“مارسيل أوفولس”.. قرن من السينما الوثائقية التي تدين فكرة الاحتلال

مع إعلان وفاة مخرج الأفلام الوثائقية الفرنسي “مارسيل أوفولس” يوم 24 مايو/ أيار 2025، ظهرت كتابات عالمية كثيرة، امتدحت مسيرته السينمائية.

قد تكون صادفتَ نعيا عربيا هنا أو هناك، فبجانب موت متكرر يتابعه كل عربي يوميا في غزة، وغيرها في السودان واليمن ولبنان بين وقت وآخر، فقد وجد بعض الحزن مكانه للترحّم والتعزّي على سيرة مخرج غربي، أدانت أفلامه الوثائقية فكرة الاحتلال في أوقات عدة بشكل مباشر وغير مباشر.

ملصق فيلم “الحزن والشفقة”

تسعى الجزيرة الوثائقية إلى إلقاء ضوء شفيف على مسيرته الملهمة، بالتعرف على فلسفته التي صنعت نموذجا استثنائيا للحديث عن الحرب، وانتهت بالعمل سنوات على فيلم وثائقي عن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، بعنوان “الحقائق المؤلمة” (Unpleasant Truths).

قدّم حياته التي قاربت 100 عام (1927-2025) مخلصا للسينما الوثائقية، التي تدين الحرب في كل مكان وزمان. صراعات متعددة لم يكلّ أو يملّ منها المخرج الذي مات في هدوء داخل منزله في جنوب غرب فرنسا، حسب ما أعلنت عائلته؛ تلك العائلة التي ظلت بفضل هروب جدها من ألمانيا النازية عام 1933 تعيش في فرنسا، ثم اضطرت للفرار إلى الولايات المتحدة عام 1941. هربت من النازية لكي تدينها أمام العالم، كما يمكن مقاربتها بما يحدث الآن في فلسطين سينمائيا وواقعيا.

سيرة يبرز منها فيلمه الذي نال عنه جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي عام 1989 “فندق ترمينوس” (Hôtel Terminus)، كان بمنزلة تحقيق فلسفي عن جزار ليون “كلاوس باربي” رئيس المخابرات النازية سيئ السمعة، وبجانبه أولئك الذين حموه بعد الحرب.

الفرنسي “مارسيل أوفولس” يتسلم جائزة الأوسكار

وكذلك فيلمه “بصمة العدالة” (The Memory of Justice)، الذي حكى فيه عن محاكمات “نورمبرغ” وفلسفة المسؤولية الفردية والجماعية في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وغيرها من أعمال وضعت الحرب أمام سؤال مختلف تماما، قادم من الداخل لا الخارج مثل غالبية الأفلام التي اكتفت بإدانة المحتل فقط. يجرّم الرجل فكرة الحرب التي تعكّر صفو المنتصر والمهزوم معا.

إلى جانب هذه الأفلام وغيرها، جاء فيلم “الحزن والشفقة” (The Sorrow and the Pity)، الذي بدا الأكثر نضجا وتحققا في مسيرته، وهو ما نلقي الضوء عليه هنا تفصيليا، لمقاربته باللحظة الآنية مع ما يحدث في غزة فلسطين تحديدا، بعد أن نعرف أكثر عن اللحظة التي صنعت الرجل، قبل أن يخرج فيلم السابق لعصره كثيرا.

مدرستان بين الأب الخيالي والابن الواقعي

أصبح “مارسيل” مخرجا سينمائيا مثل والده “ماكس أوفولس”، وهو ما استدعى تخوّفا في البداية من أن تصبح مهنته وراثية لا تشوبها موهبة مثل كثيرين، لكن مع ذلك فقد كانت الاختيارات شديدة الاختلاف بينهما، فقد استطاع “مارسيل” تجنب المقارنات أولا على المستوى الأسلوبي، باتباعه التصور الوثائقي سينمائيا، بدلا من الروائي المتخيّل، واختار نوعا سينمائيا بعيدا تماما عن مسيرة والده.

