“شاعر “.. تقلبات في قصة رجل أصابه نحس حرفة الأدب

يعيد فيلم “شاعر” (Un Poeta) للمخرج الكولومبي “سيمون ميسا سوتو” تسليط الضوء على شخصية من الشخصيات المركبة والمعقدة المألوفة في الأدب العالمي العتيق، لا سيما الأدب الروسي.

صحيح أن تاريخ السينما يزخر بشخصيات مماثلة، تمتهن شتى أنواع الفنون، وتقرض الشعر أحيانا، لكن شخصية الشاعر الخمسيني الموهوب المحبط، التي تتمحور حولها حبكة الفيلم، تعد من أبرز الشخصيات التي قدمت ضمن هذا الإطار.

حبكة وحوارات بعيدة عن التنميط.. عوامل نجاح الفيلم

إن نجاح المخرج “سيمون ميسا سوتو” في تقديم شخصية مقنعة ومؤثرة، بعيدة جدا عن التنميط، بمعالجة فنية غير معتادة أو مكررة يعود لعدة أسباب. أهمها الصدق الفني في كتابة سيناريو وحوار في غاية الإحكام والإقناع والواقعية، ورسم شخصية رئيسية من لحم ودم، ونسج شخصيات ثانوية فاعلة ومؤثرة، وكل ذلك بجودة فائقة.

المثير في الأمر أيضا أن حواراته بعيدة جدا عن النمطية والثرثرة والحشو الفارغ، مع أنها لا تكاد تنقطع طوال الفيلم، وتبلغ أحيانا درجة الصراخ، لكنها تصب في دراما الفيلم، وتدفع الحبكة للتطور، وتزيد أبعاد وعمق الشخصيات والأحداث الرئيسية.

الملصق الدعائي للفيلم

تسبق هذه الأسباب، سيطرة احترافية من المخرج على شتى جوانب الفيلم، ورؤية فنية بارزة تجلت عبر أوجه جمالية عدة، منها على المستوى البصري تصوير الفيلم على خام مقاس 16 ملم، وإعطاء الصورة ملمسا وألوانا حبيبية الطابع، لتماثل أفلام نهايات القرن الماضي وجماليات الوثائقي معا.

أما التجلي الأبرز لخياراته الفنية اللافتة، فكان في إقدامه على إسناد الأدوار الرئيسية إلى ممثلين هواة. ومع ذلك، كان الأداء التمثيلي بالغ الاحترافية، وشديد الإقناع، لدرجة تجعلك تصدق الشخصيات، وتندمج وتتعاطف معها تارة، أو تنفر منها ومن تصرفاتها تارة أخرى.

فثمة حضور طبيعي، وعدم افتعال، واحترافية أمام الكاميرا، وقد برز ذلك في أداء بطل الفيلم “أوبيمار ريوس”، فهو ممثل غير محترف، وقد جسّد الشاعر “أوسكار ريستريب”. وذلك أيضا شأن الممثلة السمراء “ريبيكا أندرادي”، التي أدت دور الشاعرة المراهقة “يورلادي”.

أداء تمثيلي رائع يجمع تناقضات الشخصية

يوظف الممثل الواعد “أوبيمار ريوس” صوته خير توظيف، وكذلك تعبيرات وجهه المميزة، وبنيته البدنية الضعيفة القصيرة، لإبراز الجوانب البشعة وغير المحتملة، أو ضعف شخصية أوسكار ونبلها، وقد تأكد ذلك أيضا بتوظيف المخرج لقطات مقربة من وجهه، وأسنانه غير المقومة، وذقنه غير الحليق، وملابسه الفضفاضة غير النظيفة.

لقطة من الفيلم تجمع أوسكار بابنته

ومع ذلك، وبعيدا عن الشكل العام الخارجي للشخصية، ننجذب تدريجيا لهذه الشخصية البائسة، ذات الأجنحة المتكسرة، والأحلام المتعثرة، والنيات الحسنة التي أسيء تفسيرها، فانقلبت ضدها بمنتهى الغرابة.

ومن هنا، كان انتقال الفيلم بسلاسة من العبثية إلى الجدية إلى السخرية، ثم الدراما القاتمة أو المأساة، بلا مبالغة ولا مفارقة للواقع، ذلك لأن الشخصية ثرية متعددة الأوجه، لا أحادية ولا مسطحة. هذا المزيج الغريب، أو التوليف الدرامي، ما كان لينجح أو يبدو مقنعا، ويهرب من فخ التكرار والنمطية، لولا صدق الأداء التمثيلي وبراعته.

