“أبٌ جنديٌّ ابنٌ”.. ملحمة الخسارات التي لا تفارق العسكري الأمريكي

محمد موسى

لأكثر من عشر سنوات رافق فيلم “أب جندي ابن” (Father Soldier Son) قصة عائلة أمريكية مرت بأحداث وتحولات جسيمة ومأساوية من الإصابة في الحرب إلى الكآبة، ومن فاجعة عائلية مُباغتة إلى حب وولادة.

فقد كانت مخرجتا الفيلم قريبتين جدا من أكثر أزمان العائلة حميمية وخصوصية وألما، وسجلتا الهزات العنيفة التي تعرضت لها والمطبات التي مرَّت بها، وكذلك السعادة القليلة التي عاشتها، وكانت نتيجة هذه المراقبة التوثيقة تُحفة سينمائية تسجيلية شديدة التأثير والجمال ونادرة على عوالم السينما التوثيقية.

هناك بالطبع أفلام تسجيلية تميزت بطول الفترة الزمنية التي رافقت فيها شخصياتها، بيد أن قلة من هذه الأفلام نجحت في الحفاظ على المسافة الحميمية ذاتها مع الشخصيات كما فعل فيلم “أب جندي ابن” للمخرجتين “كاترين أينهورن” و”ليزلي ديفيس”.

كان يُمكن للمخرجتين أن تكتفيا بالمادة الغنية التي جمعتاها بعد عامين أو ثلاثة من مرافقتهما لشخصياتهما، لكنهما فضلتا التريث وعدم الانجرار وراء إغراء إنجاز الفيلم وتسويقه، وقد أضاف هذا التريث قيمة هائلة للفيلم وقرّبه من الملحمة التوثيقية غير المسبوقة.

 

مآسي الجند.. حرب اختطفت الأب من أبنائه

لم تكن بداية الفيلم -الذي أنتج بالتعاون بين نتفليكس وجريدة نيويورك تايمز الأمريكية- توحي بالأحداث الفادحة التي ستقع لاحقا في حياة الشخصيات، إذ بدأ بتتبع الحياة اليومية لرجل مع طفلين، وسنعرف سريعا من الرجل نفسه بأنه أخ لوالد الطفلين، وكان يتولى رعايتهما بسبب وجود الأب الذي يدعى “برايان” في أفغانستان، بحكم عمله كجندي في القوات الأمريكية التي تُحارب هناك.

تكشف المشاهد الأولى عن وحدة الصبيين (الأكبر اسمه “إيزاك” وهو ابن تسعة أعوام، والآخر “جوي” وهو ابن ستة أعوام)، ذلك أن والدتهما قررت عدم الاعتناء بهما لأسباب لم يشأ الفيلم أن يخوض فيها، ويتحدث الفتيان بحب عن أبيهما، وأنهما يفتقدانه وسيكونان في انتظاره في المطار حين يرجع في إجازة.

تؤسس المخرجتان منذ البداية لمناخات صورية حميمية خاصة، فتصوران الصبيين بلقطات مقربة كثيرا تنقل كل تفاصيل ملامحهما العفوية، كما كانت الكاميرا تتحرك بحرية غير مقيدة لتشبه مزاج الصبيين الذين كانا يقضيان فترات طويلة في حديقة المنزل أو داخل المنزل عينه، حيث يجب عليهما بغياب الأُمّ أن يقوما بالعديد من المهام المنزلية.

الجندي الأمريكي الثلاثيني “برايان” رفقة أبنائه  “إيزاك” وهو ابن تسعة أعوام، والآخر “جوي” وهو ابن ستة أعوام (نيويورك تايمز)

 

“لا أريد أن أكون عاجزا”.. كآبة تنغص جو العائلة

تكشف مشاهد للأب “برايان” مع أبنائه عن طبيعة العلاقة بينهما، وكذلك عن شخصية الأب نفسه، فهو في منتصف الثلاثين من عمره وصارم الطباع، فقد تربى في بيئة أمريكية بيضاء فقيرة، ويعتقد أن الخدمة في الجيش أنقذته من مصير مختلف بعد أن بدأ في التورط بأفعال كانت قريبة من عالم الجريمة.

