“أتيكا”.. مذبحة رئاسية ضد الأمريكيين السود في فناء السجن

لم يكن من قبيل المبالغة وصول الفيلم الوثائقي الطويل “أتيكا” (Attica) إلى الترشح لنيل جائزة أفضل وثائقي في مسابقة الأوسكار، فالفيلم بمثابة اكتشاف حقيقي وتجربة شديدة الأهمية كوثيقة بصرية مذهلة تشهد على حدث من أكثر أحداث التاريخ الأمريكي الحديث قسوة ودموية، فهو يوجز ببلاغة تاريخا من القمع والظلم واليأس، ويوثق لحدث كان يمكن أن يؤرخ لبداية تغيير حقيقي في العقل الأمريكي، إلا أن هذا التغيير المنشود لم يحدث حتى اليوم.

“أتيكا” هو اسم سجن كبير من السجون الأمريكية شديدة الحراسة، ويشمل مجموعة من المباني، ويشبه القلعة، وهو يستمد اسمه من البلدة التي يوجد فيها (أي بلدة “أتيكا”)، وتقع -كما يخبرنا الفيلم نفسه- على مسافة 250 ميلا من مدينة نيويورك.

ومنذ إنشاء السجن في ثلاثينيات القرن الماضي والبلدة الصغيرة نفسها تعمل كلها في خدمة السجن، فرجالها يعملون موظفين وحراسا داخل السجن. والمفارقة أن الغالبية العظمى من السجناء قادمون من أحياء نيويورك الهامشية مثل هارلم وبروكلين، وحوالي 70- 80% منهم من الملونين والسود، وهو أمر جدير بالانتباه، فهم من أصول أفريقية أو لاتينية مع عدد قليل من الأمريكيين البيض، أي أن رجال البلدة وهم قرويون محدودو الثقافة وقليلو الاطلاع على ما يحدث في العالم؛ لا يربطهم شيء مع السجناء، فهم سكان قرية بيضاء، وبالتالي تغيب فرصة وجود أي حوار، ناهيك عن الفهم أو التعاطف مع أولئك السجناء الذين يلقون معاملة أدنى من معاملة الحيوانات، والعنصرية مستقرة ثابتة.

غضب الزنازين.. حين يصبح السجان تحت رحمة السجين

في التاسع من سبتمبر/ أيلول عام 1971 بدأ عدد محدود من السجناء حركة احتجاج على تدني الأوضاع داخل السجن وسوء المعاملة، وتمكنوا من فتح بوابة داخلية ضخمة من بوابات السجن تؤدي إلى فنائه الكبير، وسرعان ما امتد الاحتجاج الغاضب ليشمل غالبية السجناء.

تمكن نحو ألفي سجين من احتجاز 42 حارسا من حراس السجن كرهائن، بينما فر الباقون، وتولى السجناء المسلمون حماية الحراس، وحالوا بينهم وبين التعرض للضرب من قبل الآخرين، بل ونقلوا أحد المصابين منهم إلى الخارج لعلاجه، بعد لفّه في إحدى بطانيات السجن، وهذا المشهد نراه بوضوح في الفيلم، ويقول أحد السجناء السابقين إنهم كمسلمين يؤمنون بضرورة رعاية أسراهم.

تحصّن باقي الحراس خارج السجن، وسرعان ما انضمت إليهم قوات كبيرة من الشرطة مدججة بالسلاح، ووقف الجميع أعلى الأسوار يراقبون ويترقبون لحظة الاقتحام والانتقام، لكن ما العمل وهناك كل هذا العدد من الرهائن؟

امتنعت قوات الشرطة عن التدخل لحين معرفة الموقف بالضبط وصدور الأوامر لها، وكان مع الشرطة حُرّاس السجن السابقون المكلفون بتقويم السجناء بالضرب والعنف يوما بعد يوم، وهم يضمرون الكراهية والرغبة في الانتقام من السجناء بعد أن تعرضوا للإذلال واضطروا للفرار، بينما احتجز عدد من زملائهم.

الغالبية العظمى من السجناء المتمردين كانوا من السود الأمريكيين الذين يعانون من سوء المعاملة في السجن

لقد أصبح السجن الآن تحت سيطرة السجناء الذين كانوا يتوهمون أنهم غير أكفاء، وأنهم منقسمون وعاجزون عن إدارة أمورهم بأنفسهم كونهم من “جنس أدنى”، إلا أنهم لا يمتلكون السلاح الذي يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، بل مجرد قطع من الأخشاب والأحجار.

