وثائقي “2040”.. النداء الأخير لرحلة إنقاذ كوكب الأرض

قيس قاسم

بنفس الأسلوب الذي استخدمه في وثائقيه السابق “ذاك فيلم سُكّر”، يحاول الممثل والمخرج الوثائقي الأسترالي “دايمن غامو” إعادة تطبيق التجربة في فيلمه “2040 الجديد”، مع مراعاة اختلاف موضوع الفيلمين. فالأول تناول فيه قضية إضافة شركات إنتاج الأغذية الجاهزة كميات كبيرة من السُكّر إلى منتجاتها دون إشعار المستهلك بذلك. حيث جرّب على نفسه تأثير تناول “السُكّر الخفي”، وخرج بنتائج مُخيفة جعلت فيلمه ناقوسا يُنبّه إلى أخطار صحية لم ينتبه إليها الناس بذلك القدر من الجدّية، إلا بعد رؤيتهم النتائج السلبية على صحته الشخصية.

وفي وثائقيه الجديد يُوسّع دائرته الشخصية، فيُشرك ابنته معه في بحثه لمعرفة ما ينتظر حياتها بعد عقدين من الزمن، في ظلّ المخاطر التي تُهدّد البيئة وكوكب الأرض الذي تعيش عليه.

 

مخاطر الاحتباس الحراري.. تصوّرات الأطفال لكوكب الأرض

الأسلوب الخاص المتمثل بتصغير حجوم الأشخاص ووضعهم في أماكن كبيرة (كما هي في الواقع) يُضفي طابعا خياليا على بعض مشاهده، ويقربها أكثر إلى ذهنية الأطفال (ابنته عمرها 4 سنوات).

وهذا يُناسب كثيرا موضوع فيلمه الذي يدور حول محاولة اكتشاف أكثر المشاريع والتجارب التي تهدف للحفاظ على البيئة ووقف تدهورها، وتُمثّل بالنسبة إليه أملا في عيش ابنته مستقبلا في بيئة سليمة وصحية.

يُشرك المخرج للتعبير عمّا تشعر به ابنته أطفالا آخرين معها، حيث يتركهم يتحدثون أمام الكاميرا عن تصوراتهم للعالم، وأي بيئة يحلمون العيش وسطها. إلا أن اللافت في أحاديثهم سعة اهتمامهم بالموضوع، وقلقهم من المستقبل الذي ينتظر الأرض في ظلّ ارتفاع نسبة الاحتباس الحراري، والمخاطر الناجمة عنه.  والأكثر مدعاة للتأمل في كلامهم هو تفاؤلهم بحلّها. إنه شعور إيجابي يتناغم كثيرا مع روح وثائقي دعا للعمل وعدم الاستسلام للقنوط.

المخرج الأسترالي دايمن غامو وزوجته زوي وابنته فيلفيت خلال قيامه بإحدى التجارب البيئية، لمعرفة إمكانية تجريبها على نطاق أوسع

 

ابدأ بنفسك.. مدن ساحلية توشك على الانقراض

لأخذ التجارب المفيدة وضمِها إلى متن نصه الوثائقي، اشترط المخرج توفرها على إمكانية تطبيقها على نطاق واسع، وأن تخدم أغراضها البشرية جمعاء. وكعادته بدأ المُخرج بنفسه ومن عائلته (ابنته فيلفيت وزوجته زوي)، ففي بيته شرع يشرح عن مخاطر انتشار الكربون في الجو، والمتأتي أغلبه من نفايات المصانع وعوادم السيارات، والاستهلاك الواسع للّحوم. حيث قدّم إحصائيات مخيفة عن زيادة نسبته منذ ظهور الثورة الصناعية إلى يومنا هذا.

