“أبناء الدانمارك”.. كابوس العنصرية وكراهية الآخر

خالد عبد العزيز

فيلم "أبناء الدانمارك" يطرق بقوة موضوع التطرف وكراهية الآخر، خاصة بعد ثورات الربيع العربي

صبيحة يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001، وبعد أن استيقظ مبكرا قبل بزوغ الفجر على غير عادته، ركض الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش حول ملعب الغولف، ثم توجه بعدها إلى مدرسة “إيما آي بوكر” الابتدائية في ولاية فلوريدا، وفور وصوله المدرسة همس في أذنه كبير موظفي البيت الأبيض “عفوا سيدي الرئيس.. لقد اصطدمت إحدى الطائرات ببرجي مركز التجارة العالمي”، ليسود من حينها مناخ مُلبد بالكراهية وعدم قبول الآخر، وتتغير خريطة العالم ولم تعد كما كانت أبدا.

فيلم “أبناء الدانمارك” -سيناريو وإخراج المخرج الدانماركي من أصول عراقية علا سليم (عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان روتردام السينمائي الدولي في دورته الـ48)- يطرق بقوة موضوع التطرف وكراهية الآخر، خاصة بعد ثورات الربيع العربي وموجات هجرة العرب نحو أوروبا، مع تصاعد نبرات التطرف على يد من يُسمون بالنازيين الجدد، ليبدو الفيلم مهموما بفكرة أعمق هي الصراع الدائم بين الشرق والغرب.

تدور أحداث الفيلم في إطار من الإثارة والتشويق يحبس الأنفاس في العاصمة الدانماركية كوبنهاغن في المستقبل وتحديدا في عام 2025 بعد تفشي جُرعات من الكراهية مدعومة بدعوات سياسية بطرد العرب، وذلك بعد وقوع انفجار “إرهابي” راح ضحيته العديد من الأشخاص، حيث يقع زكريا (محمد إسماعيل) الشاب العراقي الأصل الذي يعيش برفقة أمه وشقيقه فريسة لإحدى الجماعات المتطرفة التي تسعى لاغتيال زعيم حزب الحركة القومية “مارتن نوردال” (رامسيس بجريج) الذي يرغب في التخلص من العرب حفاظا على نقاء بلاده كما يزعم.

 

شرق وغرب.. صراع أزلي

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه انفجارا يقع في إحدى محطات المترو، دون أن نعرف على وجه التحديد من الجاني، لينقلنا الفيلم مُباشرة إلى أحد طرفي الصراع؛ “مارتن نوردال” زعيم حزب الحركة القومية وهو يتحدث بغطرسة إلى إحدى القنوات التلفزيونية في ذكرى الحادث الإرهابي عن ضرورة طرد جميع المهاجرين، وذلك حفاظا على بلاده من خطر الإرهاب.

مضمون الفيلم يدور في فلك الصراع الأزلي بين الشرق والغرب، حيث كل طرف يرى في الآخر شيطانا ينبغي رجمه، فقد خلق السيناريو صراعا يدور بين عالمين؛ عالم شرقي وآخر غربي، أي المهاجرين العرب بأحلامهم وطموحاتهم في الحياة، مقابل مجموعة من أهل البلاد (أبناء الدانمارك) -وعلى رأسهم “مارتن نوردال”- يُطالبون بالتخلص من كل ما هو أجنبي.

ومع تصاعد الأحداث دراميا تشتد وتيرة الصراع حتى نصل لنقطة الذروة، والتي تدفع الأحداث نحو مسار آخر مُغاير وإن كان في جوهره لا يختلف كثيرا، فالكراهية هي المُحرك الرئيسي للسرد، حيث يُصاب المهاجرون بالحيرة والتذبذب إزاء تصاعد موجة العنصرية ضدهم، ففي أحد المشاهد نرى زكريا وهو يبث خوفه إلى حسن (عماد أبو الفول) الذي يتزعم العرب القاطنين في المجمع السكني، ليبدأ حسن في استغلال زكريا والإيقاع به في شِراكه لتنفيذ عملية اغتيال مارتن نوردال، ليصبح هذا المشهد بمثابة قوة دافعة للأحداث التي سُرعان ما تتطور وتتدفق في انسياب لا يخلو من إثارة.

بالنظر إلى شخصية زكريا فقد رسمها السيناريو تُعاني من الخواء

شخصيات حائرة

نسج السيناريو أحداثا تدور من خلال خط سردي، حيث يُمثل كل خط رؤية ووجهة نظر شخصية ما، فالبداية مع زكريا حتى النصف الأول من الفيلم، ثم يُستكمل السرد في النصف الثاني من الفيلم من زاوية مالك (زكي يوسف)، فكلاهما يتضاد مع الآخر، وإن كانا يُكملان بعضهما البعض مع اكتمال مصفوفة الحكي ووصولنا للنهاية.