صرخة الوعي الثائر.. احتجاجات تطالب بحقوق البشر البسيطة

يتضمن الفيلم الذي أخرجه “ستانلي نيلسون” عرض لقطات كثيرة لم يسبق عرضها من قبل، ونراها للمرة الأولى منذ وقوع الأحداث، لكن ربما لا تكون كلمة “الشغب” مناسبة لوصف ما حدث واستمر لخمسة أيام، بل يمكن وصف هذا الحدث الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ السجون الأمريكية بأنه احتجاج حقيقي، صحيح أنه لم يكن منظما، بل اندلع تلقائيا، لكن السجناء سرعان ما نجحوا في تنظيم أنفسهم.

أصبح السجناء معزولين عن باقي أقسام السجن محرومين من الطعام والأغطية ودورات المياه، وكلهم ممن ارتكبوا جرائم في الخارج، فكوّنوا مجموعة من بينهم تتولى الحراسة، ومجموعة أخرى لحفر خنادق وملئها بمياه يمكنهم استخدامها لقضاء حاجاتهم، كما انتخبوا من بينهم من يمكنه التحدث باسمهم، وطلبوا التفاوض مع كبار المسؤولين، وأصروا على ضرورة حضور مراسلي التلفزيون، وتصوير ونقل ما يحدث إلى الرأي العام في عموم البلاد.

ما نشاهده من خلال الذين يتحدثون ويعلقون ويروون لنا القصة من زواياها المختلفة، يكشف لنا كيف كان لدى هؤلاء السجناء وعي سياسي كبير، غالبا بفعل تأثرهم في تلك الفترة الملتهبة من أوائل السبعينيات بخطب وكتابات “مالكوم إكس”، وغيره من قيادات حركة “الوعي الأسود” و”الفهود السود”، وكان بعض هؤلاء يقضون عقوبات معهم داخل السجن، وكان المطلب الأساسي للسجناء الثائرين ينحصر في المطالبة بالمعاملة الإنسانية، أي أن يُعاملوا بغض النظر عن جرائمهم كبشر، ويحصلوا على أبسط حقوق البشر.

ما هي هذه الحقوق التي يتحدثون عنها في الفيلم؟ معجون الأسنان، وأغطية يجري تبديلها ليس كل شهر أو شهرين كما يحدث، بل بشكل أفضل، ودورات مياه كافية، وورق للاستخدام في المرحاض، وطعام أفضل وبكميات أكبر تكفي الكائن البشري، والتوقف عن ممارسة العنف والتعذيب والقسوة، وأن يُتاح للسجناء المسلمين تأدية صلواتهم وشعائرهم الدينية التي كانوا محرومين منها، كما كان يفرض عليهم عمدا تناول لحم الخنزير.

يردد عدد من السجناء السابقين في أتيكا أن هذا السجن كان يعني “النهاية، نهاية الخط”، وكان دخول أتيكا معناه أن لا خروج منه، فهو “المكان النهائي”، وكان التعذيب ممنهجا كنوع من العقاب الإضافي، شأن ما يجري في تلك السجون عالية التأمين التي تضم المصنفين من عتاة المجرمين.

لم يكن هذا صحيحا، فقد كان أحدهم قد نقل إلى “أتيكا” بسبب القيادة من دون رخصة، وبغض النظر عن الجرائم، فهم -كما يرددون- بشر يريدون الحصول على معاملة تليق بالبشر.

أرشيف الفيلم المصور والمسرود.. عودة حية إلى الحدث

يعرض الفيلم صورا ثابتة ولقطات عدة صورت من كاميرات المراقبة التابعة للشرطة في ذلك الوقت، كما يشمل كثيرا من المقابلات أجراها المخرج مع عدد من السجناء السابقين الذين عاشوا الأحداث وشاركوا فيها، وكذلك مع رجال الإعلام الذين انتقلوا لتغطية الحدث، وأكثرهم ظهورا في الفيلم والحديث عن تلك الأحداث هو المراسل التلفزيوني “جون جونسون” مراسل شبكة “إيه بي سي”، وكان من مشاهير المذيعين من السود الأمريكيين، وعندما لمح السجناء وجوده عبر الأسوار شعروا بنوع من الأمان، وأرادوه أن يصبح شاهدا على ما قد يجري لهم.

