“خمسين متر”.. اقتراب حذر من عرين الأب المحصّن بالغموض

“اعتقدت طويلا أن قائمة مخاوفي ستختفي مع الزمن، لكن الحقيقة أننا نصبح أضعف عندما نكبر في السن، نخاف ضياع ما حققناه، ونخشى عدم تحقيق ما حلمنا به، نستسلم لواقعية يفرضها علينا النضوج الذي يصيبنا”.

بهذا المقتطف المختزل، تفصح الكاتبة والمخرجة المصرية يمنى خطاب، عن بعض من مخاوفها الذاتية، وتعيد تشكيلها باستفاضة أكثر إسهابا في أول أفلامها الوثائقية الطويلة “50 متر”.

تريلر فيلم “50 متر” على قناة “فيميو”

عُرض الفيلم عرضه العالمي الأول، في مسابقة “الموجة القادمة” بالدورة 22 من مهرجان كوبنهاغن للأفلام الوثائقية، وقد لاقى قبولا واستحسانا ملحوظا.

فالمعيار المؤكد لنجاح الفيلم الوثائقي الذاتي المنشأ، أو الذي يتطرق إلى معضلة أو أزمة ما لدى صانعه، هو القدرة الوفيرة على فتح خزائن الحكايات والذكريات، فالسرد الذاتي بما يتطلبه من شحن بطاريات البوح الشخصي، توازيه كذلك مهارة أخرى، ألا وهي شجاعة التعري والاعتراف.

وليس المقصود هنا الكشف عن الشوائب النفسية، أو غيرها من تلك الملحقات، بقدر ما هي محاولة للتحرر، بإزاحة ما تيسر من مكونات -لينة أو صلبة- عن كاهل المجري النفسي، وتلك التوليفة الجذابة نادرة التحقق في السينما العربية عموما. ومن هذه النقطة، يمكن الوصول إلى منبع ردود الفعل الإيجابية على هذا الفيلم.

الملصق الدعائي للفيلم

والحقيقة أنه لا يمكن حصر هذا التقدير بين جدران إطار واحد، ألا وهو البوح الخاص، وما يقابله من رغبة أخرى للتلصص من جانب المتفرج، لكن شيئا آخر يضيف جاذبية مضاعفة، فالأرضية التي يتكئ عليها البناء الفيلمي هي رغبة صانعته في الاقتراب الحثيث من والدها، فهي ترى أنه يقف في البعد وحيدا، وتحاول كسر جدار الصمت الجليدي، الذي نصبه بمهارة فائقة حول حياته وذاته الداخلية، ولا شيء أفضل من تدفق مياه الحكي لإذابة هذا الحاجز الثلجي.

أو هكذا كانت تظن، فهل نجحت حقا؟

تساؤلات وتأملات

لإجابة ذلك السؤال، لا بد من وضع سياق الفيلم العام تحت المجهر، فنحن أمام سردية شديدة الذاتية، تنطلق من رحم سؤال مشروع، ألا وهو هل للمخرجة (البطلة) معرفة حقيقية بوالدها؟ أم أن حياتهما فيما مضى لم تسمح بتكوين مساحة معرفية مقبولة بينهما؟

ولتقديم إجابة راسخة اليقين عن هذه التساؤلات، يلجأ السرد إلى قوام يجمع بين الحرفية السينمائية، والعفوية الذاتية، وتتكون رقعة الفيلم الزمنية (72 دقيقة) من عنصرين أساسيين، أولهما المشاهد الأرشيفية القديمة، التي تطالعنا فيها يمنى في مراحل شتى من عمرها، وقد صورت بكاميرا فيديو رقمية بعلم من الأب أكرم خطاب.

