“أخبرني من أنا”.. رحلة من الكذب إلى الحقيقة في ظل فقدان الذاكرة

إسراء إمام

يعود تقديرنا لكثير من الأفلام الوثائقية إلى قوة موضوعها، ولوقع تأثير المعايشة الذي تمنحه لنا، إذ تعطينا فرصة لنكون في قلب الحدث، فنحيا تفاصيله ونواكب المشاعر المحيطة به، كما نستشف قدرة مخرجه على إضفاء مسحة فنية على تلك المشاهد الحيّة التي ينقلها لنا من الحياة.

لكن تقديرنا يتضاعف حينما يمزج هذا التوثيق المُوّفق بصبغة روائية تزيد فيها مساحة الخيال الشعوري والبصري لتلك الوقائع الحقيقية، فتكثف من إحساسها وتأثيرها على المتفرج، وتدفعه دفعا لكي يتمازج معها ويختبر تجربتها بنفسه، وكأنه طرف فيها.

وهذا بالضبط ما يتسم به الفيلم الوثائقي “أخبرني من أنا” (Tell Me Who I Am)، وهو الفيلم الذي أنتجته شبكة نتفليكس عام 2019. هذا الفيلم ينقلك بجدارة لعالم حقيقي موازٍ يسرده لك أصحابه الأخوان التوأمان “ماركوس” و”أليكس” بطابع روائي ملحوظ، مما يجعلك كمتفرج شاهدا متورطا في تجربتهما المؤلمة، لتشعر بعدها أن الفيلم قام بتوثيق هذه الحكاية لكي تبقى في داخلك، لا لمجرد أن تتعرض لها وتجيد استيعابها.

فالمشاعر المؤلمة غذاء للروح، مثلها مثل مشاعر البهجة تماما، وتجربة مشاهدة الفيلم تستدعي نوعا راقيا من المشاعر المؤلمة التي يجب علينا أن نحياها بين كل حين وآخر، لكي نُعيد تسكين الحياة في قلوبنا بوجهيها، ونجدد عقد تقبلنا لها مكتملة بدون نقصان.

 

“ماركوس” و”أليكس”.. توأم فرق بينهما فقدان الذاكرة

هذا الفيلم يثبت أن الحياة تخفي قصصا مذهلة تفوق في تعقيدها ومفارقاتها ما نرى في الأفلام بمراحل، فهو يقدّم لنا أزمة مُلتفة حول نفسها، تحتوي على أبعاد متعددة على المستوى النفسي والحدثي، تلك الأزمة بطلها توأمان متطابقان يفقد أحدهما الذاكرة وهو ابن 18 عاما، وينسى كل شيء ما عدا أخاه التوأم، وكأن الدمار الذي حدث في دماغه وأفقده كل ما يملكه من معلومات سابقة عن حياته ومن كانوا فيها، لم يستطع أن يشمل علاقته بأخيه على وجه الخصوص، فيستيقظ “أليكس” من حادثته مولودا جديدا لا يعرف شيئا من العالم سوى “ماركوس” توأمه.

منذ تلك اللحظة يصبح “ماركوس” همزة الوصل الوحيدة بين “أليكس” وبين الحياة، فيعيد تعريفه بأبسط مفاهيمها، ويعيد تشكيل ذكرياته عن تفاصيل حياته قبل الحادثة، بما فيها علاقته بأصدقائه، والأهم طبيعة علاقته بوالديه، وواقع عيشته اليومية بينهما في منزلهما الأرستقراطي الكبير.

ومن هنا تبدأ مفارقة جديدة تزيد من غرابة أطوار هذه الحكاية، حيث أن حياة “أليكس” و”ماركوس” في هذا البيت الكبير لم تكن قط عادية، بل إنها اشتملت على سر كبير يجعل سنوات طفولتهما سنوات فريدة من نوعها في القسوة والألم.

وهذا ما يوقع “ماركوس” في مأزق، فهل يُطلِع أخاه على هذا الماضي المؤلم وينقل له الصورة الحقيقية لقسوة والديهما؟ أم يستغل هبة النسيان التي منحها الرب له ويستكمل دور القدر في إخفاء ذلك الماضي ودفنه؟

اختار “ماركوس” الاختيار الثاني، حتى وإن لم يكن متعمدا في بداية فعله لذلك.