يُحب الأب “برايان” أبناءه، لكنه يكون قاسيا عليهم أحيانا، ورؤيته لهم تشوشها خبرات حياته الشخصية وتاريخه العائلي، وعندما يصاب “برايان” في أفغانستان تتغير حياة العائلة بالكامل، فرغم أن الأطباء العسكريين في أفغانستان نجحوا بصعوبة في الحفاظ على ساقه المصابة ولم يبتروها كما كان متوقعا، فإن الألم كان كبيرا للغاية.

عاد الأب إلى مدينته وحياته، بيد أن هذه العودة ستنغصها الإصابة التي تُذكره بالحرب والمعارك، أما العجز الذي بدأ يعاني منه فكان أمرا لم يتقبله على الإطلاق.

يأخذ الفيلم تحويلة قوية في ربعه الثاني عندما بدأ يهتم بآثار ما بعد الصدمة التي كان يعاني منها “برايان”، إذ تتبدل طباعه وتزيد قسوته على ولديه، ويبدأ بالتلاشي شعور الزهو والفخر الذي هيمن على الأشهر الأولى من عودة الجندي إلى مدينته لخدمته وإصابته من أجل الولايات المتحدة، ويحل محله خليط من الانفعالات القوية التي كانت تتأرجح بين الحزن الذي يقترب من الكآبة والغضب من كل شيء من حوله.

يردد “برايان” في أكثر من مناسبة في الفيلم: “لا أريد أن أكون عاجزا”، وينفجر أحيانا في وجه العاملين في المستشفى الذي كان يتعالج فيه، فهو يتذمر من بطء تعافيه من الإصابة، ومن الألم الكبير الذي يفسد كل يوم في حياته، أما أبناؤه فقد بدأوا يتذمرون هم أيضا، حيث يخبر “إيزاك” الكاميرا بعد أن سئم من صراخ أبيه ومزاجه الصعب قائلا: “أتمنى لو أن أبي لم يشارك في الحرب”.

الجندي الأمريكي “برايان” يجلس بانتظار عملية قطع ساقه المصابة خلال مشاركته في الحرب على أفغانستان

 

بتر رجل الأب.. معاناة تزداد فصولها ألما

يترك الفيلم شخصياته لأكثر من عامين وعندما يعود يجدهم في ورطات وأزمات أكبر، فقد تفاقمت إصابة الأب،  وسيكون بتر رجله -التي جاهد الأطباء في أفغانستان لكي يحافظوا عليها- أمرا محتوما.

رافق الفيلم عملية قطع رجل “برايان”، وكانت الكاميرا موجودة عندما أفاق من التخدير بدون رجل، وقد سجل الفيلم مشاهد معبرة كثيرا للصبيين وهما يراقبان بعجز أزمة والدهما التي تبدو بلا نهاية.

تتواصل مشاكل الأب النفسيّة بسبب الحرب والإصابة وفقدان إحدى قدميه، فهيئته تبدلت أيضا، وبدا جسمه بعد ثلاث سنوات من الإصابة مترهلا بسبب السمنة وقلة الحركة، وهو يعي كل هذه التبدلات، وهذا يزيد من كآبته.

تسجل الكاميرا تفاصيل دقيقة تظهر أثر كآبة الأب على الأبناء، فأثناء وجودهم في حديقة ترفيهية يوبخ ابنه “إيزاك” لأنه يصر على مرافقته دائما خوف أن يحتاج لشيء في غيابه، وكيف أن هذا يضاعف مشاعر الأب بالعجز.

 

“لم أتخيل أن أحب مرة أخرى”.. نسمة حب على غير ميعاد

لأن الحياة تحفل دائما بالمفاجآت ولا تدير ظهرها بالكامل للبشر، فإن “برايان” يقابل امرأة طيبة تدعى “ماريا”، وتنشأ بينهما قصة حب غير متوقعة عند كلا الطرفين.

تخبر “ماريا” منتجي الفيلم قائلة: “بعد طلاقي لم أكن أتخيل أن أحب مرة أخرى، أو أن أدخل في علاقة طويلة مع رجل”، وستضيف هذه المرأة الكثير من الطمأنينة على “برايان” وأولاده، إذ تتقرب من الصبيين وتكون أما جديدة لهم بدل الأم الأخرى التي تركتهم تماما منذ سنوات.

