Wonder Wheel .. ضجيج المُعذَبين الذي لن يُسمَع أبدا

إسراء إمام

الألوان الزاهية، والصخب الممزوج بالنشوة والمرح، لا يَعِد لمن يعتبر دليلا من أدلة وجود البهجة، ولكي تتأكد من ذلك عليك بمشاهدة فيلم “Woody Allen” الأخير لعام 2017 “Wonder Wheel“، وهو الفيلم الذي يُثبت لنا أن المعاناة رفاهية مقارنة بحالات الموات الحي، وأن التأرجح على حافة الانهيار نعمة لا يضاهيها السقوط في قلب هوة زمانية دوارة، ليس معروف لها قدم من رأس، بينما لا تكف عن التحرك في دوائر مفرغة، بدون داع وإلى أمد غير معلوم. إنه الفيلم الذي يقصّ عليك مصائر شخصيات، تشابه قدرها مع العجلة العملاقة المتواجدة في المتنزه الذي يسكنون فوقه، مطلين على هذه اللُعبة الضخمة من شرفات منزلهم الزجاجي المُحَاط بها من كل جهة، بينما ينتظم إيقاع حياتهم مع أدوار لفاتها اللامنتهية إلى الأبد.

يُثبت الفيلم لنا أن المعاناة رفاهية مقارنة بحالات الموات الحي، وأن التأرجح على حافة الانهيار نعمة لا يضاهيها السقوط في قلب هوة زمانية دوارة.

شخصيات ميلودرامية لا تخلو من العبث

أهم ما يميز سيناريو فيلم “Allen” الشخصيات..

 شخصيات السيناريو دسمة، تعجّ بالتفاصيل التي تستحق التأمل والدراسة، والتي تقبل بأريحية التحليل، ومنه إلى استخلاص عدد من الاستنتاجات التي تُدعم المعنى، وتبلغ به وجهة نظر كلية عذبة ومحبوكة، وجديرة بأن تتراكم في مخزوننا الخاص عن الحياة.

مبدئيا، اختار السيناريو راويه، تلك الشخصية التي تتحدث لنا مباشرة، تنظر إلينا وتواجهنا، معترفة بأنها تميل إلى الشاعرية والمغالاة، مُعرِية جزءا هاما منها سنتدل منه على بعد آخر للحدوتة فيما بعد. “ميكي” أو “Justin Temberlake” هو الشخصية التي استخدمها السيناريو لتقوم بالحكي، لم يحكِ بشكل عام عن لسان كل الشخصيات، وإنما كان ملتزما بما يخصه، ويرتبط بعلاقته ببقية الشخصيات. “ميكي” على علاقة بـ”جيني” المرأة البائسة اليائسة، والمتزوجة للمرة الثانية من رجل لا يعجبها، والتي تبدأ فى الانتعاش بشكل أو بآخر حينما يظهر “ميكي” في حياتها، ولكن ذلك لم يدم طويلا، لأن “كارولينا” ابنة زوجها تعود من زواج فاشل هي الأخرى، هاربة من رجال زوجها رجل المافيا الذي يسعى إلى قتلها، لأنها تعرف عنه الكثير. ومن ثم تحدث المفارقة المتوقعة بخصوص تحول نظر “ميكي” إلى “كارولاينا” الشابة البضة الجميلة، مما يدفع بـ”جيني” للمساهمة في التخلص من “كارولاينا” عن طريق التضامن مع رجال زوجها المجرم، الذين ينجحون في معرفة مكانها على مرأى ومسمع من “جيني” التي تتعمد ألا تفعل شيئا.