صورة تجمع “أليكس” و”ماركوس” في عمر الطفولة، حيث يزيّف الأخير لأخيه أليكس واقعه، ليخلق له واقعا لم يعشه يوما

 

بناء الذكريات المزيفة.. طفولة من وحي الخيال الوردي

يُزيّف “ماركوس” لأخيه واقعه السابق، فيخلق له واقعا بديلا لم يعشه يوما، فيجَمّل له حقيقة الحياة الأسرية التي عاشاها، ويوهمه أنهما قضيا طفولتهما بسعادة بين أبوين طيبان يحبانهما، ويسافران بهما كل عام لقضاء العطلات، ويأكلان معهما على طاولة واحدة، ويهتمان لأمرهما ويخافان عليهما ويحسنان إليهما.

صَدّق “أليكس” أخيه وبنى ذكرياته على هذا الأساس، فلم يكن يلقي بالا لكل ما كان يراه من والديه من قسوة أو برود يخالف تلك الصورة الوهمية، بل يضعه تحت بند التغير الطارئ بحكم سنهما أو ظروف فقدانه لذاكرته التي لم يكونا قادرين على التعامل معها.

يستمر الوضع هكذا حتى وفاة الوالدين، لتظهر نقطة تكشف سِرّ كذبة “ماركوس”، وتجبر “أليكس” على التساؤل بخصوص ما هو مزيف وما هو صادق في الطفولة التي مرا بها كلاهما.

صورة لـ”أليكس” في عمر الخمسين بعد أن فقد ذاكرته واعتمد على أخيه ليكون عين ذاكرته وأداة لتشكيل حياته السابقة في ذهنه

 

عودة شبح الحقيقة.. ارتباك الهوية المشوهة

علاقة “ماركوس” و”أليكس” هي الأصل الذي تنعكس عليه كل المفارقات في الفيلم، وهي الشيء الذي يستحق التأمل والقراءة المتمهلة، فحينما فقد “أليكس” الذاكرة، واعتمد على “ماركوس” لكي يكون عين ذاكرته وأداة تشكيل حياته السابقة في ذهنه؛ زادت تلك العلاقة متانة، وقد كانت قوية بما فيه الكفاية أصلا من قبل الحادثة، ليصبح “ماركوس” بمثابة كل شيء حرفيا لدى “أليكس”، فهو صندوقه الخفي والوحيد الذي يضع فيه كل الثقة والحب والأمان، وقد أصبح جزءا لا ينفصل عن ارتباطه بالحياة كلها.

لذا حينما اكتشف “أليكس” أن أخاه كذب عليه، فإنه لا ينفصل عن أخيه فحسب، بل ينفصل عن نفسه وعن حياته بأكملها، ليصبح اسم الفيلم مُعبرا للغاية عن حالة “أليكس”، بل وحالة “ماركوس” أيضا، وهو مستوى مُلتبس آخر من التعقيد يستوجب تأمله وشرحه، فقد أخذ “ماركوس” يكذب على “أليكس” منذ بلغا 18 عاما وحتى 32، أي ما يقارب 14 عاما.

هذه الأعوام كانت كفيلة بأن يصدق “ماركوس” كذبته، وأن يتخلص من سجن ماضي طفولته المؤلم، ويصبح حُرّا نوعا ما مثل “أليكس”، ممتلكا القدرة على امتلاك ذاكرة جديدة، ليس عن طريق فقدان الذاكرة القديمة في حادث سير مثل أخيه، بل عن طريق تلفيقه الذي استمر أعواما طوالا لواقع لم يعشه، حتى أصبح الأقرب للتصديق بالنسبة له، وبالتالي فإنه ارتبك مثل أخيه تماما عندما عادت الحقيقة لتطاردهما، وفقد القدرة على معرفة نفسه، ليصبح مُشوَها لا يعرف حقيقة هويته هو الآخر.

“ماركوس” في عمر الخمسين، وذلك يحن يعرف طبيعة الحياة الحقيقية التي عاشها في طفولته

 

ردة الفعل الآنية.. مواكبة متجردة للحظة الحية

لم يقف جمال الفيلم عند تناول القصة المربكة بأسلوبه الفني المميز الذي سنتكلم بشأنه لاحقا، وإنما حقق معادلة حقيقية تحتاج لمثلها السينما الوثائقية، وهو التسجيل الحيّ لحل الأزمة التي يطرحها الفيلم.

فبينما نتعرض معظم الوقت في الأفلام الوثائقية لسرد دقيق لما حدث، وخصوصا في تلك الأفلام التي تتناول قصصا إنسانية من هذا القبيل؛ يأتي فيلم “أخبرني من أنا” لكي يجعل المتفرج شاهدا على واقعة مواجهة الأخوين، وحاضرا لتلك اللحظة التي يعرف فيها “ماركوس” طبيعة الحياة الحقيقية التي عاشها في طفولته، فنتعرض كمتفرجين لردات فعله الآنية، ونواكبها وقت حدوثها، ونلتقطها معبرة مذهولة دون محاولات للوصف أو تقريب المعنى، فنخوض معه رحلته، بدءا من صدمة الحقيقة وقسوتها، وانتهاء بإزاحتها للتساؤلات من فوق كاهله، ليصبح قادرا على العودة لأخيه، مُستعدا لاستئناف الثقة به وبعلاقتهما.