بدا في الربع الثالث من الفيلم أن “برايان” في طريقه للشفاء من أزمته النفسية، إذ عثر أخيرا على طرف اصطناعي يناسبه بدل رجله المبتورة بعد أن جرب عدة أطراف لم يرض عنها جميعا، كما أن علاقته العاطفية كانت تتطور في اتجاه تصاعدي، أما على صعيد علاقته بولديه فطبعها التعقيد الذي بدا أن مصدره هو الأب نفسه وتربيته وعلاقته مع عائلته، كما بدأ “برايان” يلمح لابنه “إيزاك” أن العسكرية قد تكون حلا لمشاكله في المدرسة.

مباراة المصارعة.. بكاء أمام الجمهور

كانت علاقة الأب “برايان” مع ولده الآخر “جوي” صعبة ومرهقة للابن، فالأب الذي عاش عالم العسكرية يريد لأبنائه أن يكونوا ذوي جلَد وقوة وصلابة؛ الأمر الذي ينعكس على التفاصيل اليومية لعلاقتهما، فقد كان الأب في سلسلة من المشاهد اللافتة يُعنف ويضغط على “جوي” الذي كان يلعب المصارعة ولم يكن متفوقا بها.

ينفعل الأب كثيرا وهو يتفرج على ابنه يخسر المباراة لينخرط بعدها “جوي” في البكاء أمام الجمهور الحاضر، فالأب نفسه كان يلعب المصارعة، ويرغب -كما يفعل مع الخدمة العسكرية- أن يمررها لولده.

“إيزاك” يبدو مهموما بعد مقتل أخيه الصغيرة “جوي”

 

دهس الطفل الأصغر.. فاجعة أخرى تضرب العائلة

تُكلل الأوقات السعيدة للعائلة بزفاف “برايان” من “ماريا”، وكان ذلك بمثابة النقطة المفصلية للعائلة، إذ بدت العائلة وكأنها تودع أزمتها الطويلة، وبدا الانفعال واضحا على الجندي السابق، وهو يتحدث عن حبه لزوجته الجديدة، وكيف أن هذه المرأة بهدوئها وحضورها الحكيم ربطت ما بين الأب وولديه.

ما حصل بعد ذلك لم يكن أحد يتوقعه على الإطلاق، إذ ضربت شاحنة مسرعة الابن الأصغر “جوي” وقتلته مقابل بيت العائلة، وقد أعادت هذه الحادثة المروعة الأسرة إلى الأوقات السوداء التي ما كادت تخرج منها، فلن يكون مقتل الصبي البالغ من العمر أربعة عشر عاما كارثة على أبيه وأخيه فقط، بل على “ماريا” نفسها التي تظهر منهارة في مشاهد قاتمة عديدة سبقت الجنازة، حيث تجتمع العائلة الكبيرة مع أصدقاء الطفل الراحل من المدرسة لتوديعه الوداع الأخير.

يرافق الفيلم العائلة التي كسرها الحزن وهي تحاول أن تجمع القوة لمواجهة الحياة مرة أخرى، ويكشف “إيزاك” بأنه غير قادر على التفكير أو الشعور بشيء بعد مقتل أخيه الصغير، بينما يواصل الأب ضغطه على ابنه الأكبر للالتحاق بالعسكرية، وسيتم له ما أراد إذ يتطوع “إيزاك” في الجيش الأمريكي.

“إيزاك” يستعد للخدمة العسكرية في الولايات المتحدة، بعد أن ضغط عليه والده بذلك، حيث يعترف للكاميرا بأن مجتمع الجنود قاس كثيرا

 

خدمة الابن العسكرية.. تساؤلات حول الجيش في ظرفية قاسية

إذا كان الفيلم بدأ و”برايان” يقاتل في أفغانستان، فإنه سيقضي الكثير من ربعه الأخير وهو يرافق الابن “إيزاك” أثناء خدمته العسكرية في الولايات المتحدة، ولن تكون هذه الفترة سهلة على الفتى، حيث يعترف للكاميرا بأن مجتمع الجنود قاس كثيرا، ويتطلب منه أن يغير جلده حتى يستطيع التعايش معه.

لا يعرف “إيزاك” أيضا أسباب الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي أمكنة أخرى من العالم، كما أنه لا يعرف أسباب الحرب التي أصابت رجل أبيه وقلبت حياته رأسا على عقب.

يتمكن الحزن المكبوت من قلب الجندي الشاب فيصاب بالكآبة التي يرجعها لعدم تجاوزه مقتل أخيه المباغت والسنوات الصعبة التي قضاها مع مشاكل والده، ويظل الفيلم يتنقل بين الأب وابنه، بين رجلين يعانيان ويتألمان من الماضي، ويتعاملان بطرق مختلفة مع الألم الذي يحاصر حياتهما.

