وثائقي “الفردوس”.. رحلة رجل الجبال الذي عاش 50 عاما بعيدًا عن الكهرباء والمرافق

تندفع الحياة المعاصرة بإيقاع سريع لا يتباطأ، تجاه إقصاء الفرد عن نفسه. تتغذى مسيرة العيش البشرية بطموح يكتسب معاييره من لغة المجتمع وقوانين سوقه، ثم تصبح الحياة مجموعة من المسؤوليات والالتزامات المتغيرة، حسب عوامل السوق ومدى الاستهلاك.
لكن الثابت هو إيجاد تعريفات تقع في إطار السعي، بصفته قيمة اجتماعية لا قيمة ذاتية، وتتمثل سلطة هذه المفردات من الحياة، في كونها اللغة الرسمية للعيش، أن نتنافس، وتتعاظم رغباتنا ونلهث ورائها.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4“ضي”.. هل تكون رحلة الهروب من التنمر مثمرة؟
- list 2 of 4فيلم “خط التماس”.. قصة دمية اكتوت بنيران الحرب الأهلية اللبنانية
- list 3 of 4فيلم “شرق 12”.. المستعمرة مرآة للواقع: حين يبتلع الخيال تفاصيل الحياة
- list 4 of 4فيلم “الملعونون”.. خلل بشري يدير مشهد الحرب العبثية
يأتي الفيلم الوثائقي الأمريكي “فردوس” (Paradise)، ليطلعنا على تجربة خارج سياق الحياة المدنية، بل خارج ذهنيّة الحياة المعاصرة بأكلمها، وهو من إخراج “جاريت مارتن” (2025)، ويعرض على منصتي “أبل تي في” و”أمازون فيديو”.
يفتتح الفيلم مشهده الأول بصدى أغنية جميلة مباشرة، تتحدث عن الرحيل إلى مكان بعيد. صوت نقي و حاد، حميمي يصدح بلا خلفية موسيقية، يغمر المشاهد في حالة من الصفاء والتأمل، ممهدا الطريق لرحلة بصرية مختلفة.
إنشاء المزرعة على سفح الجبال
هذه البداية تدفع للانغماس في عالم الفيلم، الذي يرتكز على فكرة إنشاء مزرعة على سفح الجبال السوداء بولاية كارولينا الشمالية، تمثل عالما بديلا ممتلئا بالبطء والحياة والاستقلال، فكل نبتة في الحديقة تحكي قصة، وكل زاوية من زواياها تحمل في طياتها حكاية وجود.
يقدم الفيلم سيرة “جو هوليس”، الذي ترك حياة المدينة واشترى أرضا واسعة على سفح الجبل عام 1972، لا لمجرد امتلاكها بل لغرض أعمق وأكثر جوهرية؛ ألا وهو العيش تحت قاعدة واحدة، وهي كيفية التعايش بالتجربة مع الأرض. انشغل المكان في سنوات كثيرة بمزرعة بها زهور ونبتات نادرة، إنها مكتبة كبيرة ومعمل بحثي صغير، لاختبار تركيبات دوائية من منتجات الحديقة.
لا يرى “جو” مزرعته مساحة خضراء فحسب، بل كيانا حيا ينتمي إلى البيت والوجود ذاته. يقول عنها “هذه المزرعة عمرها من عمر البيت”، متحدثا حديثا معلوماتيا ووظيفيا، مستعرضا أهمية النباتات المختلفة، ودورها في نظامه البيئي.
مشروع حياة شخصي وعاطفي
يتحدث “جو” في الفيلم عن مزرعته، مؤكدا ضرورة الاستثمار فيها وتنميتها، ولا تقتصر معرفته العميقة بالنباتات على الجانب النظري، بل تتعداه إلى توظيف هذه المعرفة في إنتاج منتجات علاجية طبيعية وبيعها، لكسب ربح مادي، يضمن استمرار مشروعه.
يتكامل ذلك الجانب العملي مع رؤيته الكبرى، فنرى متطوعين ومساعدين يعملون معه، فقد أصبحت المزرعة مركزا تعليميا وإنتاجيا، لكن تلك العلاقة الوظيفية لا تخلو من عمق شخصي وعاطفي.
في عام 2022، التهم حريق هائل جزءا كبيرا من المزرعة، فدمر أشجارا وابتلع المكتبة ومنزلا صغيرا، وفي تلك اللحظة، تحول خطاب “جو” من وظيفي إلى شخصي، معبرا عن أساه العميق بسبب هذه الكارثة، فالحديقة عنده هي الوجود الكامل، والعالم البديل الذي بناه بنفسه، وهي تجسيد لكل ما يؤمن به.

