ملح الأرض.. “سيباستياو سالغادو” وفوتوغرافيا الجحيم والجنة

سيباستياو سلغادو

كتب عالم الاجتماع البولندي “زيغمونت باومان” مرة: ينبغي أن نحب المراسلين الصحفيين، إنهم يحدثوننا عن أراضٍ ربما لن نزورها أبدا. المراسلون هم فرصتنا الوحيدة لإلقاء نظرة على تلك الأراضي والأحداث البعيدة، حتى لو بأعينهم فقط.

حين أفكر فيما قاله “باومان” فإن أول من يتبادر إلى ذهني هو البرازيلي “سيباستياو سلغادو”، المصور الصحفي الذي حملنا إلى أقاصي العالم بعينه الفوتوغرافية الساحرة باحثا عن الحقيقة، حقيقة العالم وحقيقة الإنسان. “سالغادو” الذي غيّبه الموت نهاية مايو/ أيار 2025 الماضي طالما رأى نفسه شاهدا على الحالة الإنسانية.

تتجاوز فوتوغرافيا “سلغادو” الأفق الفوتوغرافي نحو المجاز، مجاز التاريخ والإنسان. في الفيلم الوثائقي المعنون “ملح الأرض” (The Salt of the Earth) الذي أخرجه فنان السينما الألماني “فيم فيندرز” -بالتعاون مع ابنه “جوليانو ريبيرو سلغادو”- يعلّق “سلغادو” على صورة أيقونية، التقطها لعمال منجم الذهب في سيرا بيلادا، واصفا مشاعره عند التقاطها بقوله:

ملصق فيلم “ملح الأرض”

“شعرت للحظة أن تاريخ البشرية كله مر أمام عيني. وجدت نفسي في فجر التاريخ، كدت أستمع إلى همس الذهب في قلب العمال. ينتابك شعور أن كلهم عبيد مع أنه لا يوجد بالصورة عبد واحد. إن كان أحدهم عبدا، فهو عبد لرغبته بالثروة. كان هناك أناس من مختلف الطبقات: مثقفون، طلاب جامعات، وعمال مزارع، وكلهم كانوا يحلمون بالثروة. من يلمس الذهب مرة واحدة يتغيّر إلى الأبد”.
لقد أعاد “سلغادو” ابتكار نفسه أكثر من مرة. بدأ حياته كخبير اقتصادي، يعمل في البنك الدولي، ويسافر كثيرا تحت رعايته، متخذا التصوير هواية له. لكن بعد أن التقى بحب حياته، “ليليا وانيك”، شجعته على أخذ التصوير على محمل الجد، وسرعان ما ترك العمل وبدأ مسيرته المهنية كمصور اجتماعي، يجوب العالم، أحيانا برفقة عائلته الصغيرة، ويلتقط صورا لحياة الناس في ظروف قاسية في كثير من الأحيان.

المخرج الألماني “فيم فيندرز” أثناء تصوير الفيلم

بعد أن استكشف الجزء الشمالي الشرقي من موطنه البرازيل، وكذلك منطقة الساحل الأفريقي، طوى جهود عمال الإطفاء في آبار بترول الكويت بعد أن أشعلها جيش صدام قبل خروجه منها في حرب الخليج الأولى.

كانت فوتوغرافيا “سلغادو” تتمحور غالبا حول مواضيع مقلقة وحزينة. لقد صوّر الإبادة الجماعية في رواندا، والنزوح والمجاعة في إثيوبيا، وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، أخذته تلك المشاريع إلى بعضٍ من أكثر الأماكن مأساوية وتدميرا، أماكن مزقتها الحروب والمجاعات.

لقد حدق الرجل في قلب الظلام، فأصبح حطام إنسان، وكان عليه أن يبتعد، ليرمم روحه قبل أن يعود لكاميرته. وكان آخر مشروع له -قبل اعتزال تصوير الكوارث والحروب- بعنوان “سفر الخروج”، وهو مجموعة من 300 صورة، تروي قصة المنفى والهجرة، متتبعا الذين أُجبروا على مغادرة وطنهم هربا من المجاعة أو الحرب، ثم عاد بـ”سفر التكوين”، وهو مشروعه الأجمل، وشمل فوتوغرافيا لأجزاء من العالم لا تزال محتفظة بطابعها البدائي، من جزيرة رانجل في سيبيريا إلى مرتفعات بابوا في غينيا الجديدة.

