“ينعاد عليكو”.. سردية مغايرة عن وجع الفلسطيني بين ظهراني إسرائيل

“كان علينا أن نرتدي قميصا أزرق وبنطالا كحليا في اليوم الذي يسمى استقلال إسرائيل، وأن نغني أغاني عبرية. تخيل أي انفصام كان يعيشه الطفل في تلك الأيام”.
بهذه الكلمات يسهب المخرج السينمائي إسكندر قبطي، في الإفصاح عن مشاعره الحائرة بين أصله العربي الفلسطيني المتشبث بأرضه بعد النكبة، وبين الحصار الاجتماعي والثقافي الإسرائيلي، مما يشي بحالة إنسانية فريدة التعقيد، لا تصلح معها الأحكام الجاهزة المعلبة، فثمة رقعة أخرى للصراع، قد لا تلتقطها أعيننا المنغلقة على ذاتها.

أحدث أفلامه فيلم “ينعاد عليكو” (2024)، وقد فاز بجائزة أفضل سيناريو في مسابقة آفاق من الدورة الـ81 بمهرجان البندقية، والنجمة الذهبية من مهرجان مراكش السينمائي، ويمثل عودة مستحقة لمخرجه إلى السينما بعد غياب 15 عاما، منذ فيلمه الأول “عجمي” (2009).
لا يكتفي الفيلم بتقديم سردية اعتيادية نمطية عن عائلة فلسطينية تقبع في الداخل، بل يكشف ما هو أعمق، من ازدواجية ثقافية وسياسية، فالهوة العميقة بين الجذور العربية، وما يحيط غشاءها المتماسك من غلاف سامّ سميك ثقيل الوطأة، تشكل حلقة غير مألوفة من السلسلة الممتدة في الصراع العربي الإسرائيلي.
تدور أحداث الفيلم في إطار درامي حول عائلة فلسطينية مسيحية مستقرة في حيفا، يعايش أفرادها عوائق متباينة، تتعلق بالاختلافات الثقافية الجذرية بين محيطهم وانتماءاتهم الأصلية، تتوغل الكاميرا في حياتهم بكل تفاصيلها البسيطة المدهشة، التي لا يدركها أحد سواهم، فكل منهم يحيط ذاته بشرنقة محكمة الصنع، ومن ثم نصبح أمام وجوه مصمتة، لا يظهر منها سوى الفتات، والحقيقة تقبع بين أسوار مخاوفهم الذاتية.

قصة قد تبدو تقليدية الهيئة، لكن الحقيقة أن ما يكمن بين سطورها أعمق بكثير من هذا الاختزال، فالمعتاد عن التي تتناول القضية بطريقة أو بأخرى هو الاشتباك المباشر مع الموضوع، والاقتحام بلا مواربة، وهذا صحيح ومطلوب بالتأكيد، لكن ما يقدمه فيلمنا يثبت أن ثمة أنواعا أخرى من التناول، يضيف عينا جديدة تكشف مزيدا من التفاصيل، التي تفتح بمحاذاتها مجالا لقراءة أوسع وأكثر شمولا، لمشهد يكتظ بما بين السطور.
فما هي تلك التفاصيل؟
فصول درامية تروي حكايات متشابكة
تكمن إجابة السؤال السابق بين جدران السيناريو المحكم الصياغة، الذي تدور أحداثه في إطار روائي متعدد الطبقات والفصول، فالبداية مع المشاهد الأولى، فتنفتح الشاشة على مشهد نرى فيه فريدة (الممثلة منار شهاب) وهي تتلقى العلاج في المستشفى، بينما يعبر أهلها قاعة العلاج بالمصادفة، ومن ثم يخفي هذا اللقاء العفوي أكثر مما يظهر، وفي المشاهد التالية يطالعنا أخوها رامي (الممثل توفيق دانيال) وهو يرسل تسجيلا صوتيا لأحد ما، لا ندري على وجه الدقة من هو.

