فيلم “سوبرمان” الجديد.. معالجة بسيطة لقضايا كبرى تذكر بحرب إسرائيل على غزة

قبل بضع سنوات، غيرت إستوديوهات “دي سي” (DC) مسارها الفني والسينمائي، بتعيين “جيمس غان” مديرا تنفيذيا مشاركا مع “بيتر سافران”، فأعيدت هيكلة مشروع “دي سي” السينمائي، وبدأ تجديد يطيح ببقايا مشروع “زاك سنايدر”، ويخلق تركيبة جديدة تماما على كل المستويات، تقنية أو فنية.

يفتتح ذلك “غان” بإعادة تقديم شخصية “سوبرمان” في عالم جديد، تحت مظلة مشروع “عالم دي سي الفصل الأول.. الآلهة والوحوش” (DC Universe Chapter One: Gods and Monsters)، وينخرط في تكوين عالم يشبه “غان” أكثر مما يشبه عوالم “دي-سي” المعتادة، فهو مصبوغ بلمسته الكوميدية وعوالمه الأكثر خفة، التي طغت على قوالب “دي-سي” الظلامية، مما أثار جدلا كثيرا بين محبي أفلام الأبطال الخارقين.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

لكن الفيلم لم يتوقف عند الأسلوب، بل إنه بطريقة مباغتة يمزج الأسطوري والخيالي بالواقعي، ويفتح بابا للربط بين سردية الفيلم الخيالية والواقع السياسي المحمّل بالأزمات، التي يسهل ربطها بالسياق المحكي؛ وهو ما يفتح مساحة للإسقاط السياسي على إشكاليات ابنة اللحظة الراهنة، ويضيف ثقلا لسردية “غان” المسرحية.

في زمن سقوط المسلّمات الكبرى، وإعادة تشكيل رموز الخير والشر وفق خرائط مشوهة من القوة والسيادة، يتبدى نسخة “غان” من سوبرمان في هيئة مغايرة، فلا يبدو بطلا خارقا يعيد إنقاذ البشرية فحسب، بل كيانا مشتبكا مع خطابين متناقضين، الطفولة والخطيئة، الاغتراب والوجود، القوة والسلطة.

فلا يمكن قراءة سردية “غان” بمعزل عن الخطاب الجيوسياسي والاجتماعي، الذي يعيد إنتاج كثير من توتراتنا الأخلاقية والرمزية، في عالم لم يعد يؤمن بنموذج المخلّص، حتى حين يرتدي عباءة زرقاء ويحلق في السماء، فالعالم الواقعي أصبح أكثر قسوة وعنفا وإجرامية من عالم الخوارق.

أبطال خارقون أكثر بهجة وخفة

يقدّم “جيمس غان” نسخة أكثر حيوية وكاريكاتورية كأبطال أفلامه السابقة، تصبغها الألوان وطابع الخفة، لكنها مؤسسة على جزئية ملتبسة، وهي كون “سوبرمان” (الممثل ديفيد كورينسويت) في نهاية الأمر فضائي من كوكب آخر، خارج عن المألوف.

فهو هنا لا يحاول أن يثبت أنه خارق، بل إثبات إنسانيته وانتمائه للأرض، فهو إذن أشبه باللاجئ أو المهاجر، ومع ذلك فالشخصية ليست سوداوية كما في معالجة “زاك سنايدر”، بل أكثر توازنا من حيث النغمة، ولها ميل طفولي مرهف للخير.

لكن هذه الفطرة الخيّرة تسقط على واقع دولي مضطرب، فتبدأ في كشف انزياحات سياسية، فيتدخل “سوبرمان” في بداية الفيلم لردع عدوان دولة بورافيا الخيالية على دولة أخرى ضعيفة عاجزة، فتنكشف أمامنا بوضوح فكرة اختلال موازين القوة، وتتبدى على هامش سردية أسطورية فكرةُ وجود مباشر للمأساة والألم.

