“أعظم قصة بقاء”.. حكاية الرجل الذي غامر بحياته لاستكشاف القطب الجنوبي

بين السينما والتاريخ تحالف وتبادل للمنافع مستمران. وفيلم “شاكلتون: أعظم قصة بقاء” الوثائقي نموذج جيّد يؤكد ذلك، فقد منحت الوقائع التاريخية لصناع فيلم “شاكلتون.. أعظم قصة بقاء” (Shackleton: The Greatest Story of Survival) فرصة جديرة بأن تكون مادة سينمائية مميّزة. فكانت رحلته مع أفراد طاقم سفينة “إندورانس” لاستكشاف القطب الجنوبي قصة مؤثّرة معبّرة.

وفي المقابل، جعل المخرج “بوبي هانسل” إعادة إخراج هذه القصة إلى العموم عملا ضدّ النسيان، حين أتاح للمستكشف والمغامر الأسترالي “تيم غارفيس” أن يعيد محاكاة الرحلة في الظروف نفسها تقريبا، حتى نعيشها معه من جديد.

من مجلدات التاريخ إلى الشاشة الكبيرة

يعد السير “إرنست هنري شاكلتون” من أوائل مستكشفي القطب الجنوبي، فهو أبرز رجالات الحقبة المعروفة باسم العصر البطولي لاستكشاف القطب الجنوبي.

فبعد تجربتين مثيرتين للتوغل نحو القطب الجنوبي، جهز ما سمي يومئذ “الرحلة الاستكشافية الإمبراطورية” عبر القارة القطبية الجنوبية، بين 1914-1917، وانطلق من إنجلترا عام 1914 بسفينة “إندورانس” متجها نحو بحر “ويديل” الجليدي. واختار طاقما من 27 فردا، لمساعدته في تحديه الكبير، ليكون أول من يصل إلى القارة القطبية الجنوبية.

كانت هذه المغامرة مثيرة حقّا، حتى إنها ألهمت السينما طويلا، فقد أنجز حولها حتى الآن ما لا يقل عن 12 عملا دراميا أو وثائقيا، أغلبها متاح على “يوتيوب”. ونذكر منها:

  • فيلم “جنوب” (South) للمخرج “فرانك هيرلي” (1919)، وهو فيلم وثائقي صامت، يعرض بعض تفاصيل رحلة “شاكلتون” الاستكشافية، وقد رُمم وعُرض عام 2000.
  • وثائقي “مغامرة شاكلتون في القطب الجنوبي” (Shackleton’s Antarctic Adventure)، للمخرج “جورج بتلر” (2001).
  • المسلسل التلفزيوني البريطاني “شاكلتون” (Shackleton)، للمخرج “تشارلز ستوريدج” (2002)، وهو من بطولة “كينيث براناه”.
  • فيلم “التحمل” (The Endurance)، للمخرجين “جيمي تشين” و”ناتالي هويت” و”إليزابيث تشاي فاسارهلي” (2024)، وهو وثائقي يمزج بين لقطات من رحلة “شاكلتون” الاستكشافية، والبحث المعاصر عن سفينة “إندورانس”.

رهان ضد الموت في سبيل الاستكشاف

يعرض الفيلم شخصية المستكشف “شاكلتون”، فنلمس أثر روح المغامرة التي توجه فكره وتحدّد اختياراته، فالمغامرون -على خلاف عامة الناس- يتميّزون بالميل الكبير نحو الإثارة، والرغبة المستمرّة في التحرّر من حياة العادة والدأب، وإلى هذه السمة يُرجع باحثو علم النفس إدمان بعض المقامرين على ألعاب المراهنة.

المغامر الأسترالي “تيم غارفيس” يعيد محاكاة رحلة “شاكلتون”

والمستكشف مقامر على نحو ما، فكرهه لحياة الدأب، ورغبته الشديدة في اكتشاف الجديد، ورغبته في أن يقدم للإنسانية إضافات مهمة تكفل نجاحه وخلوده، هي عناصر تدفعه إلى المقامرة على نحو خاص، فهو لا يراهن بالمال ضد أفراد منافسين، أو مؤسسات منظمة للألعاب، بل يراهن ضد الموت، واضعا حياته مادة لهذا الرهان.

“شاكلتون”.. قائد فذ في عالم العزلة المتوحش

يعرض الفيلم صورة متكاملة للمستكشف “إرنست هنري شاكلتون”، بقدر ما يعرض مغامرة لاستكشاف الأقاصي المجهولة، فيبدو “شاكلتون” من خلال الوقائع رجلا حالما يحاول أن يذهب أبعد ما يمكن في ملاحقة طموحه لاستكشاف القطب الجنوبي، ومستكشفا قادرا على إقناع محيطه بتوفير التمويلات الضرورية لمشاريعه العلمية.

فلئن كانت مثل هذه الرحلات تتطلب ثروات طائلة، فإنّ “شاكلتون” نجح في تحدي المصاعب المادية، وجعل حلمه الشخصي قضية يتحمس لها الآخرون، فقد كان يوقد جذوة حلم الخلود في نفوس الأثرياء بذكاء، فيقترح عليهم تسمية المواقع المكتشفة بأسمائهم، مقابل إسهامهم في تمويل الرحلة.

