“أخناتون” و”شراقي”.. أفلام مصرية عظيمة لم تر النور

الفنان المصري هشام عبد الحميد

قد يعتقد القُرّاء والمتخصصون والمهتمون بفن السينما عند مطالعتهم لعنوان هذا المقال بأنه سيركز فقط على سيناريو فيلم “مأساة البيت الكبير” (أخناتون) للمخرج الكبير شادي عبد السلام .بالتأكيد سأتحدث عن هذا الفيلم، لكن من خلال هذا العرض سأعرج مع الحسرة والأسى على مصيره ومصير أفلام لم تكن قليلة، ولاقت المصير نفسه.

هناك أفلام كثيرة أخذت جهدا ووقتا، لكن للأسف لم تصل لدرجة التنفيذ، فمنها فيلم “أخناتون” الذي رحل شادي عبد السلام قبل أن ينفّذه، وهذا الفيلم وغيره كانوا عبارة عن  مشاريع أفلام طموحة وشديدة الفنية، لكن بعض تلك الأفلام التي لم تر النور كان ممن الممكن أن تكون جماهيرية أيضا.

للأسف ظلت تلك السيناريوهات حبيسة الأدراج سواء أدراج المخرج، أو الشركة المنتجة التي اشترت حقوق الفيلم لتُنتجه، وبعدها ساهمت بقتله عن طريق التجاهل. قد يكون السبب أيضا موت مبدعها ومحركها، سواء كان مخرجا أو منتجا أو مؤلفا.

 

“تعرف أنا مغرم بوجهك”.. رحلة البحث عن أبطال الفيلم

لنبدأ بفيلم “مأساة البيت الكبير” أو “أخناتون” كما يطلق البعض على هذا المشروع الضخم، فالمهم في الأمر أن هذا الفيلم لم ينفذ رغم نجاح مخرجه ومبدعه الأول شادي عبد السلام في أن يُكَوِّن الأرضية الفنية التنفيذية لهيكل الفيلم، وذلك بعد تميز فيلمه الأول “المومياء”.

عام 1970 شرع شادي في إعداد إسكتشات الملابس وإكسسوارات الشخصيات، وأيضا إسكتشات أحجام اللقطات وطولها ونوع العدسات، حيث عمل على رسم الخطوط الفنية لشخصيات الفيلم، بل وإلباسهم ملابس وإكسسوار الشخصيات، وأكثر من هذا فقد ذهب وجاب عددا من الأماكن لمعاينة المناطق الخارجية، هذا بالإضافة إلى اختيار الممثلين.

لفت نظر شادي -مع حفظ الألقاب- وجه شاب معيد بالمعهد العالي للفنون المسرحية، كان وقتها يُقَدّم هاملت على سلالم المعهد من الخارج، وكان يصاحبه في المشاهدة نادية لطفي ولويس عوض، وقتها قال شادي جملته المأثورة لذاك الشاب “تعرف أنا مغرم بوجهك”، ولم يكن ذاك الشاب سوى الوجه الجديد آنذاك محمد صبحي الذي انخرط لاحقا مع شادي في بروفات دقيقة ومجهدة، إضافة إلى نادية لطفي التي كان من المفترض أن تلعب دور الملكة نفرتيتي، وهناك أيضا أحمد مرعي بطل شادي الأثير في فيلم “المومياء”، حيث أُسند إليه دور رئيسي وهو دور قائد الجيوش.

 

تقلب أحوال السينما بين عصرين.. رياح السادات

بدأ كل شيء متفائلا ويسير وسط الخطة الموضوعة، لكن سرعان ما بدأ المشروع يصطدم بالقطاع العام الذي أُنتج له من قبل فيلمه الأول، إذ لم يدر بخلد شادي أن الأمور تغيرت، فالمشروع الأول كان في عهد عبد الناصر، وبمباركة قطبين مهمين، هما المخرج الكبير روسليني، وثروت عكاشة وزير الثقافة المستنير وقت ذاك. لكن الأمور تبدلت، فقد ذهب عبد الناصر وجاء الرئيس السادات للحكم، ومعه جاء يوسف السباعي كوزير ثقافة.

أصبح التوجه العام غير متفق مع مزاج شادي أو مزاج هذا النوع من الأفلام، إضافة لذلك هناك عقبة ميزانية الفيلم الكبيرة التي ساهمت في أن يتجمد المشروع عدة سنوات، لكن شادي عبد السلام المسكون بالفن السينمائي لم يكف عن الكفاح وعاود المحاولة .