المخرجة مع والدها يجلسان أمام حوض السباحة، بحثا عن أرضية مشتركة بينهما

أما الشق المقابل من هذه المعادلة السردية، فيقع بين حدود تجربة صناعة هذا الفيلم، فالمتفرج يصاحب المخرجة ووالدها، أثناء مراحل التحضير والإعداد، وصولا إلى تصوير المشاهد، التي تدور داخل أحد النوادي الاجتماعية، وبجوار أو بداخل حوض السباحة البالغ حجمه 50 مترا، ويمارس فيه الأب مع أصدقائه وأترابه رياضة الأيروبك المائي، فيصبح مغزى العنوان واضحا جليا، فالبحث عن رابطة تواصل بين الأب والابنة في هذه المساحة الضيقة، هي الهم الشاغل لمكنون الفيلم.

وكأننا نشاهد فيلما بداخل آخر، في محاولة لتنفيذ ما يعرف سينمائيا بكسر الإيهام، فالأفلام الوثائقية لديها جرعتها الوفيرة من الخيال، وعندها تذوب الحدود بين الاحترافية والعفوية، فتنصهر تلقائيا عناصر المكونات في بوتقة السرد، حتى يندمجا تماما، ويصبح كل منهما مكملا للآخر، فما يسأل عنه في الحاضر، قد تجد إجابة له مدفونة بين طيات المواد المصورة من الماضي، وهكذا في دوامة لا نهائية من التأملات.

فالحكي يعتمد على ازدواجية الزمن، فيتنقل بسلاسة وحرية بين مشتقات الزمن السابق، ورسوخ الزمن الحالي وثقله، مما يخلق على الدوام والاستمرار حالة من المقارنة، لا بين توالي الأزمنة فحسب، بل بين الشخصيات محل التناول كذلك، فالتغيرات الطارئة على دواخلهما واردة وحاضرة، ويمكن ملامستها والإحساس بها.

لحظات سعيدة يتبعها طوفان التساؤلات

يبدأ الفيلم بمشاهد قديمة، فيها طفلة صغيرة تلعب مع أخيها الأصغر قبل انطلاق احتفالات عيد ميلادها، ومن خارج المشهد يتصاعد صوت الأب وهو يوجه ابنته أمام الكاميرا، ثم ينقطع المشهد على حين فجأة، وننتقل إلى المشهد المقابل، الذي يجري فيه احتفال آخر، لكن هذه المرة بعيد ميلاد الأب السبعين، الذي يحتفى به بين أصدقائه في النادي الرياضي، أمام حوض السباحة.

الملصق الدعائي للفيلم بتوقيع مهرجان كوبنهاغن للأفلام الوثائقية

ثم تستمر المصفوفة السردية في التوالي، وفيها نرى المخرجة أثناء توجيه الأب، والإشراف على زوايا الكاميرا، وغيرها من تلك التوابل الفنية اللازمة لاستكمال التصوير، وكأنهما يتبادلان الأدوار، فالأب في الصغر، والابنة في الكبر، بكل ما ينطوي عليه ذلك من رد للدين، أو فلسفة الدائن والمدين، فلا شيء يستمر على حاله، وهكذا يسلم كل منهما مقاليد الأمور إلى الآخر، بسلاسة وإحكام.

تبدأ منذئذ نيران الأسئلة الموجهة منه إليه، فتباغته بالتساؤل عن مدى استقباله بالاحتفال المفاجئ بعيد الميلاد؟ هل ابتهجت نفسه؟ أم أن المفاجأة ألجمت مشاعره؟ فيجيب باقتضاب بأن المفاجأة كانت سعيدة، ويشعر بتردد صداها الطيب داخله.

وهكذا يتدفق منوال الحكاية، استنادا على طلقات الأسئلة المصوبة نحو الأب، فيواجه تلك النيران الصديقة، إما بدفاعات الأسئلة المضادة، أو بالهروب والاكتفاء بإجابات قصيرة، لا تشفي غليل التساؤل، وكأن كلا منهما يمارس لعبة القط والفأر، إذا أمسك أحدهما بالآخر، يندثر بغتة من بين يديه، كأن لم يكن حاضرا.

فإجاباته على تساؤلاتها لا تعدو أكثر من كونها دفعات تمهيدية، يفترض أن يسبقها وابل من الكلمات المسترسلة، لكن التزامه القسري بالإجابات المبتورة يضعف هجمات الأسئلة، نظرا لعدم الاستجابة المقابلة، وهكذا في دائرة لا نهائية من الإخفاقات المتوالية.