هذه الأحداث قد تكون وقعت بالفعل وبكل حذافيرها، وقد تكون وقعت بالفعل مع اختلاف بعض التفاصيل، ولكن المهم أن اعتراف “ميكي” بأنه يميل للمبالغة باعتباره فنانا وكاتبا، يجعلنا نتأكد من شيء واحد يخص “ميكي” فقط، وهو أنه لم يحيَ تلك الأحداث فعليا، وإنما يتعامل معها وكأنها حدوتة في إحدى الروايات أو القصائد التي يقرؤها، فهو لا يشعر بشيء حقيقي مما يفعله ويتصرف على أساسه، وإنما ينقاد للمفارقات التي تليق بالحبكة الجيدة، فنراه منبهرا بحياة “كارولاينا”، يحسدها مرتين لأنها عاشت حياة مشوقة مع رجل من رجال المافيا، وكأنه يرثي حياته الفارغة المثيرة للملل. “ميكي” شخصية مزيفة، خلق لها “Allen” العديد من التفاصيل التي تشبهها، مثل طريقة الكلام الباردة التي تؤدي أكثر مما تشعر، وتظهر بمظهر مصطنع مسرحي، هذا إلى جانب المفردات والمصطلحات التي يستخدمها طوال الوقت، والتى تُحمِل المواقف أكثر من طاقتها، وتضع عليها صبغة شعرية بهلوانية بعض الشيء.

أهم ما يميز سيناريو فيلم "allen" الشخصيات.

“جيني” أو “Kate Winslet” هي الشخصية الأكثر سوداوية وانهيارا بين بقية الشخصيات، فبغض النظرعن كوننا لا نملك سوى الحياد فى المشاعر تجاه كل الشخصيات، لا يسعنا أن نتماهى في حبهم أو كرههم، لا نشفق عليهم ولا يسعنا اتهامهم أيضا، إلا أن “جيني” وحدها هي التي تستولي على نصف ذلك الإرباك الذي يعترينا، فهي امرأة مُحَطَمة بحق، ولكنها أيضا مُحَطِمة ماهرة، حطمت زوجها السابق عندما خانته على الرغم من حبها له، وحطمت ابنها المراهق وجعلته بلا أب بعدما هرب زوجها غير متحمل فِعلتها، وحطمت زوجها الحالي الذي ومع كل عيوبه يبقى مخلصا لها، وأخيرا حطمت ابنته الشابة الفاتنة حينما ارتضت أن يختطفها أعوان زوجها السابق دون أن تحاول إنقاذها. “جيني” نموذجا صارخا لمعنى حب الذات، الذي يكنس معه كل شيء على أرضه، سواء كان وَسخا يستحق التنظيف أو شذرات من ذهب يمكن لمن يجمعها تكنيز ثروة.

“هامبتى” زوج “جيني” ووالد “كارولينا” رجل مناقض لـ “جيني” تماما، شخصية تبدو وكأنها كُتبت بهذا الشكل لكي تؤكد على خصال “جيني” بالتضاد، فهو رجل يعرف كيف يُحب بدأب، فبرغم عزمه مقاطعة ابنته التي تزوجت رغم أنفه من مجرم، فإنه يفتح لها ذراعيه بتمادٍ حينما تعود إليه، طالبة العيش في كنفه، يسعى بإخلاص في أن يوفر لها حياة صحية، يدخر لكي يُلحِقها بمدرسة جيدة، ويقاتل من أجلها أصدقاءه الذين يخوضون في سيرتها، وبالطبع هذا يُخالف ما تفعله “جيني” مع ابنها، الذي تهمله بشكل غير مُنصف، وتجعله عُرضة لنزواته ومخاطر مرحلته العمرية. “هامبتي” رغم جفاء العلاقة بينه وبين “جيني” يظل متعلقا بها، ويتوسل إليها لكي لا تتركه، “هامبتي” حتى مُخلص لنوع المشروب الذي يتناوله، زجاجة الكولا التي لا تفارق الطاولة التي يجلس عليها.

أما المراهق الصغير ابن “جيني” فهو مثال يحتذى به فى كتابة الشخصيات الهزلية التي تختصر الفواجع، فنحن لا يخفَى علينا ما تُخَلِفه كل هذه الفوضى في نفس هذا الصغير، ولكن “Allen” يُفضل أن يختصر ألم هذه الشخصية في تفصيلة صغيرة مضحكة، شديدة التأثير والرمزية، فهذا الولد ببساطة قد تحول إلى غريب أطوار قزم، يهوى إشعال النيران بشراهة في أي شيء وكل شيء، وقد حرص “Allen” أن يُمرر إليك هذه التفصيلة فى شريط الصوت بالشكل الذى يلائمها من العبثية، فنراها تتجلى دوما على إيقاع ألحان شاعرية، واحدة منها قد استمعنا إليها فى مشهد رومانسي حالم بين “جيني” و”ميكي”، لنرى الولد بعدها يقف ونغمات نفس الأغنية تغمر المشهد، يُشعل النيران، ثم يجري هرباً.

