“موت بلا رحمة”.. عدسة تتتبع مأساة عائلتين سوريتين في الزلزال

 

لا يقبض على لحظات الآلام والمآسي الفارقة إلا سينما الكوارث الطبيعية، سواء عن طريق السينما الروائية التي تَبرع في إعادة صياغتها، أو الأفلام الوثائقية التي تسجل الأحداث عن قرب، وهي السينما الأصدق والأقوى والأجدى موضوعيا وفنيا، لأنها تلتقط اللحظة فور حدوثها، وتتعاطى معها انطلاقا من مواجع الأفراد والضحايا، بعدسة مباشرة صادقة لا لبس فيها ولا تدليس.

ومع أنها تكتسب قيمة فنية كبرى، وتعمق علاقتها المتصلة بالوجدان، فإنها تكاد تكون منعدمة في العالم العربي، لا لشيء سوى غياب ثقافة التسجيل والمرافقة، وتوثيق المواطن العادي عن طريق الكاميرا، ذلك الذي يكون قريبا دائما من الأحداث المفاجئة، لأنه الوحيد القادر على مواكبة الحدث فور وقوعه، ليسجل ما تبلغه عدسته، ويشكل جزءا من المادة الكلية، فيأتي بعدها المخرج أو المهتم، ويصوغ عمله الفني، وفق سياق يمكن أن يواجه به جمهورا أوسع.

هذه المعطيات الفنية والجمالية والموضوعية، صاغتها المخرجة السورية المتفردة وعد الخطيب، في فيلمها الوثائقي الموجع “موت بلا رحمة”، الذي وثقت به آثار الدمار والمآسي والأوجاع التي خلفها الزلزال المدمر، الذي ضرب جنوب تركيا وجزءا من سوريا في فبراير/ شباط 2023، وتوفي فيه أكثر من 50 ألفا.

دماء ودموع وجراح لم تجف.. ألم بأثر رجعي

لا يمكن لتركي أو سوري أو أي متعاطف مع مواجع الإنسان، أن ينسى ما حضره أو رآه على الشاشات العالمية، وهي تبث عدة أيام أثر الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا، وامتد إلى المدن الشمالية السورية الواقعة على الحدود.

كانت الضربة الأولى كارثية، حدثت في الساعة 4:17 صباحا، بالتوقيت المحلي، وهذا يوم 6 فبراير/ شباط 2023، وبلغت قوتها 7.8 درجات على مقياس “ريختر”، وقد حُدد مركزها السطحي غرب مدينة غازي عنتاب، ويعد من أقوى الزلازل في تاريخ تركيا وسوريا.

ملصق الفيلم

ثم تلتها ضربة ثانية لا تقل دمارا وألما، بعد مرور 9 ساعات فقط، وتحديدا في الساعة 13:24 ظهرا بالتوقيت المحلي، (10:24 بالتوقيت العالمي)، بمعنى أن العالم لم يستوعب آثار الدمار في الضربة الأولى، ولم يخرج من دائرة الاستيعاب، حتى وقعت الثانية ووسعت من رقعة المآسي، وقد بلغت قوته 7.5 درجات على مقياس “ريختر”، وذلك بمنطقة “إيكين أوزو” قرب مدينة مرعش.

يمكن أن تقع هذه الكارثة في أي نقطة من العالم، لأنه حدث أرضي لا سلطة للإنسان عليه، لكن طريقة التعاطي مع الكارثة وتبعاتها كانت كارثة أخرى تضاف للزلزال، فمن ذلك طريقة التعاطي مع الضحايا والعالقين، وجهود فرق الإنقاذ، بسبب اتساع رقعة الدمار الناتجة عن الغش في المباني عند بنائها.

كما ظهرت صور المآسي في عمليات إزالة الركام، بحثا عن الناجين تحت الأنقاض، بعد أن علقوا أياما تحتها في جو بارد وشتوي، وعن الذين لم يجدوا من ينتشلهم ويخرجهم من بين الركام، فمات من مات، وأنقذ من أنقذ، وعلق من علق.

كانت أصوات الجرحى والعالقين تسمع من تحت الأبنية المدمرة، ولم يستطع أحد أن يساعدهم، لأنهم لا يملكون الإمكانيات ولا التجهيزات، وإنما يزيلون الركام بأياديهم، فذلك ما وسع رقعة الدماء والدموع، وشكل مظاهر قاسية لا يمكن أن يتحملها قلب إنسان.

وقد عادت إليهم المخرجة وعد الخطيب بعد الكارثة بسنة، بفيلمها الوثائقي “موت بلا رحمة”، الذي تطرق لجانب من المآسي، وحقق رؤيتها الإخراجية عن السوريين الذين عاشوا تلك الكارثة في تركيا، برصدها وتتبعها مسار عائلتين سورتين من تلك النكبة، ولذلك فقد عادت للواقعة، وأنتجت منها ألما بأثر رجعي.