هكذا اختار الفيلم أن تكون ضربة البداية هذه المشاهد المبهمة، ويبدو أنها تطمر فيما بينها خبايا كثيرة، فقد نسج السيناريو قماشته السردية متكئة على مقدمة تمهيدية، يزاح بها اللثام عن الشخصيات وما تكنه من أسرار، ثم تعقب هذا المدخل الافتتاحي 3 فصول درامية، لكل منها عنوانه، ويدور حول شخصية ما.
ثم نصبح أمام قراءة أوسع وأكثر اتساعا عن أزمات الأبطال، فالحدث يروى من أكثر من زاوية، فالأعين تلتقط الحكاية من واقع رؤيتها الذاتية، وما لم يفصح عنه في فصل ما تتضح دوافعه في الفصول التالية، وهكذ في اعتماد على مبدأ الرواة المتعددين، وهو مستعار من الأنماط الأدبية. ثم يعقب تلك الفصول الثلاثة فصل ختامي، تنجلي فيه الخيوط المتشابكة كافة، وتبلغ فيه الشخصيات نقطة الأمان، أو تحررها الذاتي بالمعنى الأدق.

فالثنائيات تشكل المساحة الكبرى من النسيج السردي، إذ تقدم الأحداث علاقة غير مكتملة بين فريدة وصديق أخيها الطبيب وليد. وعلى الناحية الأخرى تقبع حكاية أخيها رامي وصديقته شيرلي بتفاصيلها المعقدة والمتشابكة، أما الأم حنان والأب أبو رامي فلهما كذلك من الحكي نصيب. ومن ثم تندفع العجلة السردية نحو الأمام، بناء على الاحتكاكات بين هذه العلاقات.
ولاستكمال الصياغة التعبيرية عن هذه الأفكار، يقدم الفيلم سرديته بين قوسين دراميين، فالبداية مع فريدة، أثناء مكوثها في قاعة الطوارئ الطبية –كما ذكرنا سابقا- ويكتمل مسار الحكاية بالعودة إليها كذلك، لكن تلك المرة، بعد أن أدركت مواطن ضعفها وسلمت بمقاديرها، ومن ثم الانطلاق لاحقا في إصلاح ما أفسدته البيئة المحيطة، فقوسا الحكاية يقعان بالأساس بين رحى قصتها الشخصية.
قصاصات وشذرات ترسم فسيفساء الواقع
لا يكشف السرد مباشرة ما يحيط بأبطالنا من أزمات ومعضلات، لكن مع توالي الحكي واندفاع الخطوط الدرامية نحو الأمام، يبدأ ضباب الغموض ينجلي تدريجيا، فيضع المتفرج يده على كوامن الأمور، فالحجر الأول من جدران قصتنا يكمن عند فريدة، تلك الشابة الجامعية التي لا تزال تعيش في رحاب عائلتها العربية، المدثرة بالثوابت والتقاليد، هذا ما تبدو عليه الصورة الخارجية، لكن الحقيقة أن التحرر الذاتي، هو ما ترغب فيه الفتاة، وتسعى إلى تحقيقه.
ذلك ما يمثله ضلع الحكاية الأول، وفي المقابل يطالعنا رامي وصديقته اليهودية شيرلي، بعد أن بلغت علاقته معها نقطة مأزومة لا حل ناجعا لها، على إثر انزلاقهما في علاقة غير مشروعة، فحبلت وأصرت على الحفاظ على هذا المولود القادم، في حين يرغب الأب العربي في التخلص منه، ولا شك أن هذا الشق من الحكاية هو الأكثر جرأة، بما يطرحه من قضايا مسكوت عنها، يطرحها السيناريو بحرية وسلاسة بلا اتهامات، فالمعني في هذا الحالة هو الرصد والتأمل، وإلقاء الضوء الكاشف.