هذا التفاعل بين الجانب العملي والعاطفي، يبرز مدى تغلغل المكان في هوية صاحبه وتعريفه لوجوده، الذي اختاره بعيدا عن إيقاع المدينة السريع، فذلك إيقاع يشبه الحياة، لكنه لا يُحقق عيشا أصيلا لها.
تتجاوز المزرعة في الفيلم كونها مساحة زراعية، فتصبح مشروعا أخلاقيا ومفهوما فلسفيا في أساس عيش الحياة. إنها تحدد غاية الوجود بنسق مختلف تماما عن اتجاه الحياة المعاصرة، التي غالبا ما تتسم بالسرعة والانغماس في حمى اللحظة الراهنة.
ملاذ من صخب العالم الخارجي.. تساؤلات فلسفية
يتساءل الفيلم ضمنيا: كيف يمكن الخروج من هذا الانغماس؟
تكمن الإجابة في المزرعة ذاتها، فهي تمثل ملاذا من صخب العالم الخارجي، ومساحة للتأمل والعمل اليدوي والاتصال بالطبيعة. إنها دعوة للعيش بوعي، وبناء عالم خاص يحكمه إيقاع الطبيعة.
تتميز حركة الفيلم بصريا بكونها قائمة على لقطات مكثّفة، فلا تكتفي بتصوير الحديقة، بل تستعيد الأشياء بروح وجودها، فنرى صورا لأشياء قديمة زائلة، مما يعكس رؤية عميقة لعالم يتنامى، من عالم بدائي بسيط إلى آخر مستقل متكامل.
أما العالم البديل فيوحي بالهروب أو الانفصال عن الواقع، وأما العالم المستقل فيعني بناء واقع خاص، له قواعده ومنطقه الشخصي، لكنه لا ينكر وجود العالم الأكبر.
شبكة العلاقات.. تأثير المشروع على الآخرين
تتجول العدسة بين النباتات، ترصد الحشرات، وتتبع مسارات المياه، لتظهر حياة موازية، هي حياة المزرعة التي تتحرك تحركا مستقلا، وهي عالم بعيد حتى عن عالم “جو” الذي بناه.
يضفي عمقا وتأثيرا على الحكي ذلك المحتوى البصري، سواء كان لقطات مقربة للنباتات، أو مشاهد واسعة للحديقة، مؤكدا فكرة أن الطبيعة لها وجودها، الذي يتجاوز فهمنا أو سيطرتنا.

وحين تتحرك المزرعة بمكوناتها خارج حدود إدراك “جو” وفريقه، يبدو المكان قابلا للتعريف بلا حاجة بشرية إلى البذل فيه، وعند نقطة معينة من المجهود في تنمية المكان، يتبيّن أنه أصبح ناضجا ليكمل وجوده بذاته، لا بالنشاط البشري.
لذلك، عادة ما يتحدث في الفيلم عن حديقته ومكوّناتها، بالتعبير عن جمالها وندرتها، من غير أن يذكرنا بملكيّته لها، فخوفه عليها منطلق من الرغبة في أن يظل هذا المكان قائما، سواء ظل هو موجودا أم لا.
لا يقتصر الفيلم على شخصية “جو” ومزرعته، بل يمتد ليشمل شبكة العلاقات التي تتشكل حول هذا المشروع الفريد، فقد بدأ جار جديد بناء مشروعه، ويتحدث عن بطء صداقته مع “جو”، وعن متانة علاقتهما التي تطورت مع مرور الوقت.
يحكي هذا الجار عن تطور مشروعه المستقبلي، من حيث بناء مكتبة، وإعادة تكوين مشروع موازٍ في الحضور والاكتمال لمشروع “جو”، ويبرز ذلك فكرة التوريث المعنوي، والرغبة الجماعية المبطّنة بقهر تجاه الحياة المعاصرة، التي ترغب بطرق شتى أن تبني واقعا مختلفا. يظهر ذلك في فلسفة “جو” ومشروعه، وكيفية دفع الآخرين لإنشاء مشاريعهم.
“أنا قلق على مستقبل حديقتي”.. هواجس الإرث
في منتصف الفيلم، يتضح أن “جو” مريض بسرطان البنكرياس، ويتوقع أن يموت خلال 3 أشهر، وعندها تبرز القيمة الحقيقية لمشروعه، فيصبح أمثولة تتجاوز المنجز الشخصي.
لكنه لا ينشغل بنفسه في مواجهة الموت الوشيك، بقدر انشغاله بمستقبل حديقته، فيقول: أنا قلق على مستقبل حديقتي، إنها سعادتي.
تخرج قيمة الفردوس البشري في هذه الحالة عن مُنجز صاحبها الشخصي، وتصبح شكلا ضروريا من الوجود، يحتاج إلى تغذية بشرية لتثبت قواعده ويستمر. يُظهر الفيلم قلقه من الموت، من أجل مستقبل الحديقة فقط، وحين يتضح احتمال موته، يتعاظم القلق على مستقبل المكان والخوف من تهالكه.