أوسكار يمر بأزمة منتصف العمر ويشعر بالإحباط والخذلان في العلاقات مع المحيطين

ومع ما لهذه الشخصية المثيرة للرثاء من رؤية فنية، فإن المخرج لا يقدمها مادة للسخرية أو الهزل أو الحط من قيمتها، بل يستعرضها بتفهم حقيقي، وبتعاطف صادق لاضطراباتها وقلقها ودوافعها، ولكونها -على مثالبها- من الشخصيات التي تشعر أنها في غير مكانها وزمانها، فتتعامل بسذاجة وببساطة وحتى ببراءة مفرطة مع المحيط من حولها.

إن نجاح المخرج في أن يجعل شخصية “أوسكار” -بلغة الجسد والصوت والمواقف- شخصية مضحكة ودرامية ومؤثرة وصادقة في آن واحد، جعل فيلم “شاعر” إنجازا كبيرا يحسب له.

قضايا الشعر والشعراء في كولومبيا

من خلال شخصية “أوسكار”، يغوص بنا المخرج في مواضيع تمس طبقة الفنانين والمثقفين في كولومبيا، لا سيما أهل الأدب، وتحديدا الشعر والشعراء، الذين لا يلتفت إليهم كثيرا، ولا ينالون التقدير المستحق. كما يتناول مشاكل الفنان عموما في التحقق وصعوبة الكتابة والإبداع، وما يترتب على هذا من بطالة وإفلاس وإحباط وفقدان أمل.

أوسكار يشعر بالعزلة حتى بين زملائه من النخب الثقافية

وهو يدعونا بقوة للتأمل والتفكير في مفهوم النخب الثقافية وتصرفاتها، والنخبوية في الفن عموما. وكذلك تسويق الفن أو تسليعه، أو تطويع الإبداع وتسخيره ليصبح أداة للارتزاق وجمع المنح، أو نيل رضا الأجنبي الأبيض.

أما المواضيع الأخرى العامة التي يتناولها مخرج الفيلم، فهي ذات طابع إنساني يمس الجميع، فمنها مثلا أزمة منتصف العمر، والإحباط والخذلان في العلاقات مع المحيطين، سواء على مستوى الأسرة أو الأصدقاء.

وفوق هذا كله مشاكل التفكك الأسري، والطلاق والأبوة المجهضة، وانعدام القدرة على التفاهم مع الأبناء أو تربيتهم. أما السؤال الأهم الذي لا جواب له، فهو: هل ينبغي أن نبادر بمد يد العون والمساعدة، حتى وإن لم تُطلب منا؟

شيخوخة كئيبة وشباب مرصع بالجوائز

يمر “أوسكار” ذو القلب الطيب الصادق في نقد ما حوله، السيئ الحظ، بأصعب أيام حياته، ولا يحسن الإفلات من الدائرة الجهنمية التي أغرق نفسه ومن حوله فيها، لذا دائما ما يقابله القريب والبعيد بالنفور والتهكم، فيُنعت بأبشع الأوصاف، مثل القملة، والغبي، والأحمق، وبئر الأحزان… إلخ.

أوسكار المتشرد

لقد كان “أوسكار” شاعرا موهوبا، أصدر عدة دواوين شعرية، ونال جوائز في شبابه، لكنه تعثر ولم ينجز جديدا، ومع كبره أخذ يُراكم الإحباطات التي أدت في النهاية إلى عجزه عن الكتابة والتحقق، ثم انعدام القدرة على التكيف مع الوضع، لدرجة بات معها أسيرا لليأس والمزاج المتقلب والديون والكحول، والنمط البوهيمي المسيطر على حياته تقريبا.

“يولاردي”.. محاولات لسقي بذرة شاعرة عظيمة

ينقسم فيلم “شاعر” إلى أربعة فصول ذات عناوين مختلفة، كل فصل يمثل دورة كاملة في مسار حياة “أوسكار”. أما الفصل الأول، فتصوير مأساوي كوميدي لفشله، وعجزه عن تحقيق أهدافه، وقضاء الليل في شوارع مدينة ميديلين ينادم السكارى، ويناقشهم في الشعر، حتى يسقط من التعب والسكر.

تتطور الأحداث خلال الفصلين الثاني والثالث، بعدما دفعته أخته للبحث عن وظيفة، وأخبرته بصراحة أنه سيشرد في الشوارع عندما تموت أمهما. وبعد لقاء سريع بابنته المراهقة -التي تحرجها زيارته لها في المدرسة- يعدها بأن يكون أبا جيدا، وأن يوفر لها مصاريف الجامعة الباهظة، مع أنه يقترض منها مالا في المشهد التالي، لكنه يلتحق في النهاية بالعمل بإحدى المدارس مدرسا للفلسفة بدوام جزئي.

