“سامية”.. عداءة صومالية انتهت أحلامها في أعماق المياه

تستند المخرجة الألمانية التركية الأصل “ياسمين سامديريلي” في كتابة نص فيلمها الروائي “سامية” (2024) على رواية “لا تقولي إنك خائفة” للكاتب الإيطالي “جوزيبي كاتوتسيلا”، ويجسد فيها فصولا من قصة العداءة الصومالية سامية يوسف عمر، التي مثلت بلادها في أولمبياد بكين (2008).

خاضت سامية تلك الرحلة، برغم صعوبة الحياة التي عاشتها في ظل ظروف سياسية واجتماعية قاسية، دفعتها للتفكير بالرحيل والشروع في رحلة هجرة محفوفة بالخطر، انتهت بموتها غرقا في مياه البحر.

شاركت في إخراج الفيلم المخرج الصومالي ديكا محمد، واشتركت في كتابة نصه السينمائي المخرجة “ياسمين سامديريلي” و”نسرين سميدريلي”، وبلغت مدة عرضه نحو 100 دقيقة.

“يوما ما يا أبي سأصبح أسرع عداءة في مقديشو”

يأخذ سرد الفيلم الروائي مسارات درامية، تتداخل فيها أزمنة التاريخ الصومالية التي عايشتها سامية، ففي طفولتها التي عاشتها بالعاصمة مقديشو‎، كانت الحياة السياسية شبه مستقرة، والحياة الاجتماعية منفتحة انفتاحا معقولا.

لكن ذلك لم يدم طويلا، فسرعان ما شهد البلد بروز تيارات دينية متشددة، هيمنت على مساحات كبيرة من البلد، وذلك بعد نهاية حكم محمد سياد بري أواخر التسعينيات، وفي بداية الألفية الثالثة عاشت الصومال صراعات مسلحة، وفرضت الحركات الإسلامية المتشددة قوانين تحد الحريات العامة، فدفع ذلك سامية لخوض مغامرة الهروب منها بطرق خطيرة.

مع المدرب الصغير علي

يظهر ذلك في مفتتح الشريط الذي ينقل مشهدين مختلفين زمنيا؛ الأول تظهر فيه العداءة الشابة (الممثلة إلهام محمد عثمان) مع مجموعة من المهاجرين في وسط الصحراء الليبية، ومن تفاصيله يتضح أنهم أضحوا أسرى لدى مهربين قساة، يحتجزونهم ويأخذون كل ما لديهم من مال.

المشهد الثاني يعود بالزمن إلى الوراء، فنرى سامية الطفلة (تؤدي دورها باقتدار الطفلة ريان روبل)، وهي تعيش حياة سوية في كنف عائلتها ومجتمعها، الذي يظهر انفتاحا على جوانب كثيرة، منها حرية ممارسة الفتيات للألعاب الرياضية.

سامية في قبضة المهربين

عند هذا الفصل يتوقف النص طويلا، لينقل بروح شفافة الأجواء العائلية التي نشأت فيها العداءة، وشجعتها على المضي نحو تحقيق حلمها، الذي عبرت عنه عبارة نطقتها أمام والدها وهو يحثها على ممارسة الرياضة: “يوما ما يا أبي سأصبح أسرع عداءة في مقديشو بأكملها”.

فوز يثبت الموهبة الرياضية الفطرية

لا يقدم الفيلم عائلة سامية في صورة مثالية، فبينها تناقضات واختلاف مواقف حول السماح للطفلة بممارسة الرياضة من عدمها! فتبدو أمها أكثر تحفظا من أبيها (الممثل فاتح غيدي)، فقد كان يشجعها ويعدها أنه سيشتري لها حذاء جديدا إذا فازت وتقدمت في السباقات المحلية.

وإلى جانب موقف أمها يقف أخوها المحافظ، لكن يشجعها ابن عمها الصغير علي (الممثل زكريا محمد) الذي هو في مثل سنها تقريبا، فيتطوع بطيب خاطر لمرافقتها في كل تمارينها، ويرى نفسه مدربا لها.

مع الأب الذي وثق بقدراتها الرياضية

يتتبع النص السينمائي الممتع مراحل صقل موهبة الطفلة، التي تظهر في حبها للجري ذهابا وإيابا من المدرسة، وتسابقها مع صديقاتها في الحي.

حبها للجري فطري، وأدوات تطوير قدراتها الفنية بسيطة، ومع كل ذلك تشارك وتفوز في البطولة المحلية للركض، فيكرس فوزها قناعة لدى العائلة -حتى أمها- بأنها حقا طفلة موهوبة، لا يحق لأحد حرمانها من ممارسة رياضة تحلم يوما ما أن تصبح بطلة فيها.

سوء الحظ وتقلبات الزمن الصعب

لم تكن الطفلة تدري ما يخبئ لها الزمان، وأن الأحلام ستصبح عصية على التحقيق، ويبدأ سوء حظها حين يصيب أباها طلق ناري يعطل إحدى ساقيه، ثم ينعكس شعوره بالعجز على سلوكه، فيميل نحو الانعزال الاجتماعي، وعدم المشاركة بفعالية في قرارات العائلة، ثم يبدو الزمن كأنه يعاندها أكثر، فيموت أبوها في انفجار عبوة ناسفة، أثناء مروره بأحد أسواق المدينة.