بالأرقام، ارتفعت حرارة الأرض بمعدلات لم تعرفها منذ ملايين السنين، وزادت نسبة حموضة مياه البحار بسببها حوالي 30٪ عمّا كانت عليه قبل 150 سنة، فسببت نسب ارتفاعها ذوبان ثلوج القطبين الشمالي والجنوبي في غير مواسمها، مما أدى إلى حدوث فيضانات وعواصف أزالت شدتها مدنا ساحلية من الوجود، وأجبرت ملايين البشر على ترك منازلهم.

كل ذلك يقدمه ديمون غامو بأسلوب أخّاذ يجمع بين الاستفادة من التقنيات الحديثة والتمثيل، فمع كل تجربة وفكرة مشروع مستقبلي كان يُقدّم معها مشاهد تُصوِّر ابنته وهي تعيش نتائجها في عام 2040، وقد كبرت وصارت شابة (تلعب دورها الممثلة إيفا لازارو).

شبكة طاقة محلية تعاونية في بنغلاديش، وهي عبارة عن مولدات طاقة منزلية بسيطة ترتبط بمولدات البيوت المجاورة

 

إنتاج الطاقة في بنغلاديش.. سواعد البسطاء

البحث عن بديل للطاقة وجد تطبيقاته العملية في بنغلاديش، حيث زار المخرج قرية يحصل أهلها على الطاقة الكهربائية من الشمس، ومن ألواح شمسية رخيصة مثبتة فوق أكواخهم، وتُدار بواسطة بطارية رخصية. خطوة جاءت ضمن مشروع يقوده شاب بنغلاديشي يهدف إلى تقليل الاعتماد على شركات الكهرباء العملاقة، واستبدال شبكات توصيلها بشبكات محلية تعاونية يملكها الناس البسطاء.

تتلخص الفكرة -كما يشرحها الشاب- في امتلاك الفلاحين للألواح الشمسية، واستخدام الطاقة التي توفرها لتأمين احتياجاتهم من الكهرباء، ويوفر ذلك النظام البسيط إمكانية تخزين الزائد من الطاقة في مولدات رخصية، ويمكن لأصحابها بيع الفائض منها لجيرانهم.

هذا بدوره يُنشّط الاقتصاد المحلي للقرى، ويجعل أموالهم تدور داخل مناطقهم، ولا تذهب إلى جيوب الأثرياء أصحاب شبكات توليد الطاقة الكهربائية الغالية.

مستقبل الطاقة.. صناعة منزلية بسيطة

الأهم في فكرة المشروع هو توسيع شبكة الطاقة لتشكّل بمجموعها وحدة كبيرة قد تصل إلى المدن القريبة، وهناك يمكن أيضا تطبيقها، فالشبكة المحلية التعاونية هي عبارة عن مولدات طاقة منزلية بسيطة ترتبط بمولدات البيوت المجاورة.

الجديد في الفكرة المطبقة عمليا أن الفلاحين الفقراء يمكنهم شراء ما يحتاجونه من طاقة كهربائية من تعاونياتهم وحسب حاجتهم، ويؤمن ذلك استرشادا واقتصادا في استهلاك الطاقة والمال.

يُكَوّن الوثائقي مشهدا دراميا تظهر فيه ابنة المخرج وهي شابة تفكر ببيع ما خزّنته من طاقة في منزلها إلى جيرانها أثناء ذهابها في عطلة شتوية لعدة أيام، والمال الذي ستحصل عليه تُقرّر التبرع به للمحتاجين، ولدعم البحوث الطبية والبيئية.

سيارات المستقبل الذاتية القيادة، فهي من دون سائق ولا بنزين، بل تنطلق بقوة الطاقة الشمسية

 

سنغافورة.. سيارات بلا سائق ولا وقود

فكرة أخرى متعلقة بالطاقة البديلة تظهر في سنغافورة التي يشدّ المُخرج الرحال إليها، ليوثّق مشروع السيارات ذاتية القيادة التي تعمل بالطاقة الشمسية. يُجرّب علماء منها فكرة تقسيم العالم إلى وحدات طاقة صغيرة تُدبّر أمور توفير طاقتها بنفسها، وذلك للتخلص من هيمنة شركات إنتاج الوقود العملاقة التي لا تعبأ أكثريها بالبيئة ولا صحة الإنسان.