صور متفرقة عن الفاجعة والألم واحد

تجلى ذكاء المخرجة وعد الخطيب في كثير من مظاهر الفيلم ومفاصله، وربما أهمها أو أبرزها الصياغة السينمائية التي اعتمدت عليها، بتبنيها أسلوب السرد والتتبع والتسجيل، والتقاط اللحظات الفارقة، ثم تنسق معطياتها في بوتقة واحدة، تصنع بها الكل السردي، انطلاقا من رؤيا في غاية الحساسة، مشبعة ومسنودة بحدس سينمائي، قادها مباشرة لصور الفاجعة، بأشكالها المتعددة، وصورها الكثيرة، وأبعادها المأساوية التي تذيب الصخر من هول الفجائع.

إحدى مقابر ضحايا زلزال تركيا

اعتمدت وعد الخطيب على طريقة البناء المحكم، بمعنى أنها أحسنت التصرف بالمادة المصورة التي جمعتها وتسييرها وتنسيقها، لا سيما التي صورها أقارب الضحايا وعائلاتهم والمقربون منهم، أو الهواة والمصورون، وكذلك المواد الإعلامية الكثيرة التي غطت ذلك الحدث العظيم.

استطاعت المخرجة بمقدمة فيلمها “موت بلا رحمة” أن تصوغ مقاربة عاطفية شاملة، مشحونة بعواطف الفقد والوجع واليأس والألم والحسرة، لتضع المتلقي في قلب الحدث، وتجعله يعيش تلك المواجع بقلب منفتح وعقل متماثل مع الضحايا، ببث صور الزلزال المتعددة.

بعدها جعلته يعيش لحظات الجراح العظمى، بصور العالقين تحت الركام، وهم يناشدون الناس لينقذوهم ويخرجوهم من بين أكوام الحجارة والتراب والجدران والحديد، لكن من ذا الذي يسمع ذلك النداء، وسط فوضى كبيرة، وفرق إنقاذ لا تملك الموارد البشرية ولا التجهيزات المناسبة.

هذا المقاربة المهمة، جعلت المتلقي يلتحم مباشرة مع تفاصيل العمل (85 دقيقة)، لأنه أصبح هو أيضا بمنزلة ذلك العالق تحت الركام، وربما يشبه الأب السوري الذي يبحث بين الأشلاء والأشياء، عله يجد أمارة أو قميص طفله، أو فستان زوجته، حتى يعرف مصيرهم.

الناشط السوري فؤاد عيسى يحمل صورة ابنه أثناء تخرجه من إحدى الجامعات البريطانية

وهنا تتأجج المشاعر، ويصبح التواصل بين الجمهور والفيلم قوية، بل لقد خلقت وعد الخطيب جمهورا متضامنا ومتعاطفا، لا سيما مع الضحايا السوريين الذي هربوا من البراميل المتفجرة في سوريا، تلك التي كان يلقيها عليهم نظام بشار الأسد المجرم، فنجوا منه.

وعندما شعروا بقليل من الاطمئنان في تركيا، أعاد لهم الزلزال مشاعر الخوف والرعب التي كانت تسكنهم، وشعور الفقد والفراق والابتعاد عن الأهل والأحبة والأسر، لكنه قدر الله، يفعل ولا يلومه أحد.

أحبة تحت الركام وآلام مستعادة

سلطت وعد الخطيب رؤيتها السينمائية على شخصيتين محوريتين، لهما علاقة مؤثرة بالثورة السورية، ولهما جراح غائرة أحدثها الزلزال، وهما الناشط فؤاد سيد عيسى، مؤسس منظمة “بنفسج”، التي كانت توزع المساعدات على المتضررين من نظام الأسد في الشمال السوري، وقد فقد خلال الزلزال ابنه قتيبة وهو في أوج طفولته، ونجا ابنه سامي الذي لم يتجاوز عمره 40 يوما، وزوجته صفاء التي بقيت وقتا طويلا تحت الركام.

والثاني هو الصحفي فادي الحلبي، وقد فقد 13 فردا من عائلته، منهم والده الذي قضى نحبه تحت الأنقاض، بعدما علق تحتها أكثر من 61 ساعة، وكذلك أمه وزوجته وأولاده الأربعة وأخوه وزوجته وابنه.

والمحبط أنه مُنع من دخول تركيا أثناء الزلزال خلال اللحظات الأولى، لأنه كان في الشمال السوري في مهمة عمل، لكن بعد مرور وقت سمح له بذلك، فوقف على تلك المآسي وأهوالها بنفسه.

صورة لأحد المباني المنهارة بسبب الغش في الإنجاز، من بين قاطنيها عائلات سورية

تتبعت المخرجة مصيبة فؤاد وفادي كليهما، بتسليط كل الأضواء، ونقل شعور الفقد، وكيفية تعامل كل فرد مع الكارثة، لا سيما أنهما لم يكونا في بيتهما أثناء الكارثة، فتضاعفت أوجاعهما. كما أنها فككت إحساس العجز الذي يصل له الفرد، عندما يرى مواجع أسرته وهم يحتضرون، لكن لا وسيلة لديه لإنقاذهم.