وسط القتامة التي تعيشها العائلة سيشع ضوء غير متوقع، إذ تحمل “ماريا” وقد تجاوزت الأربعين من العمر، وهو أمر لم تخطط له العائلة، وسيمنح ترقب الطفل القادم الفيلم بطاقة الحياة غير المتوقفة، فقد كان “برايان” متأثرا بهبة الطفل القادم التي وصلته بعد مقتل ابنه الصغير، ويرافق الفيلم العائلة حتى مولد ابنها الجديد، وحتى تخرج “إيزاك” من الأكاديمية العسكرية الأمريكية التي التحق بها.

الأب “برايان” يبدو متأثرا بعد عودته من الحرب ولقائه أبنائه، حيث أثرت كآبته عليهم

 

رمزية المؤسسة العسكرية الأمريكية.. قضايا يتكئ عليها الفيلم

يتنقل الفيلم بين عدة قضايا فهناك موضوع الجيش الأمريكي بما يُمثله للكثيرين في الولايات المتحدة، فهذه المؤسسة العسكرية هي أسلوب حياة الأمريكيين التي اختاروها كطريق لإظهار ولائهم للبلد رغم إشكاليّة هذه العلاقة وبخاصة في العقود الأخيرة، وذلك بعد تورط المؤسسة العسكرية بحروب مدمرة في الشرق الأوسط.

لا يتوقف “برايان” عن الإيمان بهذه المؤسسة، فهو يرسل ولده إليها بعد تقاعده منها، لكنه لا يجادل إيمانه ويبدو كهروب من واقع صعب يعاني منه في حياته على عكس ابنه الذي طرح أسئلة حول حال هذه المؤسسة.

إلى جانب قضية الجيش هناك قضية العائلة في الفيلم، وتأثيرات الأحداث الخارجية على العلاقات الداخلية بين أفراد العائلة. لم يرغب الفيلم أن يخوض في الأسباب التي جعلت “برايان” ينفصل عن زوجته الأولى، ولماذا اختفت الزوجة من حياة ولديها بالكامل، وفي المقابل يركز على علاقة “برايان” بولديه التي أثرت عليها كثيرا أزمته النفسية وكآبته بعد إصابته.

بوستر فيلم “أبٌ جنديٌّ ابن” الذي يظهر فيه الجندي الأمريكي “برايان” مع أبنائه “إيزاك” و”جوي”

 

معايشة اللحظات الهامة.. حدود العلاقة بين المخرج وشخصيته

يمكننا قول إن الفيلم في جزء كبير منه كان بمثابة بورتريه عن جندي يعاني نفسيا من آثار الحروب التي اشترك فيها، وتتجسد هذه الآثار النفسية في مشاهد الحياة اليومية العديدة في الفيلم، فقد كان فيها منعزلا لا يطيق الحديث لأحد، بل يلعب الألعاب الالكترونية لساعات، ويمكن لأي تصرف من أبنائه أو زوجته أن يجعله يفقد أعصابه.

تقترب المخرجتان من شخصياتهما وعلى حدود ربما لم تعرفها السينما التسجيلية من قبل، إذ إنّ كاميراتهما كانت مع العائلة في أكثر لحظاتها حميمية وحزنا، وتبدو الرابطة التي أقامتها المخرجتان مع العائلة قوية إلى الدرجة التي تهز قليلا من مفاهيم الفيلم التسجيلي، وخاصة المسافة التي اعتدناها بين الشخصيات وصناع العمل.

هناك مشاهد خاصة عديدة في الفيلم تجعلك تتساءل عن الجوانب التقنية فيها مثل موقع الكاميرا وقتها، وأين كان التقنيون، وكيف يمكن أن تكون الشخصيات بهذه العفوية بوجود غرباء في البيت؟

وعلى الرغم من أن المخرجتين أسستا لعلاقة مبنية على الثقة مع العائلة، فإنهما وفي مشاهد محدودة قررتا أن تحترما خصوصية العائلة، مثل المشهد مشهد زيارة العائلة مكان مقتل ابنها “جوي” لأول مرة، حيث فضل الفيلم أن يصور ذلك من مسافة كبيرة، وكذلك مشاهد الجنازة التي صورت من مسافة تحترم خصوصية المناسبة.