لم يأت ذلك مباشرة، ففي بداية مسيرته أخرج فيلم “قشر الموز” (Peau de banane) عام 1963، وتلك بداية خفيفة نسبيا، تحمل بوادر أولى لما سيسيطر عليه لاحقا. وقد حقق نجاحا طفيفا في شباك التذاكر.

ملصق فيلم “الدائرة”

ثم أخرج فيلم “النار في الإرادة” (1965)، وكان ضعفه في صالات العرض مؤشرا كبيرا على ما يريده الرجل. وكان آخر مشروع له في عالم الخيال، باستثناء مسرحيتين للتلفزيون الألماني عام 1970؛ هما “الأيام العشرة الثانية” المقتبسة من مسرحية “الحلم” للكاتب “ساشا غيتري”، و”كلافيغو” للكاتب “يوهان غوته” الذي كان قد اقتبس منه والده كذلك.

بعيدا عن “مارسيل”، فإن تتبّع سيرة الأب في فيلمه “الدائرة” (La Ronde) عام 1950، و”المتعة” (Le Plaisir) عام 1952، يكشف الأسلوب الجماهيري الهوليودي، الذي اختاره بإرادته حين كان ابنه يخطو مراحله الأولى في الصناعة.

كان ذلك بعد سنوات من فيلمه الأنضج “رواية فيرتر” (Le roman de Werther) الذي أخرجه عام 1938، حينما اختار رواية “يوهان غوتة” لتجسيدها، وهي قصة رجل باع روحه للشيطان، وقد بدا أنضج أعماله فلسفيا، وقدمه تقديما جماهيريا تماما. أما “مارسيل” فقد اختار المسار الأقل جماهيرية، لكنه يعكس فيه أكثر فلسفة الإنسان في لحظات مضطربة كالتي عاش فيها.

ترك “مارسيل” دراسة الفلسفة، لكنه ظل مهوسا بأفكارها، وقد رتّبت الأقدار حضوره المبكّر في هوليود، التي تركها لاحقا طوعا، ليتحرك في مسار لا تحبّه هوليود كثيرا، وينتج أفلاما طويلة متحررة الشكل والخطاب والزمن، تتساءل ولا تهتم بالأجوبة وصناعة الأبطال، يتمرد بها الابن على والده وبيئته، وكل السلطات التي قزّمت رؤيته قديما.

غطس الأب في صناعة أفلام هوليودية، كانت مسكنّات للعالم الذي خرج لتوه من حرب عالمية، وكانت السينما مساحة تنفيس لديه، ثم جاء الابن من لحظة حرب شبيهة بالقسوة ذاتها، لكنه اختار أن يتساءل عن سببها الحقيقي الأبعد من جنرالات الحرب.

لقد كان يرى اختيارات الإنسان في أضعف حالاته، فلديه نضج سينمائي متميز، جعل كل إشارة إلى والده ليست ذات قيمة كبيرة. يحدّق الابن في المأساة ويراها حلا مثاليا بخلاف والده، بل يرى أن تناسيها بالسينما جريمة، وعلى السينما الوثائقية تفاديها.

“الحزن والشفقة”.. فلسفة تتجاوز زمانها ومكانها

في عام 1969، صنع “مارسيل” فيلم “الحزن والشفقة” (Le Chagrin et la pitie)، الذي قال إنه سيحكي فيه قصة مدينة كليرمون فيران الفرنسية، وكانت تحت الاحتلال الألماني أثناء الحرب.

أثار الفيلم استياء معاصريه، ومُنع عرضه على التلفزيون العام حتى عام 1981، وعرض لاحقا في دور السينما عام 1971، وحقق نجاحا مذهلا مع أنه كان طويلا جدا (251 دقيقة). وقد حقق الفيلم صدى في العالم كله، ثم رشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي.