من هنا تكون وعد الخطيب قد راكمت تجربة المآسي الشخصية، لا سيما تلك التي عاشتها في حلب، أثناء الهجوم المدمر الذي شنه نظام الأسد على شعبه، وأعادت لنفسها قبل غيرها صور تلك المواجع، وهي صاحبة الفيلم الوثائقي المهم “من أجل سما” (2019)، وهو عمل أنتج في سوريا وبريطانيا، وشاركها في إخراجه البريطاني “إدوارد واتس”، وفاز يومئذ بجوائز كثيرة، منها جائزة “بافتا” لأفضل فيلم وثائقي، كما رشح لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي.

فرق الإنقاذ تقف عاجزة أمام هول الكارثة ونقص الإمكانيات

لذلك فهي تعي جيدا حجم الفقد والدموع والألم التي يعيشها الإنسان، انطلاقا من تجربة المعايشة التي مرت بها في أكثر المدن دمارا.

ومن المهم ذكر أن الصحفي فادي الحلبي -وهو ضحية في فيلم “موت بلا رحمة”- كان أحد المصورين الأساسيين للفيلم الوثائقي “الخوذ البيضاء”، الذي فاز بجائزة الأوسكار عن فئة الأفلام الوثائقية القصيرة سنة 2016.

فرصة للتأمل والنظر أبعد من الكارثة

قدمت وعد الخطيب في فيلمها “موت بلا رحمة” درسا سينمائيا بليغا، وأثبتت بأن الأرقام التي تقدم بعد كل كارثة طبيعية لا ينبغي أن نراها إحصائية فقط، بل يجب التمعن في كل رقم من أرقامها، لأنه كان يمثل حياة كاملة لفرد أو أفراد، جمعتهم قرابة ومشاعر وأحلام وكوابيس.

عندما يتحول الضحايا الى مجرد أرقام في الكوارث الكبرى

كما أنها خلقت مساحات واسعة للتأمل والنظر أبعد من الكارثة، وأخذت متلقيها لفضاءات الفساد الذي يمارسه رجال المال والأعمال والمقاولين، ممن بنوا وأمضوا ووافقوا على بنايات تفتقد لأبسط الشروط الضرورية للسلامة، والدليل أنها سقطت على رؤوس قاطنيها، على عكس بنايات أخرى بقيت صامدة وقاومت الزلزال، وهذا معطى أساسي يجب النظر إليه بعين مفتوحة وعقل قادر على التفكير والتفسير.

هذا التفكيك العقلاني للأحداث، كان بمنزلة جرس إنذار مبكر لكثير من الدول، لتعد العدة، وتتعلم الدروس من الكوارث الماضية، لتجنب مواطنيها مصيرا مماثلا لمصير زلزال تركيا وشمال سوريا، وبذلك تضمن الحد الأدنى من قوائم الضحايا، وتتجنب مصائر كمصير عائلتي فؤاد سيد عيسى وفادي الحلبي.

وعد الخطيب.. ثائرة سورية أتقنت لغة السينما

فيلم “موت بلا رحمة” عمل موجع ومفجع ومحزن، يأخذ الجمهور لطرح أسئلة كثيرة، حول مآلات الوجود وطبيعة الحياة والموت، وكلها منطلقات صيغت بحرفية بالغة، انطلاقا من رسم أسلوب سلس، مع خلق عناصر بناء منطقي، ضمن لها تسلسلا واضحا في الأحداث والوقائع.

ذلك لأنها أحسنت استعارة أدوات السينما الخيالية واستثمارها، وصاغت بها فيلمها الوثائقي، لهذا فُكك الزمن وقلص، وأصبح الوقت الدرامي هو الكتلة التراكمية لساعات الانتظار وأيامه، تلك التي قضاها الضحايا تحت الركام، ينتظرون منقذا مفترضا، ينتشلهم مما هم فيه.

المخرجة وعد الخطيب

“موت بلا رحمة” فيلم وثائقي ساحر، يوثق زمنا مهما، وكارثة لا يمكن نسيانها أو تناسيها، لا سيما ممن عاشوا وعايشوا الفقد، ولم تكن فيه وعد الخطيب مخرجة فحسب، بل طيفا يجمع تلك الأرواح في حديقة واحدة، لتتقاسم معهم الأوجاع والأفراح.

ولمن لا يعرف هذه المخرجة الشابة، فهي مخرجة وثائرة سورية، بدأت نشاطها عام 2011، بعد اندلاع الاحتجاجات في جميع أنحاء سوريا ضد نظام الأسد، وفي يناير/ كانون الثاني 2016 شرعت توثق أهوال حلب لقناة 4 الإخبارية، في سلسلة حصلت على جائزة إيمي الدولية.

كما وثقت مسارها طوال 5 سنوات كاملة من الكفاح والمواجهة في مدينة حلب، بفيلمها الوثائقي الأول “من أجل سما”، وقد فاز بجوائز كثيرة، منها جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان كان السينمائي.


إعلان