أوسكار معلم فلسفة في إحدى المدارس يتعثر بطالبته الشاعرة

وذات يوم، ينبهر برسومات وقصائد مذهلة في دفتر الطالبة “يورلادي” (الممثلة ريبيكا أندرادي)، وهي ابنة 15 عاما، تعيش في ضواحي ميديلين مع عائلتها الكبيرة الفوضوية، بلا أب ولا أم.

لا يتردد “أوسكار” في تقديم النصح والإرشاد، واحتضان الشاعرة الواعدة، ومساعدتها بالطعام والمال وهو مفلس، ذلك لكي يقنعها بأنها في سبيلها لتصبح شاعرة عظيمة، إن هي اهتمت بموهبتها.

لكن “يورلادي” لا تعبأ كثيرا بما يقوله، في لا تحب الكتابة والرسم إلا في دفتر ملاحظاتها، ويهمها أكثر كسب المال والطعام، أو إيجاد أي سبل مناسبة لإعالة أسرتها.

تعقيد درامي يوقع في منزلقات حادة

يبلغ التعقيد الدرامي ذروته في الفصل الرابع، مع تطور وتعقد في العلاقة المرسومة بصدق والمؤداة بعفوية، بين “أوسكار” والمراهقة “يورلادي”، فبتوطد العلاقة بينهما تنتابه رغبة كبيرة في الحياة، ويحدوه الأمل في استعادة مجده السابق، وأن ينشط مرة أخرى في الكتابة.

من ناحية أخرى، فهو يراها بمنزلة الابنة المحروم منها، العاجز عن التواصل الطبيعي معها، ومن هنا نفهم دوافعه لأن يكون أبا جيدا وناصحا مخلصا لها، لتعويضها عن غياب والدها. أما “يورلادي” فلم تشكُ من غياب الأب، بل تبدو صامتة مذهولة، وهي في حيرة دائمة من اهتمام هذا المدرس المخبول الغريب بها، لا سيما أنه لم يلمح قط لأي شيء شهواني أو غير لائق.

“يورلادي” لا تبدي أي اهتمام بأستاذها الشاعر

ما يفاقم الأمور أنها ليست مهتمة كثيرا بأن تصبح شاعرة، و”أوسكار” مرشد سيئ للغاية، يسلمها بحسن نية إلى الأصدقاء الشعراء في مدرسة الشعر، لكنهم يرغبون باستثمار الفتاة السمراء ذات الأصول المتواضعة، لحلب موهبتها، والتربح منها بجذب الدعاية والتبرعات، لا سيما من الدول الأوروبية، والمؤسسات الأجنبية المانحة والراعية للمواهب.

وتلك إدانة لانتهازية الجانبين، لا سيما الرعاة البيض، أو الأجانب الذين يريدون الظهور بمظهر تقدمي، بتشجيعهم ودعمهم لإبداعات الملونين، لا سيما الفقراء.

إن التطور البالغ في مصائر الأبطال، وخط سير الأحداث، حافظ على ديناميكية فيلم “شاعر”، ودفعه للأمام على نحو مشوق ومؤثر، سواء في اللحظات السخيفة أو الصادقة، أو حتى المحزنة، فيتورط “أوسكار” في تهم أخلاقية وأدبية وقانونية تهدده، بعدما كانت حياته في سبيلها للتحسن والتبدل للأفضل.

جائزة غير منصِفة لفيلم مميز

عُرض فيلم “شاعر” في قسم “نظرة ما” خلال فعاليات الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي الدولي، التي عُقدت بين 13-24 مايو/ أيار 2025.

وقد تنافس مع 19 فيلما آخر في المسابقة، ونال جائزة لجنة التحكيم، لكن المخرج كان يستحق الجائزة الكبرى في هذا القسم، مقارنة بالفيلم الفائز، أو على الأقل كان من الضروري إشراك الفيلم في المسابقة الرئيسية، نظرا لأحقيته بالمنافسة على جوائزها، لا سيما إن قورن بأفلام أخرى كانت حاضرة فيها.

مخرج الفيلم “سيمون ميسا سوتو”

يثير ذلك أسئلة كثيرة عن آليات برمجة الأفلام في المهرجان عموما، لا سيما أن أفلاما أخرى كثيرة، كانت من أفضل الاختيارات المبرمجة في دورة هذا العام، ولكنها عُرضت في أقسام أو فعاليات أخرى خارج المسابقة.

وُلد مخرج الفيلم “سيمون ميسا سوتو” بمدينة ميديلين الكولومبية عام 1986، وقد فاز بجائزة السعفة الذهبية عن فيلمه الروائي القصير “ليدي” (Leidi) عام 2014، وجائزة قسم “أسبوع النقاد” عن فيلمه الروائي الطويل الأول “أمبارو” (Amparo) عام 2021.


إعلان