يجرب المخرج بنفسه سيارة ذاتية القيادة، حيث يبرمجها فتنطلق بقوة الطاقة الشمسية إلى هدفها، ويشرح له أصحاب المشروع فكرتهم المركزية الهادفة إلى تقليل اعتماد الناس على السيارات الصغيرة في تنقلهم، فهم يراهنون على تشجيع النقل العمومي وتحسين مستوياته ليكون مريحا وعمليا.

تظهر ابنة المخرج بعد عشرين عاما وهي تجلس مع زميلاتها في سيارة نقل عمومي مريحة تقلهم إلى وسط المدينة من دون سائق، ومن دون بنزين أو ديزل. يتسع المشهد لتظهر فيه مواقف سيارات فارغة، وعدد قليل من السيارات الشخصية تسير في شوارع شبه فارغة.

مساحات خضراء تغطي سطوح العمارات ومواقف السيارات، لتُساهم في تنقية الهواء وإصدار منتجات طبيعية

 

مدائن القبعات الخضراء.. مزارع فوق السطوح

سيقود هذا المشهد المتفرج في سنغافورة إلى معايشة تجربة جديدة تُخاض في الولايات المتحدة الأمريكية، وتهدف إلى تحويل سطوح العمارات ومواقف السيارات، وبعد تقليل مساحات طرق النقل التي تشغل -حسب الإحصائيات التي يذكرها الوثائقي- ثلث مساحة مدن ولاية لوس أنجلوس على سبيل المثال؛ إلى مساحات خضراء، لتتحول بذلك سطوحها إلى مزارع صغيرة تؤمن منتجات طبيعية وتُسهم في تنقية الهواء، ناهيك عن اللمسة الجمالية التي تُضفيها على مدن تحوّلت مع الوقت إلى كتل إسمنتية.

المخرج يقوم بإعادة تدوير الكربون السام داخل التربة، وذلك لتقليل نسبة الكربون في الجو

 

غازات الأبقار .. إعادة تدوير الكربون داخل الأرض

لا تنحصر مشكلة زيادة نسبة الكربون في الجوّ على المعامل والسيارات فحسب، بل تعود إلى تربية المواشي، فنسبة الغازات المُتحررة من بطون الأبقار تسهم بشكل كبير في زيادتها، وذلك لطبيعة العلف الصناعي الذي تتناوله، وأغلبه مُكوّن من فول الصويا والذُرة.

في أستراليا يُجرّب مزارع تقليل نسبة الكربون عبر إعادة تدويره داخل الأرض، وترك الأبقار تتغذى على الأعشاب فقط. فكرة التدوير بسيطة، وجوهرها منع الكربون الواصل إلى التربة من العودة مرة أخرى إلى طبقات الجو العليا، وذلك عبر زرع أنواع مختلفة من الأعشاب تسمح بتحلل الكربون داخل التربة، وهذه الأعشاب تتحول بدورها إلى أعلاف طبيعية للأبقار.

زراعة البحر.. مشروع يحلّ مشكلة مجاعة العالم

من أغرب التجارب التي ستؤمّن لابنة المخرج عيشا في بيئة نظيفة ومياه قليلة الحموضة -كما يأمل المخرج- هي تلك المتعلقة بتطبيقات المشروع الخاص بزراعة البحر الذي يديره عالِم فيزياء أمريكي يُدعى “بريان فون هيرزن”.

يهدف مشروع “هيرزن” إلى توسيع زراعة أنواع من الطحالب البحرية سريعة النمو، وتحتاج الطحالب لنموها إلى الكربون المُذاب في المياه، ولأنها تكبر بسرعة خارقة (بحدود نصف متر يوميا تقريبا) فهي تستهلك كمية كبيرة منه، مما يسهم في تخفيض نسبة حموضة المياه بشكل سريع.