بلاغة الصمت واستنطاق الكلمات المختبئة

يقول الكاتب البرتغالي “جوزيه ساراماغو”: الصمت البليغ هو -ببساطة- الكلمات التي ظلت في حنجرتنا، الكلمات المخنوقة التي لم تستطع الإفلات من تضييق المزمار في الحلق.

وفي فيلمنا، يطالعنا الأب في مشاهد عدة لائذا بصمت غامض، يطمر خلف تلك الطبقة السميكة أطنانا من الكلام الوفير، لكن التشبث غير الإرادي بالسكون، يتناسب عكسيا مع ما يدخره من مشاعر قيد الاحتباس، تحتاج إلى شفرات محفزة للانطلاق.

المخرجة يمنى خطاب

فقد اختار السرد أن يقحم المتفرج في لحظته الآنية، فأصبحنا لا ندرك على وجه اليقين كثيرا عن هذا الأب، فمن هو؟ ما طبيعة عمله؟ كيف كان نسيج علاقاته مع أسرته أو محيطه؟

كل هذه الأسئلة، قد يحالفنا الحظ بإيجاد إجاباتها، وأحيانا لا نصل إلى جديد، فليس الهدف تقديم صورة شخصية بعيون الابنة، بقدر ما هي محاولة يسيرة للتواصل، وهذا ما تسعى إليه بسرديتها الذاتية، فالحقيقة أنها تدرك مدى وعورة الإمساك بالتلابيب الداخلية لأقرب الناس منها، ولا يعود ذلك إلى هروبه المتكرر، أو الاكتفاء بالحد الأدنى من الاسترسال، بقدر ما تبدو إشكالية الخوف من المواجهة المحتملة مع الحقائق، هي المعيار الحقيقي في هذه المعادلة.

وهنا لا بد من استحداث وسيلة جديدة، وعندها تلجأ الابنة إلى البوح المضاد، فتفتح صندوق أسرارها ومخاوفها أمام الأب، لعل وعسى أن تفتح هذه المثيرات شهيته، ويُقبل على التواصل، مثلما نرى في أحد أهم مشاهد الفيلم وأعذبها، أثناء إفصاحها عن إصابتها بالقلق الدائم الملازم لها منذ الصغر، مع تصاعد معدلاته بمرور الزمن، وقد نجحت هذه المحاولة، فأحدثت ثغرة دفاعية عند الأب، فأبدى اهتماما مضاعفا بها، وعمل بتلقائية أبوية على تهدئة روع قلقها.

ومن ثم يمكن الوصول إلى صيغة تفاهمية بشأن هذا الأب، الأقرب بأسلوبيته إلى النمطية المألوفة عن الأب العربي، فهو -مع صمته الخجول- يخفي وراء غلافه المقوى عددا لا نهائيا من صفحات المحبة والحنو، لا تحتاج إلا إلى شظية محفزة، فتنطلق فورا.

“ولادة إنسان جديد تتطلب موت كائن آخر”

بزاوية ثابتة، تلتقط عدسة الكاميرا مخرجة الفيلم، وهي منشغلة بتحضير بعض المشاهد قبل تصويرها، وفي تلك الأثناء يتصاعد من الخلفية صوت الأب، وهو يفصح بأريحية نادرة عن عدم اكتراثه إن كان رزق بأطفال من عدمه، فالإنجاب قد يعيق تحقيق بعض الطموحات، وفي كل الأحوال لا فرق لديه، هذا خير وذاك خير كذلك.

وهنا تتوقف المخرجة عن التدوين، وتنظر إلى الكاميرا، فتكشف إحساسها بالصدمة، ويحيلنا السرد إلى طبقة أخرى أكثر عمقا، وأكثر اتساعا واشتباكا مع الواقع.

