“العدالة الاصطناعية”.. تقنية تحل محل القضاء في دراما إسبانية قاتمة

بينما كانت القاضية الإسبانية تسأل المتهم الجالس أمامها عن الجريمة التي اقترفها، كانت تنظر في الوقت نفسه بقلق وعدم رضا إلى شاشة حاسوب أمامها.
إنه مشهد من الفيلم الروائي الإسباني “العدالة الاصطناعية” (Justicia artificial)، للمخرج “سيمون كاسال”، وقد كان حتى ذلك الحين يبدو عاديا، فكثيرا ما تُستخدم الحواسيب في قاعات المحاكم، لكن حاسوب الفيلم كان مختلفا، فهو جزء من تجربة جديدة جدلية للغاية، غايتها إحلال الذكاء الاصطناعي محل القضاة البشر.
وعندما يركّز الفيلم على شاشة الحاسوب، تظهر بيانات تتغير باستمرار، لتتفاعل مع ما كان يقوله المتهم، وتراقب حركة جسده وضربات قلبه، التي يسجلها جهاز مربوط بجسده، وفي النهاية يصل النظام الإلكتروني إلى خلاصة أن المتهم يحتمل أن يعود إلى ممارسة الجريمة في السنة الأولى من تسريحه بنسبة 82%، ومن الأفضل للمجتمع أن يبقى في السجن.

يقارب الفيلم الروائي بسوداوية كبيرة المستقبل الذي يمكن أن يحل فيه الذكاء الاصطناعي محل الإنسان في القضاء، فيمثل إحدى أهم مؤسسات المجتمع المدني، ومقياسا لاستقلاله. ويختار قصة تدور أحداثها قبل أسابيع من استفتاء حول تقرير مصير استخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء بإسبانيا، وبعد حملة قوية من الشركة التي طورت هذا الذكاء، وكانت من أكثر المتحمسين له.
قاضية تشكك في عدالة النظام الجديد
تجري أحداث الفيلم في المستقبل، لكن هذا المستقبل يبدو قريبا ومشابها كثيرا لزمننا الحالي، فتبدو هواجس شخصياته وما يشغل المجتمع من حولهم قريبة كثيرا من الإشكاليات التي تُخيِّم على حياتنا المعاصرة. وحتى التقنيات المستخدمة في الفيلم، لا تبدو متقدمة كثيرا عما نستخدمه اليوم، عدا استخدام السيارات ذاتية القيادة، وقد صارت شائعة كثيرا، وهذه التقنيات ستؤدي دورا مهما في قصة فرعية صادمة.

يركز الفيلم في افتتاحيته على فتاة شابة ذات حضور طاغٍ، تعمل مبرمجة في الشركة المصنِّعة للنظام الإلكتروني، الذي سيحل محل القضاة، وقد بدا قلقة وهي تحاول أن تصل إلى قاضية مستقلة، كانت من المشككين بقدرة النظام الجديد على إصدار أحكام قضائية عادلة، ثم استطاعت بعد عناء أن تنال موعدا مع القاضية، لكنها قُتلت بعدها بساعات في حادث سيارة أحاطه غموض كثير.
وقد شكّل مقتل هذه الشابة مفاجأة، فهو من جانب أذنَ بنهاية دورها في الأحداث وفي الفيلم، مع أنها كانت ذات حضور قوي جذاب، ومن الناحية الأخرى حوَّل الاهتمام في القصة إلى القاضية، فزادت تدريجيا مساحة دورها، حتى تصدرت الحكاية في منتصف الفيلم. وشكل حضورها قلب الفيلم العاطفي وضميره، بعد أن وجدت نفسها في قلب شبكة معقدة وعنيفة تحرّكها مصالح شركات متنفذة.
تحقيق يثير استياء جهات خفية
يثير مقتل المبرمجة الشابة “أليثيا” (الممثلة ألبا غالوتشا) استياء القاضية وغضبها، فتبدأ في التحقيق فيه بنفسها، ولكنها تجد نفسها سريعا في مواجهة مجرمين لا يتورعون عن فعل أي شيء في سبيل مصالحهم.
يُكرِّس الفيلم مشاهد عدة للبطلة، وهي تحقق على مهل في مقتل الشابة المبرمجة، فتجد رسالة إلكترونية أرسلتها إليها قبل مقتلها بيومين، كما أنها حين قابلتها كانت تبدو كأنها تريد البوح بأمر مُلحٍّ كثيرا، حول التقنية التي شاركت في تطويرها، قبل إجراء استفتاء شعبي عليها في إسبانيا.

ولئن كان التحقيق في مقتل المبرمجة الشابة لم يصل إلى نتائج كبيرة، فإن تحركات القاضية “كارمن” (الممثلة فيرونيكا إيشيجوي) بدأت تثير جهات غامضة، بدأت تضايقها وأحيانا تهددها.
تضيف تلك المضايقات طبقة من القتامة على حياة القاضية المعقدة أصلا، وهي حياة لم يتوقف الفيلم عندها كثيرا، إلا بإشارات على أزمات، منها ما هو ذاتي كحلم الأمومة المتعثر، ومنها وحدتها وعدم رغبتها أن تكون ضمن جماعة معينة، حتى إنها لم تنضم إلى جمعية القضاة الإسبان، وبقيت مستقلة، فذلك ما جعلها هدفا للرافضين للذكاء الاصطناعي في القضاء.