السير “إرنست هنري شاكلتون” أحد أوائل مستكشفي القطب الجنوبي

وليضمن تشكيل فريق مصغّر متعاون، اختار 27 فردا من بين 3 آلاف مرشح، رغبوا في المشاركة في الرحلة. ومن معاييره أن يكون المشارك إيجابيا له قدر كبير من التوازن الصعب بين المرونة والصلابة، فيكون له من القوة النفسية والجسدية ما يجعله قادرا على التحمل، ويكون له من المرونة ما يجعله قادرا على العمل المشترك.

وبديهي ألاّ تكون هذه مثل هذه الرحلة الاستكشافية إلى القطب الجنوبي نزهة وترفيها، بل مواجهة للأهوال في مكان تنعدم فيه ظروف الحياة، فلم يكن بحر “ويديل” مضيافا، بل بسط في طريقهم طبقة سميكة من الجليد، تتضاعف كلّما تقدمت السفينة محاولة بلوغ اليابسة، قبل تجمد المحيط في الشتاء.

كان على رجاله كسر طبقات هذا الجليد، وفتح المعابر في المياه يدويا، كلّما تعسر على قوة دفع السفينة تحطيمها، وكان على القائد المستكشف أن يسيطر على رجاله بحنكة، ويمنع تمردهم عليه وهم ينفّذون هذا العمل الجسدي الشاق، في ظروف قاسية، في مكان قصي من الأرض.

تحدي الطبيعة يفل عزم السفينة ورجالها

يبدو أنّ حماسة “شاكلتون” كانت أكبر من دراسته لخصائص المحيط القاري، وأنّ تحدي الطبيعة كان أكبر من قدرة السفينة “إندورانس” على الإبحار وسط طبقات الجليد، ومن قدرة الرجال على فتح المعابر.

فقد علقت “إندورانس” وسط الجليد، وبقي الفريق يائسا ملقى في الخلاء يمزقه البرد الشديد، ويتحوّل هدفه فجأة من بلوغ المحيط الجنوبي واكتشافه، إلى مصارعة الظروف القاسية للنجاة.

طاقم الرحلة الذي اختاره “شاكلتون”

وهنا يبرز دور “شاكلتون”، فنراه قائدا يحفز الجميع، ويبعث فيهم الحماسة من جديد، فيتنازل الجميع عما يحكمهم من تراتبية، ويتشاركون في تنظيف المكان، وفي فهرسة الأبحاث العلمية، وكان يرمي بذلك إلى طرد الضجر عن طاقمه، والحيلولة دون إصابتهم بالاكتئاب، كي يظل الجميع في حالة معنوية عالية.

وكانت له خطة لكل طارئ، فقد قرر تغيير مكان التخييم، فأشغل أعضاء فريقه بمهام جديدة، منها بناء الأكواخ الثلجية، والتسلي بلعبتي الهوكي وكرة القدم على الجليد، حتى يخرجهم من الشعور بعدم الجدوى، وبعث روح جديدة بينهم.

“إندورانس” تنحني أمام جبروت الطبيعة

كان جبروت الطبيعة أكبر من تحدي “شاكلتون”، وأقوى من أن يقاومه فريقه، فقد أخذ الجليد المتراكم يعتصر “إندورانس”، تلك السفينة التي تحدته، وأخذت طبقات الجليد -التي يتضاعف حجمها كلما اشتدت برودتها- تدمرها شيئا فشيئا.

كانت الكارثة تقع ببطء أمام فريقه، فيلاحظونها ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئا، ثم يجبرون على التخلي عنها بعد أن تحطمت سواريها وبدأت تصبح ركاما من الخشب، ثم غرقت لاحقا في بحر “ويديل” قبالة القارة القطبية الجنوبية، واقتصروا على قاربي نجاة صغيرين.

حطام “إندورانس” التي عجزت عن مقاومة الثلوج

ولم يكن سهلا على الطاقم سحب قاربين عبر الزلاجات إلى المياه البعيدة، فبرغم الجهود المضنية أياما، لم يتسن للرجال جر القاربين أكثر من 10 كلم.

أضف إلى ذلك أنهم كان عليهم أن يواجهوا تحدي فقدان الغذاء، ويستحضروا ما يختزن الإنسان من قسوة ووحشية، ضمن اختبار صراع ضمان البقاء، لذلك قرروا التخلص من منافسيهم على الطّعام، وإطلاق النار على الكلاب، أصدقاء الأمس الذين قدموا لهم أجلّ الخدمات وسط الثلوج.

القائد يتخلى عن طموحاته لإنقاذ فريقه

كان على الفريق أن يواجه أزمة الجوع في عزلته البعيدة، فيبحث في الجوار عن الفقمات وطيور البطريق، لتحصيل اللحوم للأكل، والدهون للمواقد والإنارة. وفي تلك الأثناء كان مقرّ التخييم يتفتت تحت أقدامهم، فطبقة الجليد بدأت تتآكل، ولكن ركوب البحر ما زال مغامرة محفوفة بالخطر، لشدة العواصف وتهالك القاربين.