ملصق فيلم “رواية فيرتر”

هنا تبدأ أسئلة “مارسيل” الحقيقية التي بدت جلية تماما، فالفيلم يستكشف التعاون مع النازيين ومقاومتهم، ولا يكتفي بإدانتهم، بل يزعزع تصور الفرنسيين لتاريخهم بكسر أسطورة الإجماع الفرنسي على مقاومة الألمان. يتساءل من الداخل عن المسؤول الحقيقي حول تلك الهزيمة؛ أبعد من “أدولف هتلر” الذي يستدعيه كل متحدث عن الحرب ويراه شرا مطلقا. يفرّغ الرجل كل شيء ليسأل ذاته من خلال أبناء بلده عمن تسبب في جنون “هتلر” الأبدي من الداخل لا الخارج.

جنرال فرنسي قرر تسليم مدينته إلى الغزاة

ما الذي يجعل فيلما يسرد قصة احتلال فرنسا مؤرقا للمؤيد والمعارض؟ ذلك الفيلم المتجاوز لزمانه ومكانه مكون من جزأين، يتناول الحرب العالمية الثانية في فرنسا، مركزا على الحياة في مدينة كليرمون فيران الصغيرة في قلب البلاد.

كان “يون بلوم” زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي يومئذ قد أعطى مكاسب كبيرة للعمال في 1936، ودعم كثيرا الحرب لآخر رجل ضد هتلر، ورفضه الأغلبية يومئذ بحجة أن الحرب خاسرة لا محالة.

ملصق فيلم “الحزن والشفقة”

في اللحظة ذاتها جاء الجنرال “بيتان” قائد مدينة فيشي الصغيرة، التي اختارها فيما بعد مقر قيادة متواطئة مع الألمان، وكان يرى أن “هتلر” يمكن أن يفعل ما يشاء بلا دمار، وقد سلّم له المدينة، وحصد شعبية واسعة، وقد حوكم بعد الحرب، ثم سُجن. ويبرز الفيلم ذلك حدثا مؤسسا للهزيمة، ويتساءل المخرج عن جدوى ذلك، ومساحات تأييد الفكرة فلسفيا من عدمها.

منع الفيلم من العرض في بيئة لم تشف جراحها

أقام صانعو الفيلم عروضا خاصة، لكن صناع القرار في التلفزيون لم يحضروا تلك العروض، مدّعين أنهم لا يجدون وقتا للنظر في فيلم طويل كهذا، وذلك لتجنّب الجدل الناجم عن رفض الفيلم بناء على مزاياه، فكانوا يتجاهلونه عله يختفي تماما.

لكن الفيلم عُرض بعد أشهر من انتخاب “فرانسوا ميتران” الاشتراكي رئيسا لفرنسا في بداية الثمانينات، وبمجرد عرضه “لم يكن الحدث السياسي والاجتماعي الذي توقعته القنوات”، وفقا لصحيفة “لوموند”، حتى مع عرضه بعد مرور سنوات، مرّ سريعا بأسئلته التي تدين الداخل أكثر.

في أغلب أفلامه يُنحي الرجل الموسيقى، كما يقلّل المونتاج، ويقف أمام أسئلة مؤرقة تماما للمؤيد والمعارض، تماما كما حدث في فيلمه “الحزن والشفقة”، الذي أغضب ألمانيا ومنعته فرنسا من العرض. إنها فلسفة تطرح أسئلة على الجميع، وتترك إجابتها مفتوحة، حول فرنسا التي سلّمها بعض أبنائها قبل مواجهة “هتلر”، من أجل حياتهم الشخصية، والخوف من المواجهة.

يبرز ذلك في “الحزن والشفقة” تماما، قصص متنوعة منفصلة متصلة، تتعلق بنظرة الإنسان الفرنسي إلى الحرب، من نجوا رغم حملهم للمأساة ومن ماتوا واكتفوا بمرورهم السريع تاريخيا. أسئلة عن معنى الحياة في لحظة ما بعد الحرب. كاميرا قريبة من الوجوه، لا تقاطع حديث أحد، فقط تسجل وتتساءل.