أما ضلع الحكاية الثالث، فتستحوذ عليه الأم حنان، وهي ترغب في استمرار نمطها المعيشي الميسور الحال، على حساب ضائقة زوجها المالية، فالوجاهة الاجتماعية أمام الأهل والأصدقاء أهم من محاولة إنقاذ ثروة الزوج الذي أثقلته الديون، وتلك نتيجة طبيعية المنشأ للحصار القانوني والاقتصادي الإسرائيلي على كل ما هو فلسطيني.
وهكذا تتوالى دفة السرد في تدفق لاهث الإيقاع، فكلما توغلنا في مسارات الشخصيات وعلاقاتها المتشعبة ينسحب غطاء الستر عن حياتهم، فليس المؤكد هنا هو الرغبة في توجيه أصابع إدانة نحو الأبطال، لكن تلك الاتهامات إن وجدت، فهي مسلطة بكثافة نحو السياق العام المحيط بهم، إذ يخلق المناخ لا إراديا هوة عميقة التأثير، بين الواقع الحقيقي الملموس، وتأثيرات الماضي وجذوره العميقة الممتدة.
صراع ثقافي بين عوالم متضادة
لقراءة أكثر استيعابا، ينبغي أن نطيل النظر نحو عائلة أبو رامي، فنحن أمام أسرة فلسطينية أصيلة التكوين، شاءت ظروفها التاريخية أن تتمسك بالبقاء في هذا الحيز الجغرافي الإسرائيلي الهوى والهوية، وأضحت ذات هويتين مزدوجتين، الأولى عربية موروثة بحكم قواعد التاريخ وغيرها من المسلمات، وعلى الناحية الأخرى تستقر الهوية الإسرائيلية، الأشبه بالطوق الخانق على الرِقاب.

وحينها يمكن قراءة معالم الصراع الدرامي، الذي يقع بين حدود تلك الازدواجية الثقافية والعِرقية، هذا ما يمكن قوله من الناحية النظرية، وعند تطبيق ذلك عمليا على فيلمنا، سنلاحظ رامي ومعاناته مع صديقته، فإذا استكمل علاقته وأوصلها إلى مرفئها الشرعي المكلل بالزواج، سيقابل بالرفض المؤكد، فالحياة تحت ظلال الاحتلال شيء، والتخلي الطوعي عن الشرنقة العربية شيء آخر.
ومن ثم يجعل السيناريو بيئة الأحداث العامة تدور بين رحى عالمين متضادين، لا يتقاطع أحدهما مع الآخر، حتى وإن تشابكت الشخصيات أو اشتركت في كلا المحيطين، فالعالم الأول يقع بين حدود تلك الأسرة العربية، بما تحمله من إرث ثقافي وتاريخي، يمثل جدار حماية من محاولات الطمس المتعمدة، مثلما نرى في أحد المشاهد، رفض الأم العربية الاختلاط المتزايد مع اليهود.
أما العالم الآخر، فيمثله الحيز الإسرائيلي، وهنا يسهب السرد في الغوص في مكونات هذا العالم بتفاصيله الصادمة كافة، فالعلاقة مع الجيران العرب مشوشة، على عكس المزعوم المتداول، مثلما نرى في مشاهد عدة، ينثرها السيناريو على مدار خطه الدرامي.

هناك تطالعنا صورة المجتمع الحقيقية، بداية من كيفية زرع نبتة الكراهية في الأطفال داخل المدارس، والشوارع المكتظة بالمظاهرات المنددة بالوجود العربي، ثم ما يثيره التجنيد الإجباري من مخاوف ونوبات هلع مرضي، تصيب الشباب والمراهقين، ومن قبل ومن بعد تحذيرات ميري أختها شيرلي من الزواج برامي الفلسطيني، فتضطر إلى الاستعانة بجهة سرية، للمساعدة في الإجهاض من ناحية، وتهديد الأب العربي من ناحية أخرى.
وهكذا يسير السرد بالتساوي بين هذا العالم وذاك، كاشفا نمطا مغايرا من النضال، ألا وهو المقاومة الصامتة، فالحفاظ على تلك المساحة العربية الآمنة المنكفئة على ذاتها ضد محاولات الاندماج القسري، والتشبث كذلك بأدنى درجات الهوية، يعد نوعا غير مألوف من المواجهة.
للحقيقة وجوه كثيرة
تروى الأحداث من أكثر من زاوية سردية، لا بغرض التكرار، بل لتقديم صورة متكاملة بانورامية الاتساع عن العالم موضع التناول، فنصبح أمام غابة متشابكة من التفاصيل، فما نراه من واقع هذا الإطار، يستكمل على نحو تلقائي في الإطار المقابل.
فقد اعتمد البناء الدرامي على أطر متعددة للرؤية، يتلصص بها المتفرج على شخصياته، يتابع هطول ما يكفي ويفيض من التفاصيل المعلوماتية، التي عند اجتماعها تكتمل لوحة الفسيفساء، الكاشفة عن واقع مغاير عن المعتاد، لم تطرقه أعيننا من قبل.