وفي الفيلم أيضا مقاطع من نشرات الأخبار التي كانت تبثها قنوات التلفزيون الأمريكية، وشهادات من بعض المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان وأهالي الحراس المحتجزين كرهائن، وتعليقات من جانب فريق الوسطاء الذين أصر السجناء على استدعائهم وحددوهم بالأسماء، وشمل عددا من الصحفيين والمحامين، لكن أبرزهم هو عضو الكونغرس لشؤون السجناء السيناتور “جون دون”، وكان متعاطفا معهم ومع تحسين شروط السجون عموما، و”كلارنس جونز”، وهو من السود الأمريكيين، وكان صديقا مقربا من زعيم حركة الحقوق المدنية “مارتن لوثر كينغ” الذي اغتيل عام 1968، كما كان أيضا ناشرا لصحيفة “أمستردام نيوز” الليبرالية وكاتبا ومثقفا رفيعا.

لقد أصبح هؤلاء الشهود وسطاء في عملية التفاوض التي أصبحت منذ اليوم الأول تجري بين وفد منتخب من السجناء، وعدد من المسؤولين بقيادة “راسل أوزوالد” مدير مصلحة السجون في ولاية نيويورك.

قلق الداخل وتربص الخارج.. جمال البناء الفيلمي

يكمن جمال هذا الفيلم وتأثيره الكبير في بنائه الذي ينتقل باستمرار بين الداخل والخارج، أي بين ما يجري داخل السجن حيث يوجد السجناء الثائرون، وكيف يغطي معظمهم وجوههم حتى لا يمكن التعرف عليهم ورصدهم، وكيف ينظمون أنفسهم ويستعدون للمواجهة المحتملة، ويبثون البلاغات عبر مكبر للصوت، وبين الحراس والشرطيين الموجودين في الخارج الذين تكاثرت أعدادهم كثيرا ووزعت عليهم الأسلحة بكثافة، وانتشروا في كل مكان حول السجن وفوق أسواره.

كما ينتقل الفيلم بين الشهادات التي نستمع إليها ممن عاصروا الأحداث، وبين جلسات التفاوض التي حضرها وصورها الصحفيون والعاملون لحساب قنوات التلفزيون.

يظل إيقاع الفيلم يتصاعد، ونحن نشاهد تطور الأحداث ساعة بساعة ويوما بيوم، ومع تطور عملية التفاوض نشعر أن الأزمة ربما أصبحت في طريقها إلى الانفراج.

توقيع القاضي المشبوه.. شكوك تحوم حول نية السلطات

لخص السجناء مطالبهم- كما نرى في الفيلم- في 30 مطلبا، وافق “راسل أوزوالد” على 28 مطلبا منها، لكن أهم مطلب للسجناء المتمردين كان ضمان العفو عنهم بعد إنهاء التمرد، وعدم التنكيل بهم من جانب الحراس، وقد طلبوا تعهدا مكتوبا يضمن لهم ذلك، إلا أن “أوزوالد” قال إنه لا يملك تقديم مثل هذا التعهد، بل يجب أن يصدر عن جهة قضائية.

مدير مصلحة السجون في ولاية نيويورك “راسل أوزوالد” يوافق على 28 مطلبا للمساجين من أصل 30 مطلبا

عاد المحامي المعين للتفاوض من جانب إدارة السجن بورقة موقعة من قاض، إلا أن زعيمهم الشاب (دارس القانون) رفض قبول تلك الورقة بدعوى أنها ليست مختومة من المحكمة، وأن توقيع القاضي وحده عليها لا يكفي، وقام بتمزيقها على الملأ كما نرى.

كان هناك كثير من الشكوك في إمكانية أن تفي السلطة بتعهدها. ومع ثورة المشاعر دعا بعض السجناء إلى احتجاز “أوزوالد” نفسه، لكن التعقل تغلب على الفوران وتركوا الرجل يغادر، لكنه لم يعد إليهم بعد ذلك قط.

وفاة الحارس.. فرض النظام والقانون بأمر رئاسي

أصبح مطلب السجناء ضرورة حضور “دونالد روكفلر” نفسه حاكم ولاية نيويورك، لكنه رفض بإصرار الحضور والتفاوض والتعهد للسجناء بما يريدونه، وزعم أنه إذا استجاب فسوف يطالب السجناء بعد ذلك بحضور الرئيس الأمريكي. رفض السجناء الاستسلام خشية ما يمكن أن يحل بهم من تعذيب وقمع.

ورغم تعقيد الموقف كان الوسطاء يمارسون الضغوط، وكان الاهتمام الإعلامي قد أصبح مؤثرا في الخارج، وساد شعور بأن من الممكن أن تنتهي الأمور بسلام في نهاية المطاف، إلا أن أحد الحراس الرهائن مات نتيجة ما تعرض له من ضرب على أيدي أحد السجناء عند بداية العصيان.