هواية الجري في كل مكان

فوق كل هذا كانت الحياة تتعقد في الخارج، فبعد سيطرة الحركات المسلحة المتشددة، مُنعت الفتيات من الظهور بالملابس الرياضية، واشتُرط عليهن لبس العباءة التقليدية أثناء ممارسة الألعاب الرياضية، كما قُلصت المساحات المسموح لهن باللعب فيها.

لم تمنعها كل تلك العوائق من المواظبة على التمرين مع ابن عمها في أماكن خالية بعيدة عن أنظار المتشددين، ولم تمنعها العباءة من الفوز بالسباقات المحلية، التي فتحت أعين بعض المسؤولين الرياضيين عليها وعلى ما تحققه من نتائج.

وقد تحقق حلمها حين شجعتها عداءة متقاعدة من بنات بلدها، واقترحت اسمها على اللجنة الوطنية لألعاب القوى، لتمثيل الصومال في مسابقات بطولة بكين للألعاب الأولمبية.

رباط رياضي يحيي ذكرى الأب الحاضر الغائب

يحافظ السيناريو على إبقاء مسار الفيلم متداخلا بين أزمنة شتى، تعمل صانعته ومساعدها المخرج الصومالي ديكا محمد على إضفاء أبعاد درامية على مساراتها المتشعبة، وعلى خلق روابط فيما بينها، بالاستعانة بمشاهد منقولة عن تسجيلات تلفزيونية قديمة، تحيل إلى أحداث أو وقائع جرت في حياة سامية.

عداءة قديمة ترشحها لأولمبياد بكين

فالمرحلة التي قررت فيها الهجرة من بلدها، بعد مضايقات المتشددين، بسبب مشاركتها في أولمبياد بكين بالزي الرياضي، الذي رأوه خروجا عن القيم الدينية، إنما تأتي من إعادة تمثيل المشاهد الحقيقية، التي ظهرت فيها العداءة أثناء مشاركتها في البطولة.

وأما رباط الجبهة المصنوع من القماش الذي يضعه على جباههم لامتصاص العرق، فتتجلى فيه ذكرياتها عن أبيها، واعتزازها به، وحزنها على عدم تمكنه من مشاهدتها، وهي تشارك في بطولة رياضية كبيرة، آمن بأنها قادرة على بلوغها يوما ما.

حلمها أن تركض

وكان قد أهداها ذلك الرباط الأبيض، بدلا من الحذاء الرياضي الذي وعدها بشرائه، ثم أعجزه قصر ذات اليد عن الوفاء بوعده، فقدم لها ذلك الرباط، الذي نراه في مشهد حجز المهربين لها في الصحراء الليبية، وكانت استعادته قبل إطلاقها مع مجموعتها نصرا معنويا، وحرصا منها على ديمومة ذكريات جميلة عن أبيها، ما زالت تحتفظ بها برغم تقلب الظروف.

روح رياضية وتضامن إنساني

يسرب النص السينمائي خفيةً موقفه النقدي من نتائج مشاركتها في أولمبياد بكين، وفوزها بالمركز الأخير من السباق، فيلمح ضمنا إلى علاقة ذلك بضعف الإعداد الفني والجسماني، وارتباط كل ذلك بالظروف القاهرة التي يعيشها المواطن الصومالي عموما، والرياضي خصوصا، وبسببها يصعب عليه تحقيق نتائج مرضية.

التدريب في المناطق البعيدة خوفا من المتشددين

يجاور ذلك الموقف بمَشاهد تجسد روحا تضامنية مُحبة، تظهر في سلوك أهلها وأصدقائها، منذ لحظة انطلاق إشارة بدء السباق حتى نهايته، فتلك مشاعر ذات معان ودلالات على عزم المرأة الصومالية على خوض التحديات، بروح رياضية طافحة بالأمل.

نهاية مأساوية في أعماق البحر

تصيب أمواج عالية في البحر القارب الصغير المهترئ، الذي كان يحمل البطلة ومهاجرين متوجهين نحو السواحل الإيطالية، فتتسرب المياه إلى داخله، وأثناء غرقه تقترب سفينة إيطالية منه، ترمي لركابه من مسافة بعيدة حبل نجاة.

سامية تغرق في البحر في رحلة هجرة طلبا لحياة أفضل

بين هياج الموجودين واضطرابهم داخل القارب، يقرر بعضهم رمي نفسه في مياه البحر، وبعد تردد تقرر سامية رمي نفسها في المياه العميقة أملا في النجاة، ويشي المشهد المصور أنها لم تنجح في محاولتها، فابتلعتها مياه البحر وابتلعت معها طموحات شابة، غامرت بحياتها لما لقيت من عنف وقسوة، وركبت البحر الهائج أملا في خلاص لم يتحقق.

قصتها المنقولة على الشاشة تشبعت باشتغالات جمالية ومعالجة سينمائية معتنية كثيرا بالتفاصيل: التصوير والتوليف وأداء تمثيلي رائع برعت فيه بشكل خاص (ريان روبل) التي لعبت دور “سامية” الطفلة. وللموسيقى التصويرية فيه حضور لافت (رودريغو ديراسمو) تسهم ببراعة في تعميق الإحساس بتراجيدية حياة عداءة صومالية شجاعة، كُتبت بلغة سينمائية مبهرة.


إعلان