شخصيات السيناريو دسمة، تعجّ بالتفاصيل التي تستحق التأمل والدراسة، والتي تقبل بأريحية التحليل.

أجواء مسرحية

عدد كبير من مشاهد فيلم “Allen” جاءت مسرحية بامتياز، مشاهد طويلة همجية الحوار ممتلئة بالانفعالات يمينا ويسارا، وقد تعمد “Allen” أن يُدّعم هذه الحالة المسرحية عن طريق أسلوب تصوير الـ”one shot“، وقد لجأ إلى هذا التكنيك فى مشهد كامل، وهو المشهد الذي تنهار فيه “جيني” وتبدأ في إطلاق لعناتها على “كارولاينا” و”هامبتي” والمراهق الصغير مُشعِل النيران، هذا المشهد الذي بدا ملحميا بديعا، يعود بنا لذات المعنى الذى يقوم عليه السيناريو بأكمله، حيث الضجيج الحزين البائس الصادر من هذا البيت القابع فى قلب الملاهي، والذى لا يُشبه ذلك الضجيج الآخر المُنتشى الخارج من أفواه المُتنزهين مرتادي الألعاب.

ثمة عنصر آخر اعتمدت عليه الصورة، وهو الإضاءة، شيء ما ألهم “Allen” بهذه الفكرة الجهنمية الخاصة بتوظيف ألوان الملاهي توظيفا فنيا يُمكن أن يعكس من خلاله معاني أخرى لها علاقة بنفسيات الشخصيات، ففي العموم، نرى الإضاءة تتغير بشكل مستمر على وجوه الشخصيات، خاصة وجه “جيني”، وفي المطلق نراها تتأرجح أيضا في الأماكن ذاتها، حجرة النوم، أركان الشاطىء. فيمكننا أن نرى وجه “جينى”مرة وقد غمرته الإضاءة بلون أحمر، ومرة أخرى نراه بألوانه العادية، وفى مرة نرى حجرة النوم وهي غارقة في اللون الأحمر ومن ثم يستحيل الأحمر إلى أزرق، وهذا كله يعود لتغير إضاءة الألعاب عملاقة الحجم التي تهيمن بأضوائها على “كوني آيلاند” بأكلمها. مثل تلك الخطة أرى أنها ساهمت فى ترسيخ الشعور المحايد الذي نكنه للشخصيات جميعها، هذه المشاعر المختلطة علينا تجاههم ما بين التعاطف والمقت، التوحد، والنبذ.

ومدير التصوير”Vitorio Storaro” قد اعترف ببعد آخر قد يضيفه هذا التحول اللوني الحاد لشخصيتين مثل “جيني” و”كارولاينا”، ففي مشهد ما نرى التضاد بين وجه “جيني” الممتقع حُمرة، ووجه “كارولاينا” المُطِل بلون أزرق، وقد تحدث “Storaro” عن هذا المشهد قائلا “وجه جيني الأحمر الدافىء له دلالة على تعلقها بالماضي، وشعورها المؤسف طوال الوقت بأنها لا تجد نفسها إلا من خلاله، بينما وجه كارولاينا الأزرق يوحي لنا بأن ليس ثمة دفئا في ماضيها، بينما يكمن تعلقها كله بمستقبلها وما تتطلع لمعرفته عن حياتها القادمة”.

عدد كبير من مشاهد فيلم "Allen" جاءت مسرحية بامتياز، مشاهد طويلة همجية الحوار ممتلئة بالانفعالات يمينا ويسارا.

آخر كلمتين:

 “Kate Winslet” ممثلة تجتهد الآن في صناعة أرشيف هائل، سيتحول إلى إنجاز تاريخي لمجموعة من الأدوار النسائية المُختارة بعناية وصبر وتأن مذهلين.