يقوم العالم بزراعتها ويحقق نتائج باهرة لا على مستوى تخلّص المياه من حموضتها فحسب، بل في حلّ جزء من مشكلة المجاعة في العالم، فالطحالب البحرية تصلح للاستهلاك البشري، وفيها قيمة غذائية عالية لاحتوائها على “أوميغا 3″، وعلى بروتين يعوّض عن البروتين الحيواني وأحسن نوعية منه. يجرب المُخرج بنفسه طعمها، فيجده طيّبا وينصح الناس بالإكثار من تناوله، خاصة وهو ينمو سريعا، ولا يكلف مالا ولا يُضر بالبيئة.

يتوقع العالِم الأمريكي لو أخذ العمل بمشروعه أن البشرية ستقلل كثيرا من استهلاكها للحوم الحمراء، ويكفي المزروع منها في البحار لإشباع شعوب خليج البنغال، ودول أفريقية تُعاني من مشاكل التصحر والمجاعة والفيضانات.

“لوحة حال البيئة” في إحدى الصفوف الدراسية، حيث تعرض المُدرّسة معلومات تثقيفية للطلبة فيما يخص الطبيعية واحتياجاتها

 

“لوحة حال البيئة”.. مبادرة للصلح مع الطبيعة

من العوامل المفاقمة لمشاكل البيئة ابتعاد الإنسان عن الطبيعة، ذلك ما توصل إليه علماء المجتمع والعلوم الطبيعية في دراستهم لأسباب قلة اهتمام الإنسان بالطبيعة، فالتطور الصناعي دفعه للاعتماد على التكنولوجيا، لا على الطبيعة مباشرة.

مشروع إعادة الصلة بالطبيعة يقترحه العالم البيولوجي “جون بيترسون” من ولاية أوهايو الأمريكية، عبر فكرة “لوحة حال البيئة” التي يريد تطبيقها في المدارس والتثقيف بها منذ الطفولة، ويقترح أن تعلق في كل صف مدرسي لوحة حاسوب تتضمن معلومات عن الطبيعة وكل ما يؤثر سلبا عليها، حيث تُدرج دروسها ضمن المناهج المدرسية، ويتولّى أساتذة مختصون توصيلها بأساليب تربوية بسيطة ومشجعة.

“استخدام الإمكانيات المتاحة”.. بيئة نظيفة

ينطلق هذا المشروع من عبارة “استخدام الإمكانيات المتاحة” التي غالبا ما يُساء فهمها، لهذا يقترح العالم البيولوجي “بيترسون” توضيحها أكثر للناس عبر توسيع مداركهم بأهمية استغلال الإمكانيات الطبيعية والبشرية.

يقود ذلك الوثائقي إلى موضوع جانبي مُتعلّق بأحوال المرأة وضرورة تعليمها، فالعالم البيولوجي يعتقد أن للأم دورا مهما في توعية أبنائها بعطايا الطبيعة وضرورة الحفاظ عليها. سيقود الأمر عند محاولة تطبيق مشروع “لوحة حال البيئة” في دول فقيرة؛ إلى مناقشة مشكلة الأُميّة وضرورة التخلص منها باعتبارها عائقا جدّيا أمام استغلال الإمكانيات المتاحة بشكل كامل.

أما في البلدان الصناعية فيفكر “بيترسون” مستقبلا في نقلها من المدارس إلى الشوارع وواجهات البنايات عبر بث معلومات مكثفة ومشوقة عن البيئة، من خلال شاشات عملاقة تماما كما تجري عملية عرض الإعلانات التجارية اليوم. هذه الفكرة وغيرها من الأفكار المشابهة تبعث الطمأنينة في قلب المُخرج على مستقبل ابنته التي ستعيش من بعده في بيئة نظيفة، وطبيعة جميلة غير مهددة بالزوال.