وبالنظر إلى شخصية زكريا فقد رسمها السيناريو تُعاني من الخواء، حيث تسير حياته بمنوال ثابت لا يشوبها أيّ تغيير، فهو يبلغ من العمر 19 عاما من دون عمل، وحتى دراسته لا يعوّل عليها أدنى اهتمام، حيث نراه في المشاهد الأولى من الفيلم وهو يُمارس رياضة الجري ليلا، لكن تُطالعه العبارات العنصرية الموجهة ضد العرب التي تجعله يُصاب بالذعر، حتى نصل في نهاية المشهد إلى أن تطأ قدماه البناية التي يقطن فيها، ويُفاجأ برؤوس مقطوعة من الخنازير ملقاة عند المدخل.

يتبدل مصير زكريا إلى النقيض بعد وقوعه في براثن حسن، نجده يسهل تطويعه وتشكيله، ففي أحد المشاهد نرى زكريا وهو يُشاهد بعض الفيديوهات المصورة عن الأحداث المشتعلة والانتهاكات التي يتعرض لها العرب، وكأن هذه المشاهد هي وقوده الداخلي، حيث يتم ابتزازه عاطفيا لتتحول شخصيته وتأخذ مُنعطفا مُغايرا ملوثا بالكراهية، وكأن خوفه وذعره يدفعانه نحو هاوية لا مُستقر لها، ليصبح قرار انضمامه لهذه الجماعات المتطرفة مفعولا به وليس فاعلا.

ففي هذا الجزء من السرد نرى الأحداث بعين زكريا، وكأنه يُمثل حيرة العرب في الغربة بين السقوط في فخ التطرف لمواجهة فيض الكراهية المُنبعث تجاههم، أو الانسحاق والقبول برغبة الآخر في الطمس والإبعاد.

يدفع السيناريو الأحداث إلى الأمام عبر وضع عراقيل أمام الشخصية، حيث تتطور وتتبلور أفعالها في إطار أكثر وضوحا، فبعد أن كان زكريا حائرا بين الابتعاد عنهم أو الارتماء في أحضانهم، نجده مدفوعا نحو قبول أمر حسن بتنفيذ عملية قتل نوردال.

شخصية "علي" الذي يعمل مُساعدا لحسن، لكنه في الوقت نفسه عميل سري لدى أجهزة الأمن واسمه الحقيقي مالك

حرب كونية

في المقابل هناك شخصية “علي” الذي يعمل مُساعدا لحسن، لكنه في الوقت نفسه عميل سري لدى أجهزة الأمن واسمه الحقيقي مالك، فقد رسم السيناريو له شخصية تتسم بالهدوء، فهو يُنصت أكثر مما يتحدث، يُخفي بداخله الكثير، تتبدل حياته تماما بعد الإيقاع بزكريا وتسليمه للأمن بعد محاولة فاشلة لاغتيال نوردال، ويتحول إلى شخصية يسكنها الخوف والقلق، ففي أحد المشاهد نراه وهو يتسوق بصحبة ابنه في إحدى المحال التجارية، ثم يرتاب في أحد الأشخاص، حيث يظن خطأً أنه يُراقبه.

ينتابه سؤال دائم يشغل نفسه: إلى أي جانب أنتمي؟ ففي مشهد آخر نراه وهو يصيح في وجه رئيسه المباشر في العمل رافضا أسلوب العمل الذي يكيل تهم التطرف والكراهية ناحية العرب فقط، ويترك الجانب الآخر دون أي فعل حقيقي بحجة عدم توافر المعلومات.

حفَل هذا الجزء من السيناريو بتطورات ومواضع حبكة عديدة جعلت الأحداث محفوفة بالإثارة، يكتشف علي/مالك حقيقة ما يدور حوله لتنجلي الظُلمة من عينيه، حيث يرى أن الجانب الآخر –وهو حزب الحركة القومية الذي يرأسه نوردال- يحوي أيضا كراهية ويبث سمومه العنصرية دون رادع حقيقي، لتبدو الأحداث وكأنها توشك على انفجار، مما قد يولد حربا كونية جديدة؛ الصراع فيها يدور حول عدم قبول الآخر.

منذ المشاهد الأولى للفيلم والإضاءة القاتمة التي تَميل إلى اللون الأسود هي المُسيطرة، بالإضافة إلى طُغيان المشاهد الليلية

عنصرية أوروبية

أما مارتن نوردال الذي أدى دوره بجدارة الممثل الدانماركي “رامسيس بجريج”، فقد قدمها السيناريو بوصفها مُعبرة عن واقع حال التطرف الغربي ضد العرب، والذي يَرى أن كل ما هو غير أوروبي في مرتبة أدنى ويجب التخلص منه وزحزحته بعيدا.