إنها نهاية حقيقية لعُقدة الفيلم يحياها المشاهد بحق وهي تحدث في وقتها بكل ملابساتها التي لم يجتهد أحدهم في تجسيدها له، بل يشهدها بعينه.

إطار فراش كل من “أليكس” و”ماركوس” وقد غادر كل منهما فراشه بعد أن هجرا بعضهما وافترقا

 

إطارات الصورة.. لسان بصري ينطق بالمسكوت عنه

اختار المخرج “إد بيركينز” أن تلاحق صورة فيلمه خيالات المتفرج دوما، فتجسد له لحظة بلحظة مشاعر الأحداث التي يرويها الأخوان، كل من وجهة نظره.

فمثلا حينما كان “أليكس” يحاول أن يصف شعوره المرتبك بعدما استيقظ من غيبوبته، وأدرك أنه لا يتذكر شيئا، نرى الإطارات البيضاء وكأنها تمثل المساحة الفارغة من دماغه، ثم تتوالى من بعدها الإطارات الغامضة في حركة هائجة غير منتظمة لتوحي بما يشعر به من توجس وتشتت.

وثمة نوع آخر من المساهمة البصرية التي خلقها “بيركينز” في هذا الفيلم، حيث حرص على توظيف الأداء التمثيلي لبعض الأحداث الحرجة التي يرويها الأخوان، فمثلا نرى تخيلا لوالد “أليكس” وهو يتناول الإفطار دون أن نتعرض لوجهه بوضوح، بينما نشعر بأرقه وعدم ارتياحه وهو يحاول أن يأكل ويشرب قهوته باعتيادية، لكنه في الحقيقة يتأزم من وضع “أليكس” ووجوده في البيت الآن وهو بلا ذاكرة.

مشاهد أدائية كثيرة مثل المشهد السابق نراها تتحدث بلسان بصري عن بعض المواقف التي ينقلها لنا كلا من “أليكس” و”ماركوس”، مما أضفى على المادة التوثيقية في الفيلم طابعا حيّا يتسق مع حالتها الإنسانية.

كعكة عيد ميلاد والدة “ماركوس” و”أليكس” موضوعة على الطاولة وحدها أمام كآبة البيت الكبير الذي يوحي بزيف وكآبة الطقس

 

ظل الشبح التائه.. دلالات المعاني الرمزية

لا يمكننا أن نغفل بعض الإطارات التي مثّلت معاني رمزية امتدت على مدار الفيلم، مثل تلك الإطارات التي كنا نرى فيها “أليكس” و”ماركوس” مجرد أشباح سوداء أمام مصدر إضاءة خلفي، وهو ما يرمي بالمعنى الواضح الذي يخص معاناتهما في التعرف على هويتهما. ومثل الإطار الذي أبرز كوب الماء ممتلئا عن آخره كمعادل بصري، إثر كلمات “أليكس” عن ثقته الكاملة في أخيه بعد الحادث، وكأنه يؤكدها.

وهناك إطار آخر تظهر فيه كعكة عيد ميلاد والدة “ماركوس” و”أليكس” وهي موضوعة على الطاولة وحدها أمام بيتهم الكبير، مما يوحي بزيف وكآبة هذا الطقس الذي اعتاد “ماركوس” و”أليكس” أن يقيماه لها كل عام اعترافا بفضلها، وهي مجاراة لكذبة “ماركوس” حول حقيقة تلك الأم القاسية التي صورها لأخيه وكأنها أم عطوفة حانية، وبدأ هو الآخر تصديق ذلك.

وفي مشهد كان يتحدث فيه الأخوان عن علاقتهما الوطيدة، نرى إطارا لهما يصور نومتهما على فراشيهما المتجاورين، وعندما يأتي المشهد الذي يصفان فيه كم تأذت علاقتهما؛ نرى إطارا مماثلا للفراشين فارغين، فقد هجرهما الأخوان وافترقا.

وأخيرا، يمكنني القول إن فيلم “أخبِرني من أنا” هو نموذج فريد من نوعه لفيلم وثائقي غني ومرهف، فعلى الرغم من معاناة التجربة التي اختار أن يُقدمها فإنه لم تنهزم نعومته، بل استطاع أن يُطّوع كل ما تحتويه من مشاعر مريرة تحت عنق أساليبه الخاصة الساحرة.