر السنوات، حتى أصبح عام 1996 أصغر رئيس وزراء إسرائيلي منتخب. كما يتناول خطه السياسي الذي كان يرتكز على خلق الفوضى، وإظهار نفسه مخلصا للأمة الإسرائيلية.
وعلى ما للفيلم من أهمية، من حيث إنه كان جسر وصول مشاهد التحقيقات السرية إلى العالم، فإنه يشكو من الطول (115 دقيقة) والتكرار، ويفتقد القلب العاطفي، حتى إن أكثر مشاهده تأثيرا مشهد لا علاقة له بالشأن الإسرائيلي، بل بمسعف طبي فلسطيني من الضفة الغربية، روى في شهادة مؤثرة جدا مقتل زميله الفلسطيني أمام عينيه، عندما كانا يحاولان إنقاذ عائلة فلسطينية أحرق متطرفون إسرائيليون بيتها، وتلك إحدى الحوادث التي لا تصل كثيرا إلى الإعلام الواسع.