ولع بمغامرة الفن وشغف بالإبداع البصري

ينتمي “ملح الأرض” إلى سلسلة من الأفلام الوثائقية، التي أبدعها “فيم فيندرز” حول المغامرة الإبداعية لفنانين ملهمين، لديهم لغة مشتركة مع فنه، سواء كانوا موسيقيين أو نحاتين أو مصممي رقصات. يرى “فيندرز” الفن آخر ممالك الإنسان التي لا تزال تسمح بروح المغامرة والخلق.

تأتي هذه الأفلام كأنها رحلة خاصة إلى مناطق غير مستكشفة في أعمالهم. وفي عام 2011 صنع “بينا” (Pina)، وهو فيلم صُوِّر بالأبعاد الثلاثية عن حياة مصممة الرقصات الألمانية “بينا باوش” وعن فنها.

الطبيعة البكر في صور “سيباستياو سالغادو”

في “ملح الأرض” (2014)، ينغمس “فيندرز” في حياة “سيباستياو سالغادو” وفنه، محاولا اكتشاف الرجل المختبئ خلف قناع المصور. وقد صنع حديثا فيلما عن النحات الألماني المثير للجدل “أنسيلم كيفر”.

ما يربط “فيندرز” بهؤلاء الفنانين هو افتتان واضح بفنهم، وشغفه بإبداع الفنون البصرية عموما. في “ملح الأرض” لا يكتفي بسيرة الرجل، ولا بعمله الفوتوغرافي البارز، بل يمكنك أن تلمس روحه.

“كنت أصب لعنتي على الحكايات”

يقول المخرج “فيم فيندرز” في حوار معه: عندما بدأت العمل في السينما، كنت أصب لعنتي على الحكايات، فالشيء الوحيد الذي كنت أفكر فيه هو الصورة، ففي إخراجي فيلم “باريس تكساس” اخترت نوعا من البوح، وأدركت أن الحكاية كانت مثل نهر، وأنك إذا جرؤت على الإبحار فيه ووثقت به، فإن القارب سينتقل بك تجاه شيء ما سحري. أدركت أن الحكايات هناك، وأنها موجودة بدوننا، ولا حاجة لخلقها.

عمال مناجم الذهب في البرازيل

يرسو قارب “فيندرز” هذه المرة، على شاطئ “سيباستياو سالغادو” لينصت إلى حكاياته، حكايته الخاصة والحكايات المتضمنة في صوره الفوتوغرافية الفاتنة.

وهو يفند بفيلمه هذا الزعم القائل إن السينما الوثائقية تخلو من الحكايات، فإذا ما تغاضينا عن فكرة الحكاية بمفهومها العتيق، فنحن هنا أمام حشد من الحكايات الصغيرة، تمثل روافد لنهر الحكاية الرئيسي، ألا وهي حكاية “سالغادو” التي تأتينا بالتعليق الصوتي من 3 رواة مختلفين؛ هم “سالغادو” و”فيندرز” والابن “جوليانو”.

فكل رحلة خاضها، وكل صورة التقطها، تحمل حكاية خاصة، إنها منمنمات حكائية تتنقل بحرية بين الأماكن والأزمنة، وفي قلبها حكاية “سالغادو” الشخصية، لرسم صورة متعددة الطبقات، تجمع الرجل وعمله في إطار واحد.

تعليق يقتحم أعماق الشخصية بلا تشتيت

يفتتح الفيلم بصوت الشخصية على شاشة مظلمة تماما، وهو اختيار مثير لفيلم عن رجل يمتهن التصوير، ربما يعني ذلك أن المخرج أكثر اهتماما بالوصول إلى صوته الخاص ورؤيته الذاتية، واكتشاف الدوافع التي تحرك مسار هذه الرؤية، أكثر من مجرد عرض صوره أو التطرّق لأعماله.

وذلك ما يؤكده التعليق الصوتي المصاحب للصور المعروضة، فهو لا يكتفي فقط بتفاصيل المكان الذي التُقطت فيه الصورة وملابساتها يومئذ، بل يضيء بتأملات بسيطة عمق رؤيته وروح الصورة نفسها.

“سيباستياو سالغادو” يوثق حياة الشعوب

يجد المخرج طريقة تجعل بطله يتحدث إلينا من داخل صوره، فيجمع الرجل وعمله في إطار واحد، “سالغادو” في غرفة مظلمة، ولا شيء أمامه سوى مرآة شبه شفافة تنعكس عليها صوره، والكاميرا على جانب المرآة الآخر، تصوره من غير أن يراها، وقد جعله وجود الكاميرا الشبحي ينفرد بصوره بلا تشتيت خارجي، كأنه يقرأ يومياته المصورة في غرفته، لكنه -إذ يحدق في صوره- يحدق في عين الكاميرا أيضا.