نجد مارتن في أحد المشاهد وهو يُطالب الحكومة باتخاذ إجراءات أكثر احترازية، وتفعيل قانون الطوارئ لتتمكن الشرطة من التخلص من أكبر قدر ممكن من المهاجرين، فقد جعل السيناريو الشخصية تبدو وكأنها دمية لا تنفث سوى العنصرية وكراهية الآخر، ليبدو كقوة مضادة تقف في سبيل أمن وسلامة المهاجرين العرب، فنجده يرفض التعاون مع الأمن لتهدئة أنصاره بعد فوزه بالانتخابات العامة ووصوله لمنصب رئيس الوزراء، مما يجعل الأجواء تتوتر أكثر وتُدفع نحو مسار دموي.

يحلّ اللون الأحمر ضيفا ثقيلا على كثير من المشاهد، فنجد الكاميرا تُركز عليه بصفة خاصة

كابوسية الصورة

منذ المشاهد الأولى للفيلم والإضاءة القاتمة التي تَميل إلى اللون الأسود هي المُسيطرة، بالإضافة إلى طُغيان المشاهد الليلية على حساب المشاهد النهارية، كل ذلك مقصود بالتأكيد ومُعبر وموحٍ دراميا، فالاجتماعات بين زكريا ومالك وحسن لا تتم إلا ليلا وفي إضاءة شاحبة، وبالتالي لا يختلف عنهم كثيراً حزب “الحركة القومية”، فالإضاءة أيضا قاتمة والوجوه تبدو شبحية لا نكاد نتبين تفاصيلها، وكأنها تُشير للظلام الفكري الذي يقبع فيه هؤلاء، فالجميع على قدم المساواة، الكره يحفّهم ويحوطهم من كل جانب.

يحلّ اللون الأحمر ضيفا ثقيلا على كثير من المشاهد، فنجد الكاميرا تُركز عليه بصفة خاصة، تُبرز له مكانته المُعبرة عن دلالة ما يتضمنها السياق الدرامي، ففي المشاهد الأولى يقف زكريا أمام البناية التي يقطن بها، والتي تتلون فجأة باللون الأحمر، ليصبح اللون الأحمر ليس فقط مُعبراً عن الدم بمفهمومه المباشر، لكنه هنا يحوي دلالة ما عن اشتعال الكراهية في النفوس.

ففي مشهد آخر نرى مالك وهو يستمع إلى تسجيلات اجتماعات حزب “الحركة القومية” التي لا تحوي سوى عنصرية وكراهية مُنصبّة نحو العرب، لنجد أن الغضب يتصاعد من داخله والإضاءة محفوفة باللون الأحمر، ليصبح هنا اللون الأحمر إشارة ورمزا للكراهية والغضب.

فيلم "أبناء الدانمارك" هو من سيناريو وإخراج المخرج الدانماركي من أصول عراقية علا سليم

بُعد آخر للصورة

الإضاءة النهارية الفاتحة أضافت بُعدا آخر للصورة وجعلتها تتباين مع بقية مشاهد الفيلم، فقد جعل المخرج إضاءة بعض مشاهد زكريا مع أسرته مُركزة وحافلة باللون الأبيض، ففي أحد المشاهد نرى زكريا وهو يُداعب شقيقه الأصغر وضوء الشمس يغمر غرفته، كما أن مشاهد مالك مع أسرته بعد عودته إليهم في النصف الثاني من الفيلم هي الأخرى تعتمد بالكامل على الإضاءة الطبيعية، مما يوحي بمغزى وإشارة للدفء الأسري والأمان في مقابل حياة الظلام الليلية المحفوفة بالمخاطر.

يكشف المتطرفون الأجانب هوية مالك كعميل استخباراتي، فيهاجمون منزله ويشوهون وجه زوجته ويقتلون ابنه، ليقرر الانتقام بعدها ويستكمل تنفيذ ما شرع فيه زكريا ولم يُكمله. وفي مشهد من أقوى مشاهد الفيلم، يقف مالك وراء الباب المؤدي إلى قاعة الاحتفالات التي يَخطب فيها نوردال بعد فوزه، يقوم بالعدّ حتى الرقم 5 ثم يندفع نحو المنصة، ومع كل خطوة تتناقص الأرقام تدريجيا، حتى يصل إلى نوردال ويُسقطه قتيلا في الحال.

يتقاطع المشهد مع قطعات مونتاجية سلسة متدفقة تُبرز زكريا الذي ينظر من نافذة محبسه نحو الشمس الساطعة المُخترقة حدود حيزه الضيق، ومشهد آخر نرى فيه أم زكريا وهي تُدندن بصوت خفيض بأسى نادبة حظها السيئ، فالجميع مصيرهم واحد ولا سبيل للاعتراض. ليصبح “أبناء الدانمارك” دون شك فيلماً هاماً طرق المسكوت عنه في أوضاع العرب والمسلمين في أوروبا، ومُطلقاً صرخة مُدوّية ضد العنصرية والظلم، فهل تُرى ستجد صداها؟