هكذا تصاعد الأمر وتعقد الموقف، وتوقفت المفاوضات، بل يكشف الفيلم لأول مرة في وثائق دامغة مقاطع من الاتصالات الهاتفية التي جرت بين “روكفلر” وبين الرئيس “ريتشارد نيكسون” بشأن مشكلة السجناء، وكيف أصرّ “نيكسون” وقتها على ضرورة فرض النظام والقانون بالقوة. وهو ما كان “روكفلر” نفسه متحمسا له، فقد كان يسعى للترشح للرئاسة، إلا أنه كان يتهم في أوساط حزبه الجمهوري بأنه يتساهل مع الجريمة. أصبح القرار الواضح للجميع الآن هو التدخل لفض الاعتصام بالقوة، وليكن ما يكون.

“لن يصيبكم مكروه”.. أكذوبة الأمل التي تسبق المذبحة

في مشاهد شديدة العنف قد تكون غير مسبوقة في تاريخ السينما الوثائقية تبدأ المذبحة، وبينما تعلن الشرطة عبر مكبرات الصوت للسجناء “تقدموا نحو الشرطيين، سلّموا أنفسكم وأنتم ترفعون أيديكم فوق رؤوسكم، ولن يصيبكم مكروه”، إلا أن ما يحدث بالفعل وما نراه بالصوت والصورة هو أن السجناء كانوا يتقدمون على هذا النحو، لكن الرصاص أخذ ينهال عليهم، وسقط العشرات مضرجين في دمائهم، ومع سقوط الأمطار اختلط الماء بالدم وكوّن بحيرات عدة على أرضية فناء السجن، وجعلت قنابل الغاز المسيل للدموع السجناء عاجزين عن رؤية ما يحدث من حولهم لرفاقهم، بينما كان الحراس والشرطيون يرتدون أقنعة واقية من الغاز.

“إليوت بيركلي” الشاب الذي اختاره السجناء الثائرون متحدثا باسمهم أمام طرفي التفاوض

أما الذين نجوا من الموت، فنراهم بعد أن أرغموا على التجرد من ملابسهم عراة كما ولدتهم أمهاتهم، ينهال عليهم الحرس ضربا وركلا بالأعمدة الحديدية والخشبية والأحذية الثقيلة دون أدنى شفقة.

كان أول من بحث عنه الحراس الراغبون في الانتقام هو الشاب “إليوت بيركلي” ابن الحادية والعشرين الذي كان السجناء قد انتخبوه متحدثا باسمهم لمعرفته بالقانون، وقد قبضوا عليه وأشبعوه ضربا، ثم اقتادوه بعيدا وأطلقوا عليه الرصاص، فلقي مصرعه في جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد. فقد كانت روح الانتقام الدموي تتفجر في العروق.

“هل هناك قتلى من البيض؟”.. عنصرية البيت الأبيض

يحقق المخرج “نيلسون” توازنا دقيقا بين أطراف الفيلم، ويستخدم طريقة سرد قريبة من روح الفيلم الروائي البوليسي، فهو يُبقي على التوتر والتشويق والإثارة حتى النهاية، ويصل إلى الذروة في مشاهد المذبحة وما بعدها، خصوصا ما أُتيح للمصورين تسجيله بكاميراتهم في غمرة الفوضى.

ورغم تعاطف “نيلسون” الواضح مع السجناء، فإنه لا يتجاهل تصوير مشاعر أهالي الرهائن الذين أصابهم الرعب أيضا بسبب التدخل العنيف لقوات الأمن، الأمر الذي أدى -كما يقول لنا الفيلم- إلى مقتل 29 سجينا و10 من الرهائن.

آثار ما بعد المذبحة داخل السجن، والذي ذهب ضحيتها 29 سجينا و10 من الرهائن

سنعرف من الأسطر التي تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم أن قاتل الحارس الرهينة حوكم وحُكم عليه، بيد أنه لم يُحاكم أي حارس أو شرطي على قتل السجناء، لكن في عام 2000 دفعت ولاية نيويورك طبقا لحكم قضائي 12 مليون دولار تعويضات لأهالي الحراس الذين قُتلوا في العملية، و12 مليون دولار أخرى لأهالي السجناء وكل السجناء الناجين من المذبحة.

وعلى شريط الصوت نستمع إلى مكالمة بين “روكفلر” و”نيكسون”، وفيها يسأل “نيكسون”: هل هناك قتلى من البيض؟ فيجيبه أن كل القتلى من السود، فيبدي “نيكسون” ارتياحه.

هكذا يصبح فيلم “أتيكا” وثيقة دامغة على سياسات ما زالت مستمرة، وعلينا فقط أن نراجع الأحداث المتعاقبة التي وقعت خلال السنوات الأخيرة الماضية.