يستغرق التعليق الصوتي زمنا وجيزا لا يعزلك عن المادة المصورة، ويأتي في جمل قصيرة ذات إيقاع شعري. وفي اللحظات التي تخلو من تعليق صوتي، يعرض المخرج تتابعا من الصور، تاركا للصور وحدها مهمة أن تكشف عن مكنونها، وإمكانات السرد المتضمنة فيها.

“تاريخنا تاريخ الحروب”.. رحلة تحرق أرجاء الروح

في بداية عمل “سالغادو” مصورا فوتوغرافيا، ذهب في رحلة إلى جنوب الإكوادور، فلقي مزارعا من قبيلة “السارغوروس” الأصلية يدعى “غوادا لوبه”، فأخبره أنه يؤمن بأنه آتٍ من السماء، ليراقب أعمالهم ويقيمها، كما تجسد الرب في هيئة المسيح، ليرى أفعال البشر ويقرر من منهم يستحق الجنة.

تشكل هذه الكلمات ما يشبه النبوءة بمسار “سالغادو” مصورا، وستتخذ أسفاره الآتية بُعدا آخر، رحلاته الآتية تشبه النزول إلى الجحيم.

“سيباستياو سالغادو” يصور الهجرات الجماعية أثناء الحروب

يتجول “سالغادو” في أنحاء العالم بكاميرته التي تشبه عينا إلهية، تراقب العالم متألمة في مواجهة الشقاء الإنساني، من حروب، ومجاعات، وأوبئة، وجفاف، وهجرات جماعية، وتطهير عرقي. إنه فصل في جحيم كوني يعود منه “سالغادو” فاقدا الإيمان بكل خلاص ممكن.

يعطينا “سالغادو” خلاصة رحلته في جحيم الإنسان قائلا: تاريخنا تاريخ الحروب، إنه حكاية لا تنتهي، حكاية القهر والجنون.

بعد سنوات من الترحال إلى أكثر الأماكن رعبا على وجه الأرض، شعر “سالغادو” أن روحه تموت، فابتكر مع زوجته “ليليا” فكرة سفر التكوين (Genesis)، الذي يوثّق مناطق نقية من العالم، ويصوّر الحياة البرية والمناظر الطبيعية التي تبدو كأنها لم تمس منذ فجر التاريخ. ويُظهر الفيلم كيف بدأ الزوجان معهد “الأرض” (Terra)، وهو مشروع ناجح لإعادة التشجير في موطنه البرازيل.

“سفر التكوين”.. نحو بداية جديدة للعالم

تتغير النغمة التي تحمل قدرا كبيرا من التشاؤم واليأس في آخر الفيلم، ويتزامن ذلك مع عودة “سالغادو” إلى مزرعة عائلته ومحاولة استعادتها من الموات الذي أصابها، وأيضا شروعه في تصوير ما أسماه “سفر التكوين”، وذلك استلهام توراتي يمنحنا شيئا من الأمل وإمكانية للخلاص، ببداية جديدة تستدعي العودة للبدايات.

يوثق سفره الجديد حضورا طاغيا للطبيعة والحيوانات، ولمجموعات من البشر تعيش في حالة فطرية وتناغم واضح مع الطبيعة المحيطة. إنه عالم آخر مذهل يتكشف أمامنا، وحالة من السلام بعيدة تماما عن العالم، الذي أشهدنا عليه في أسفاره السابقة.

ملصق فيلم “السماء فوق برلين”

يقول المخرج “فيم فيندرز” في حوار صحفي إن الإنسان دائما يبحث عما هو منجذب إليه بالضرورة. وفي ظني أن سبب افتتانه بشخصية “سالغادو” وعالمه هو أنه يشبه أبطال “فيندَرْز” السينمائيين الذين ينتمون إلى طائفة من جوالي الآفاق، في سفر دائم لمعرفة أنفسهم واكتشاف العالم، أو بحثا عن معنى.

حتى اختيار “سالغادو” التصوير بالأبيض والأسود لا يبدو غريبا على “فيندرز”، فقد صوّر بعض أفلامه أيضا بالأبيض والأسود، منها فيلمه “السماء فوق برلين” (Der Himmel über Berlin). ربما كان “سالغادو” أحد ملائكة “فيندرز” الآتين من السماء، الذين يُهدى إليهم فيلمه عن الملائكة.


إعلان