فلسفة مسرحية تلاحق الفارّين من الزحف

يعد إيقاع الفيلم الممل جزءا من فكرة مشاركة المُشاهد في إرهاق الحرب، حتى إذا كان يكتفي بمجرد مشاهدة الثرثرة حولها على الشاشة، وفي أحد مشاهده يسأل جندي صغير عن منطقية قرار الجنرال “بيتان” بتسليم البلاد لـ”هتلر”.

وفي مشهد آخر يحكي عن جنود حاولوا الهروب إلى شمال أفريقيا، وآخرين هربوا إلى مرسى الكبير في الجزائر، ثم قرر الألمان ضربهم بالقنابل. حتى الجنرالات الذين اتفقوا على ترك “هتلر” يضرب الضواحي، وتمركزوا في باريس، لعدم ضرب الآثار والأماكن الفريدة، عاملهم المخرج بمسرحية في الملهاة الطويلة تلك.

كل ذلك يمرّره للإدانة والتساؤل، لكن عرضها بأثر رجعي يحمل إجابة حتمية: ألا وهي أن الهزيمة الحقيقية التي حدثت إنما حدثت بالتراخي أمام المحتل، بدلا من مواجهته مهما كلّف الأمر.

ثمة مشهد حميمي ومثالي في ذلك الفيلم، يبرز فلسفة “أوفولس” تماما، في حكاية عابرة لا يقف أمامها كثيرا كعادة أسلوبه، إنها قصة جزار باع قطع سجق للألمان في المنطقة الآمنة التي سلّمها “بيتان”، واكتفى بحكمها الصوري، بعدها قرر الفرنسيون في المقاطعة محاكمته وسجنه.

تقف قصة الجزار غصّة أمام كل فرنسي للإجابة: ماذا كان عليه أن يفعل؟ يتحمل الرجل وحده قراره في بلد سلّم جنرالاته الدولة للمحتل. ويطرح سؤال واسع اليوم في مواقف شبيهة.

طوفان الأقصى.. هل المقاومة أفضل من السلام؟

يأخذ المشاهد العربي نفسا قصيرا، للمقاربة ما بين اللحظة التي اختارها “أوفولس” للتعبير عن الهزيمة الفرنسية، التي بدأت مع عدم الإيمان بالمقاومة، ليتساءل عن اللحظة الآنية فلسطينيا: هل أعاد طوفان الأقصى الإيمان بالمقاومة حقا، أم كانت مسالمة الحكومة الفلسطينية الرسمية بالتسليم والاكتفاء أفضل؟

هل نموذج الجنرال “بيتان” -الذي سلّم مدينته ليعيش- أمر مثالي أم أنها خيانة تستدعي الاحتقار؟ هل مجرد عدم وجودك في موضع مسؤولية ينزع عنك المسؤولية، أم أن الكاميرا قد تنقضّ عليك لتخيل دورك في الحرب؟ تقدم أفلام “مارسيل” إجابة ذلك السؤال، بوصفه النقطة الأكثر تأسيسا في حياة كل من عايش الاحتلال.

وفق فلسفة سينما “مارسيل أوفولس”، يرى المشاهد الأبطال العابرين والرئيسيين، القادة والمواطنين، غارقين في ماضي الحرب، في اختياراتهم التي تعامى البعض عنها أو تناساها عمدا ليعيش. هنا ثمة رسالة متكررة؛ وهي أن التاريخ سيمر بلا شك لإدانة من استسلم بلا مقاومة، وعاش حياة ذليلة حكى عنها الكبار والصغار في فيلمه.

“الحزن والشفقة” فيلم منزوع العواطف الشديدة، لكنه -كما يبدو من تسميته- مليء بالمشاعر المختبئة خلف ثرثرة طويلة عن الماضي، الذي دمّره التراخي والسلام المتوهّم.


إعلان