لذلك، يتحرك تجاه مرضه القاتل في إطار إجرائي، فيتواصل مع مراكز شتى للسؤال عن قدرته على العمل خلال الشهور الباقية، وهل يمكن أن يمنعه المرض من إتمام مشروعاته في الحديقة؟
تجارب الماضي التي صنعت فلسفة الحاضر
تتجاوز المادة الفيلمية في “فردوس” حيّز توثيق حياة “جو هوليس” مع مشروعه، فتتبع مستقبلا لمشاهد شتى من هذه الطبيعة، أشجار، ونباتات فاسدة تعيش عليها الحشرات، ومياه أنهار ومجارٍ… كل هذا يتحرك تحركا مستقلا، فله حضوره الخاص، وهو عالم بعيد حتى عن عالم “جو” الذي بناه.
هذا الجانب البصري يعكس نوعا مختلفا من وجود المزرعة ومكوناتها، لا لتعزيز رؤية صاحبها فحسب، بل لتأكيد أن وجود المزرعة بصريا له جماله وقسوته، ودورته الحياتية، وتفاعلاته المعقدة التي لا تتوقف عند حدود إدراك الإنسان. فالمكتبة البصرية هنا ليست مجرد خلفية، بل جزءا أساسيا من السرد، يوضح أن الطبيعة تستمر في دورتها، بغض النظر عن الأحداث البشرية.

يعرض أناس من محيط “جو” صورا قديمة منه، من كنائس، وذكريات تسلق جبال، ورحلات برية، وهو يتحدث عنها بانطباعات سريعة وواضحة، بذاكرة قوية لرجل في الثمانين من عمره.
تعرض تلك اللقطات على شاشة داخل الفيلم، ولا تكتفي بعرض الماضي، بل تدمجه في الحاضر، وتظهر أن تجاربه السابقة قد شكلت فلسفته الحالية، وأن حياته كانت دائما رحلة بحث عن الوجود المستقل والاتصال بالطبيعة.
إرث عميق لا تختطفه براثن الموت
بعد موت “جو” في آخر الفيلم، يظهر وجود آخر له، ألا وهو وجوده المؤثر في حياة محيطه؛ جيرانه وزوجته وتلامذته في العمل، ويظهر ذلك تأثيرا أنكره “جو” بنفسه، ألا وهو التأثير الإيجابي في حياة الناس، والتأثير في إعادة تشكيل حياتهم.
ينتهي الفيلم بإشارة قوية، تتعلق بإرث الإنسان الذي لا يقتصر على ما ينجزه في حياته، بل يمتد ليشمل الأثر الذي يتركه في نفوس من حوله، وما ألهمهم لمواصلة مسيرته، أو بناء مساراتهم المستوحاة من رؤيته.

ليس “فردوس” فيلما عن حديقة، بل هو تأمل عميق في الحياة والموت والإرث، وأن مشروعا واحدا قد يجسد رؤية مغايرة للحياة، تتجاوز حدود الزمان والمكان، وبنفس الدرجة تتجاوز صاحبها.