وعندئذ يمكن بلوغ إحدى أفكار الفيلم المستترة خلف الساتر الدرامي، ألا وهي أن الحقيقة ليست كما نراها أحادية الجانب، بل ثلاثية الأبعاد، وتطمر بداخلها وجوه عدة، مثلما يقول الكاتب الإسباني “خوان مياس”: “الكلمة هي الرواية اللغوية للأشياء”.
وما أكثر الكلمات المتاح تداولها، وهي تحتوي على دلالة تعبيرية، تضيف بقدر محسوب إلى المعنى المراد، كذلك الواقع لا يملك صورة واحدة، بل صورا متجددة، لا يكاد يندثر تدفقها الذي لا نهاية له، فكلما تعددت زوايا الرؤية تكاثرت الحقائق، في تناسب طردي بينهما.
واستنادا على ما سبق، تخبرنا الأحداث أن لدى فريدة ما تخفيه عن الأعين، وتلجأ على الدوام والاستمرار إلى الحيلة، لإضفاء رتوش تجميلية على حياتها، فالرغبة في الانطلاق من أسر هذا المحيط المحاصر، دفعها إلى البحث عن تحررها الذاتي في زواج سري لم يدم طويلا.
وهنا يفخخ السيناريو إحداثيات حكايته، بالتساؤل المؤرق عن حجم الحرية الممنوحة للمرأة، أو بالأحرى هل توجد حرية حقا؟ أم أن سلاسل العبودية تكبل الجميع من غير تفرقة بينهم؟
حبكة صادقة وأداء مفرط الواقعية
لفيلم “ينعاد عليكو” عنوان آخر باللغة الإنجليزية؛ ألا وهو “أعياد سعيدة” (Happy Holidays)، فنحن أمام سياق زمني ضيق الحيز، صحيح أنه لم يذكر صراحة حضور أي مناسبات دينية أو رسمية، لكن الأحداث تدور بين أقواس محدودة المدة، تتطور بها معطيات الشخصيات، كل بحسب ما أضيف إليه من توابل ومتغيرات، ستغير حتما مذاق طبخة حياته المستقبلية.
يستعرض السيناريو -بمعماره الدرامي المميز البناء- ما يطرأ على أبطاله من تطورات متلاحقة، تزيح الستار عما خفي من مساراتهم الشخصية، وعن محيطهم المحاصر بشتى القيود الملموسة والخفية، لنصبح أمام رؤية شاملة الاتساع عن واقع قريب وبعيد في ذات الوقت.

ولتحقيق أقصى درجات الصدق، يلجأ الإخراج إلى الاستعانة بشخصيات حقيقية، فالأبطال يؤدون أدوارهم الواقعية أمام الكاميرا، فالطبيب وليد صديق رامي طبيب حقيقي، كما قال إسكندر قبطي مخرج الفيلم.
ومع ذلك جاء أداؤهم التمثيلي مدهشا معبرا عن ما يعتمل في الشخصيات من احتكاكات وتفاعلات، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل أسهمت الكاميرا بحركاتها المهزوزة نوعا ما، والزوايا القريبة الكاشفة عن أعماق الشخصيات وما يدور في محتوياتهم الذاتية، وكذلك الزوايا المتوسطة والبعيدة، في تغليف السياق العام بجرعة مضاعفة من الصدق، وكأننا لا نشاهد فيلما سينمائيا مصنوعا خصيصا لأجلك أنت المشاهد، بل للارتقاء بالمنتج السينمائي الخيالي، وجعله يتناص مع الواقع، وتلك ذروة الحرفية الإبداعية.
تدور الأحداث في دائرة يبلغ قطرها الزمني نحو 120 دقيقة تقريبا، موزعة بالعدل على الحكايات الثلاثة، من غير إخلال بإيقاع الفيلم المونتاجي، الذي قد يراه البعض مفرط الطول، لكنه على العكس تماما بدا متدفق الحركة، كاشفا بصورة بليغة عن مجتمع يتألم بصراخ مكبوت، تحت طائلة حصار من قوة أكبر، تطبق بقوتها الغاشمة على الحناجر.
فمن ينصت إلى تلك الأوجاع؟!