لجوء الطاقم إلى جزيرة الفيل بعد تحطم السفينة

حولت هذه الانتكاسة مشاريع الفريق جوهريا، فاضطر “شاكلتون” إلى التّخلي عن طموحاته الشخصية لاقتحام الجنوب، أو العلمية لاستكشافه، ليوظف عبقريته في النجاة، والعودة إلى الأرض التي تبعد أكثر من 500 كيلومتر، من جهة جورجيا الجنوبية.

وقد وصل إليها في فريق من 6 رجال، بحثا عن المساعدة، ومنها عاد إلى رفاقه الذين تركهم خلفه في جزيرة الفيل، بعد محاولات كثيرة امتدت 4 أشهر ونصف.

محاكاة مغامرة تصبح درسا بيئيا

طبيعي أن يبحث المخرج “بوبي هانسل” عن التميّز الفني، لكثرة الأفلام الوثائقية التي تجعل مغامرة “شاكلتون” مادة لها، لذلك حاول الجمع بين الإثارة التي تستهوي مشاهدي الوثائقيات على منصات الإنترنت اليوم، والتوثيق الدقيق الذي يميّز هذا النمط السينمائي، والبحث العلمي، وهو الدافع الذي يحرّك المغامر الأسترالي والناشط البيئي “تيم غارفيس”، وهو من يتولى الوساطة بين المتفرّج وأصل الحكاية التي وقعت منذ أكثر من قرن.

محاكاة مغامرة “شاكلتون” تتحول إلى درس بيئي

وكان على الفيلم أن يزاوج بين أسلوبين؛ أن يسرد الوقائع نقلا عن مذكرات “شاكلتون”، وانطلاقا من صوت سارد خارج الإطار، باعتماد ضمير الأنا، وأن يحاكي المغامرة، فيعيد “غارفيس” وفريق صغير أكثر عناصر رحلة “شاكلتون” إثارة للدهشة في الظروف نفسها تقريبا، فيوفر المادة البصرية التي يتطلبها الإبداع السينمائي.

وفي الآن نفسه يحاول أن يعود بنا إلى الخلف قرنا من الزمن، لنعيش التجربة ذاتها، لنقترب ما أمكن من روح “شاكلتون” المغامر الفذّ، ويكون الهدف مزدوجا عندئذ؛ التعرّف على المحيط الجنوبي، ودراسة الحياة النائمة هناك في الأفق البعيد. فتنتهي هذه المحاكاة السينمائية إلى درس بيئي، يؤكد حتمية إنقاذ الحياة المهدّدة، ومقاومة التلوث والاحتباس الحراري.

السقوط في الثقب الأبيض

كيّف المخرج “بوبي هانسل” الإخراج والتقطيع الفنّي، للتعبير عن حالة التيه التي سقط فيها الفريق، فكثّف اعتماد اللقطات العامة أو الجامعة، أي اللقطات الواسعة التي تتجاوز الوظيفة التأطيرية، وتتجاوز وصف المحيط الهادئ وما فيه من طبيعة بكر، إلى الوظيفة التأملية.

عرض المشاهد عبر كاميرا الطائرات المسيرة، تخوّل لنا إدراك الفضاء الشاسع المنبسط من منطلق عين الطائر، وأن تصبح الصورة منشأ للمعاني الغزيرة، فجبال الجليد الصلبة تنهار، وتصبح كائنا مائيا ثائرا بسبب العواصف.

الثلج يتحوّل إلى ثقب أبيض يمتص الكائنات ويبتلعها

والبياض الذي يرمز عادة إلى الصفاء والنقاء والطهارة والاحتفاء بالطبيعة البكر، يتّخذ دلالة سالبة، فشخصيات اللقطات البعيدة تنمحي وتغيب، وصورة المحيط الهادئ تصبح ثقبا أبيض على نحو ما، فيبتلع المستكشفين وعتادهم، كما يبتلع الثقب الأسود النجوم الضخمة في نهاية حياتها.

ولكن رؤية المخرج لم تكن عدمية ولا انهزامية صرفا، فقد كان يجعل مغامرة “شاكلتون” في ذلك الامتداد المفتوح عملا بطوليا، ومغامرة طاقم السفينة تجربة وجودية تتحدى خطر الفناء.

لذلك كان كثيرا ما يعتمد لقطات الأرجل وهي تغوص في الثلج، والأيادي وهي تكسر طبقات الجليد، لتفتح المعابر، أو تسحب القوارب بكل صلابة وجلد، وقلما يلجأ إلى اللقطات الكبيرة، التي تكشف المعاناة وتعلي معنى الخيبة والانكسار. وكان بذلك كلّه يحاول خلق ملحمة مظفرة من رحم مأساة “شاكلتون” ورفاقه.


إعلان