اندفاع ابن الفطرة الخيّرة لنصرة المظلوم

يرصد الفيلم ضحية تُقصف وتحاصر، ويُسحق شعبها بلا سلاح ولا حق للرد، لكنه لا يكتفي بالمراقبة، بل ينخرط مباشرة في الحدث، ليستهل الفيلم سرديته من فكرة التداعي، فيتدخل “سوبرمان” لردع العدوان بلا حساب ولا قرار مسبق من الولايات المتحدة، مما يعرّضه للمساءلة.

إلى جانب ذلك، فهو يضع فكرة القوة الخارقة في محاكمة أخلاقية، فقوة “سوبرمان” لا تقع بشكل صريح تحت سلطة قانونية، فيمكن بسهولة أن تحدد مواقع الأشياء، المظلوم والظالم، ولكنه هنا قرر التحرك بناء على فطرته الخيّرة، التي اكتسبها من نمط اجتماعي ريفي في كنساس، لقد تدخل ليمنع حدوث كارثة، وللدفاع عن أرواح الأبرياء.

اندفاع “سوبرمان” يفتح مجازات رمزية لا يمكن تجاوزها، فالشعب المغلوب على أمره -كما في الحقيقة- لا يُمنح فرصة للدفاع عن نفسه، بل يعاني في انتظار المخلّص، كي يهبط من السماء وينقذهم.

يعيد ذلك إنتاج سرديات استعمارية قديمة، فالمقهور لا يتحرر، بل يحرره آخر أقوى وأكثر حكمة. هنا يتسلل النموذج الأمريكي، لا من باب العنف الصريح، بل من باب التفوق الأخلاقي المدّعى.

فكرة المخلّص الديني العابر للأوطان

يحيلنا الاضطراب السياسي في الفيلم إلى إسقاط المسألة على الواقع الدولي، فمن جهة تبدو بورافيا رمزا شفافا لدولة استعمارية مثل إسرائيل، لها آلة عسكرية طاحنة، وتهاجم أرضا ضعيفة منزوعة السلاح، وسط صمت دولي بائس، ومن جهة أخرى فإن الدولة المعتدى عليها جارهانبور تشبه فلسطين، بعزلتها ومأساويتها وغياب أي قوة مادية تحميها.

وهكذا فإن تدخل “سوبرمان” لا يبدو إعادة إنتاج للقوى الغربية، بل تصحيحا أخلاقيا لموقف متخاذل دوليا، ومحاولة لإيقاف نوبة جنون ممتدة، لكن حتى ضمن هذا الإطار، يبقى التساؤل قائما حول مدى قدرة الدول الأقل قوة على الدفاع عن نفسها، وتكوين حركات تحرر داخلية، فلماذا لا يُمنح الفلسطيني أو مواطن جارهانبور القدرة على المقاومة؟ لماذا يجب أن يأتي الخلاص دوما من الخارج؟

تلخّص هذه المفارقة نقطة مجازية في الفيلم، إنهم حتى إذا اعترفوا بالعدوان -وهذا لم يحدث- لا يثقون تماما بقدرة الضحية على الفعل، فـ”سوبرمان” أقرب إلى مخلص ديني، يأتي من فوق عابرا للأوطان، ويمارس الإنقاذ باسم الخير المطلق، بلا حاجة إلى مساءلة قانونية أو شرعية.

إنه ضمير كوني يتجول على الأرض، يعيد هندسة العلاقات الأخلاقية، ويقرر من يستحق النجاة ومن لا يستحقها.

عودة إلى قِيم كنساس القديمة

من المثير للاهتمام في سردية “جيمس غان”، سلاسة فعل القتل نفسه، مع أن الفيلم لا يؤسس للدماء، ولا تظهر تقريبا نقطة دم في الفيلم، ولكن “سوبرمان” يقتل “ألترامان”، وهو شبيه له أقل جودة منه، صنعه “ليكس لوثر” (الممثل نيكوﻻس هولت) ليقتل “سوبرمان”.

ولكن في النهاية يختزل “غان” فعل القتل في ضرورة النجاة، ولا نرى طقسا أخلاقيا ولا صراعا داخليا، مع أن “سوبرمان” حرفيا يقتل نفسه، فهل هو ثأر داخلي، أم أن “سوبرمان” الطيب أصبح أشد قسوة في تعامله مع التهديد، ربما هذا الطابع المتناقض والإنساني أكثر، هو ما يحاول المخرج خلقه في عالمه الجديد، ليخلّف وراءه مدينة الخارقين الفاضلة.