يتفرع الاهتمام في الفيلم بين مسارين: الأول في البحث عن قتلة المبرمجة، وقد وصل سريعا إلى الشركة التي كانت تعمل فيها، والمسار الآخر في القضية الأساسية، أي الاستفتاء القادم على استخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء.
لم يكن الجمع بين المسارين موفقا دائما، لما تضمناه من عناصر مختلفة في طبيعتها وروحها، وهو ما جعل جمعها صعبا في مواضع من الفيلم، لا سيما بعد أن اشتدت أزمة البطلة وصراعها مع القوى الخفية التي تطاردها، فبدا موضوع الذكاء الاصطناعي بعيدا كثيرا، وتضاءلت آنيته وحدته.
عداوة الذكاء الاصطناعي الناتجة من البرمجة
حسم الفيلم موقفه سريعا من القضية التي يتناولها، واختار أن ينحاز للجانب الذي يرفض الذكاء الاصطناعي، فقد شكّل ذلك الذكاء نموذجا من النظام المتوحش الذي يفترس ما بقي من إنسانيتنا، بحجج تسهيل حياتنا، لكن طموحات هذا الذكاء الاصطناعي ليس لها سقف، فقد بلغت القضاء نفسه، وهي ليست مؤسسة ذات أهمية رمزية فحسب، بل سيكون التلاعب بها إلكترونيا كارثة للمجتمع كله، ويمكن أن يُقوِّض الدولة حين يفقدها السيطرة على نظامها القضائي.

لم يكن انحياز الفيلم ضد الذكاء الاصطناعي اختلالا، فما زلنا جميعا نُصارع فكرة الذكاء الاصطناعي وحضوره في حياتنا، ومواقفنا تتأرجح بين الانبهار والخشية. ويستلهم الفيلم معلومات حقيقية عنه في تفاصيل مخيفة قليلا، فحادثة المبرمجة “أليثيا” جاءت بسبب تدخل الذكاء الاصطناعي، حين حرّف سيارتها عن الشارع الذي كانت تقود فيه، كيلا تصطدم بسيارة كانت متعطلة في وسط الطريق، وكانت فيها أم شابة وطفلها.
أصبح ذلك الأمر معروفا، فالذكاء الاصطناعي في السيارات ذاتية القيادة يمكن أن يأخذ قرارات تكون لها عواقب كبيرة، بسبب المعلومات التي أُدخلت فيه، فهو يرى أن حياة أم شابة وطفلها أهم من حياة امرأة تجاوزت الثلاثين من عمرها، وذلك سن “أليثيا”.
فضول وتساؤلات معقدة عن المستقبل
يمكن أن نقول إن ربط الفيلم بين الذكاء الاصطناعي وقوى شريرة تحركه في الخفاء، إنما هو تحويلة أو تشويش على قضية الذكاء الاصطناعي ذاتها، وقد قادته تلك التحويلة إلى مسار آخر، وكان صعبا كثيرا بعدها مناقشة الأسئلة الأخلاقية، التي تقلق كثيرين من الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، فإن الفيلم يُثير الفضول ويفتح الباب على تساؤلات كبيرة ومعقدة، منها دور الشركات الجشعة التي يمكن أن تفعل كل شيء لتحقيق مصالحها، وهو أمر يناقش كل يوم في الإعلام والحياة العامة.

اختار الفيلم أن يضيف قتامة بصرية كبيرة على معظم مشاهده، حتى في المشاهد الخارجية، ولا سيما المشاهد التي صُوِّرت فيها البطلة تسبح في البحر، وهي هواية تمارسها لتهرب من ضغوط الحياة ومن وحدتها.
هذه القتامة يرافقها أداء متقشف وجيد في مجمله، لا سيما الممثلة “فيرونيكا إيشيجوي” التي أدت دور القاضية، وقد حافظت على توتر نفسي استمر طوال الفيلم، ولم يُفلت منها أبدا، بل إنها ربما لم تبتسم طوال زمن الفيلم.
أخرج الفيلم المخرج الإسباني الشاب “سيمون كاسال”، ووصل إلى العرض الأول في مهرجان “سان سيباستيان” العام الماضي، ويُعرض اليوم في عدد من المهرجانات الأوروبية، لا سيما تلك التي تُعنى بأفلام المستقبل والخيال، ومهرجانات حقوق الإنسان، فمن المتوقع أن يُعرض في شهر أبريل القادم في مهرجان “أفلام لها قيمة” الهولندي في مدينة لاهاي الهولندية، في موقع ليس بعيدا عن محكمة العدل الدولية.