فبحسب الشاعر “فرناندوا بيسوا”، فإن بداخل الإنسان أكثر من شخص، أو -وفق تعبيره- هناك آخر موجود له احتياجاته ومتطلباته، التي ترغب في تحقيق دوافعها الذاتية.

وبمطابقة هذه النظرية على بطلنا الأب، سنجد أنها واقعية تماما، فهو يسهب في أحد المشاهد معبرا عن رؤيته للإنجاب، الذي سيؤثر حتما على مسار الآباء الشخصي، فالطموحات والتطلعات لا سقف محدود لها، فالنقطة التي يشتبك معها الفيلم تلقائيا بلا قصد واضح، هي تلك العلاقة الحساسة بين الآباء والأبناء، وأيهما يستأثر بحياة الآخر؟

تقول الكاتبة إيمان مرسال عن الأمومة: ترفض الأم أن تكون بيضة يشرخها المولود في طريقه إلى حياته، يكمن هنا رعب التهديد وجديته، لحظة ولادة إنسان جديد تتطلب موت كائن آخر.

يبدو أن ما أصاب الكاتبة، هو الإحساس الذي هاجم الأب، لكن هذا الوضع يأخذ وضعا مغايرا عند الابنة، ففي أحد المشاهد تطالعنا مفصحة عن قبس منها، فتخبرنا أنها بعد زواجها بأكثر من 10 سنوات، لم تحصل بعد على لقب الأمومة، تشعر بالخوف والقلق من الوحدة، في حين يرى الأب أن لا شيء يدعو إلى هذا الإحساس المتشائم، فالفرق بينهما جلي واضح، أحدهما لا يعنى إلا بحرث ذاته المنفردة، في حين ينشغل الآخر بزراعة نبتة ما، تمكث ولو قليلا.

شجاعة الاعتراف بالحاجة التبادلية

تنشئ المخرجة جسرا حساسا وذكيا مع الكاميرا، التي تشكل الوسيط التعبيري، فتواجه العدسات بجرأة وحرية واضحة، ثم تنساب أفكارها ومخاوفها على حد السواء، التي إن كشفت عن شيء، فلا أقوى من أن الأب والابنة كل منهما يحتاج إلى الآخر، حتى وإن بدا عكس ذلك.

وحينها يمكن إلقاء نظرة مغايرة على الفيلم، فالعلاقة التبادلية المنافع بين الأب والابنة، هي المحور الرئيسي لقراءة الفيلم بلا شك، لكن هنالك ما يمكن إضافته إلى هذه الرؤية، ألا وهو استعراض ماهية الزمن، ومدى تأثيره الملحوظ على المسار الحياتي والشخصي.

جانب من المناقشة التي اعقبت عرض الفيلم في مهرجان كوبنهاغن للأفلام الوثائقية

تطالعنا يمنى خطاب قائلة إنها تبلغ من العمر نحو 35، أما الأب فيكمل عامه السبعين، بالتأكيد تختلف نظرتها تجاهه، فلا هو الشاب المنطلق، ولا هي الطفلة الصغيرة التي لا تدرك من أمرها شيئا، كل منهما أصابه التغير والتبدل الطارئ، الناتج تدريجيا بحكم تدفق الخريطة الزمنية.

وبعد تلك السنوات الطويلة، هل وجدت الابنة ما يكفي من معرفة عن والدها؟

تكمن إجابة هذا السؤال بين طيات المشاهد، التي تتوالى بين الأب وابنته في سردية شديدة الإحكام، مع ما شاب بنيانها من عفوية ملحوظة، أسهمت بطريقة أو بأخرى في تطعيم النسيج السردي بالشجاعة والبراءة في الآن ذاته، وغلفت الفيلم بغلالة رقيقة من العذوبة، على ما يحمله من تأملات نحو تلك العلاقة الحساسة، التي تنمو مساراتها باضطراد بتدفق الزمن ومروره، فالمعرفة الحقيقية لا تكتمل أركانها، إلا بالممارسة المتبادلة بين كل طرف وآخر.

وهل لدينا حقا شجاعة الاعتراف بحقيقة علاقتنا بذوينا؟


إعلان