على الجانب الآخر، يتعاطى “غان” مع فكرة الهويّة والاغتراب باستكشاف الجزء الثاني من رسالة والدَي “سوبرمان”، فمع أن النصف الأول من الرسالة كان وادعا، يحفز على الخير والسلام، فإن النصف الثاني يستكشف نبرة عدوانية اتجاه الأرض.

إنها نبرة جديدة محمّلة برواسب الغزو والسطوة، هيّجت الرأي العام على “سوبرمان”، واستجوبت وجوده على الأرض لا سيما مع اتصاله بإرث استعماري؛ مما أخل بشخصيته، وجعله يخوض رحلة شبه تأملية، يعود فيها إلى قيم كنساس القديمة، وهي مساحته الآمنة.

بيد أن تناول “غان” لخط سردي محمّل بالرمزيات كان شديد البساطة والكرتونية، فنحن نتتبع البطل ولكننا لا نتأمل، وهو أيضا لا يتأمل ولا يستكشف شيئا جديدا في نفسه، بل بدلا من ذلك نرى تتابعات نمطية، من قبيل العودة إلى الأصل والاستراحة قبل العودة، ولكن التناول الكاريكاتوري للشخصية يجردها من العمق والحمولة الرمزية.

عالم من السخرية يخلق حيوية الفيلم

يخلق “جيمس غان” عالما مؤسسا على السخرية، حتى رسمه للشخصيات يحمل طابعا كوميديا، فظهور “عصابة العدالة” بمظهر كاريكاتوري خصوصا “غرين لانترن” (الممثل ناثان فيليون) الذي بدا كوميديا ذا شعر مثير للسخرية، إلى جانب وجود الكلب الخارق “كريبتو”، الذي منح الفيلم طرافة وعشوائية وحيوية.

أضف إلى ذلك خطوطا شديدة السذاجة، تعتمد عليها الحبكة لتحريك الأحداث، منها “إيفا” (الممثلة سارة سامبايو) حبيبة “ليكس لوثر”، وحبيبة “جيمي” سابقا (الممثل سكايلر جيسوندو)، وهو صحفي عامل في الجريدة التي يعمل فيها “كلارك” و”لويس لَين” (الممثلة رايتشل بروسنان).

سئمت “لويس” معاملة “لوثر” القاسية، وبدأت تحاول استعادة علاقتها مع “جيمي”، فتسرب له معلومات خطيرة تدين “لوثر” في هيئة صور مثيرة، مما يحرك الفيلم بطريقة شديدة السذاجة والصدفية.

هزيمة تجعل البطل الخارق إنسانا

على المستوى البصري، مزج “جيمس غان” بين الواقعية الكرتونية والخيال السياسي، وحافظ على جماليات نظيفة للكاميرا، تخفف حدة الرمزية والمجاز، وتأخذنا إلى قالب المجلات المصورة بالألوان والأزياء الحيوية، لكنها في نفس الوقت لا تخفي حمولة الرمز، فالمشاهد التي تصور المدن المدمرة واللاجئين الفارين، تضيف حمولة سياسية تحاكي صورا حقيقية من غزة أو بيروت.

لا يتخذ “غان” تلك المشاهد والصور أثاثا عابرا، بل يستثمرها دراميا لتعميق شعور المتفرج بأن العالم في أزمة، وهو ما رفع سردية الفيلم المسرحية الساخرة، وطرح السؤال الأهم: هل الوحيد القادر على إيقاف هذا الجنون هو كائن خارق من خارج الكرة الأرضية؟

ولكن في لحظة ما، تشعر أن كل تلك الأفكار انهارت في معالجة سطحية وكوميديا تنتمي للنوعية، ولكنه بداية جيدة وجريئة لعالم “دي سي” الجديد، لأنها تحاول أنسنة الخارق، وتصويره نموذجا بشريا مثقلا بالمشاعر، أكثر من تأطيره في نموذج البطل أو النبي الذي لا يهزم، فالفيلم يبدأ بهزيمة “سوبرمان”.. البطل الذي لا يهزم.


إعلان