بالطبع بدأ شادي يواجه تحدي الزمن، وبدأت ملامح الزمن تطبع أيضا ملامح الكبر على وجه نادية لطفي، وقتها أقنعها شادي بإسناد دور آخر بالسيناريو لا يقل أهمية عن دور نفرتيتي، وهو دور شخصية الأم المتسلطة المسيطرة.

“يخرب بيتك، كأن شكلك هربانة من أحد المعابد الفرعونية”

بدأ شادي بالبحث عن فتاة صغيرة لشخصية نفرتيتي، وبالفعل حصل على ما كان يريد في وجه طالبة بالمعهد، وقتها قال لها “يخرب بيتك، كأن شكلك هربانة من أحد المعابد الفرعونية”، ولم تكن تلك الفتاة سوى الوجه الجديد آنذاك سوزان التي اختار لها اسم سوسن بدر.

أصبح الفيلم جاهزا للبدء، وللمرة الثانية تجاهلت الدولة إنتاج الفيلم، لأنه بمرور السنين تضاعفت ميزانية الفيلم أضعاف ما كانت عليه، ثم جاءت أحداث “كامب ديفيد”، ليقرر شادي ضرورة إعادة بناء السيناريو لكي يتضمن الإشارة إلى مثل هذا الحدث.

واحدة من روائع تصميمات الفيلم غير المكتمل “مأساة البيت الكبير – أخناتون” تحت إشراف المخرج شادي عبد السلام

 

رفض عروض الإنتاج الأجنبية.. ملابسات غامضة

ولعل الجدير بالذكر هنا أنه كانت قد ظهرت حكايات كثيرة يختلط بها ما هو حقيقي بغيره، فعلى سبيل المثال عرضت بعض الجهات الأجنبية والعربية إنتاج الفيلم، لكن تلك العروض جميعها باءت بالفشل، فقد تمسّك شادي الملتزم والمتعنت بضرورة أن يكون الإنتاج مصريا 100%، ولا ندري هل كان شادي على حق في هذا التعنت الصارم، لأن ما أُشيع وقتها هو أن الجهات المنتجة الخارجية لا تموّل مجانا، فلا بد من الاستجابة لمطالبهم التي سوف تتضاد بالضرورة مع الرؤية الفنية لشادي .

على سبيل المثال تقدمت ليبيا لإنتاج الفيلم بشريطة إضفاء الجانب القومي العروبي على “إخناتون”، وهذا ما رفضه تماماً شادي .كذلك الجانب العراقي كان شادي قد رفضه، لكن ما يدعو للحيرة بالفعل -برغم تسليمنا بمشروعية رفض العروض العربية- كان رفض شادي للعروض الأوروبية، فهو يثير الدهشة من تعنت شادي.

كل تلك الملابسات أدت مع الأسف لضياع المشروع، فأعتقد أن تمسك شادي كان كتمسك دون كيشوت (شخصية خيالية في رواية إسبانية) بمحاربة طواحين الهواء، ومع شديد الأسف مرض شادي بالمرض اللعين ورحل عن عالمنا، وكانت تحيطه رغبات خجولة من الدولة بتبني مشروعه المهم، فقد رحل هذا المخرج العظيم قبل أن يبدأ .

الفنانة المصرية فاتن حمامة التي شاركت في تمثيل فيلم “شراقي” الذي لم يعرض قط

 

“شراقي”.. انقلاب السحر على الساحر

ننتقل إلى سيناريو آخر لم يُكتب له أن يرى النور، وهو فيلم “شراقي”، من تأليف محمد خليل الزهار، وإخراج حسام الدين مصطفى، وبطولة فاتن حمامة وكاتب هذه السطور (هشام عبد الحميد) وأحمد زكي.

تدور أحداث الفيلم في قرية من قرى الصعيد حول السيدة شراقي التي كانت محل ثقة الجميع، وكانت -كما يقال- محضر خير، فقد كانت تُصلح بين العائلات، لكي تنمو المحبة والسلام بين الجميع بدلا من الكراهية والبغضاء التي تورثها عادة الثأر الكريهة.

بعض العائلات كان لها رأي آخر، فقد اتفقوا على أن يتخلصوا منها عن طريق أحد القتلة المأجورين، وبالفعل اتفقوا مع قاتل، وهي الشخصية التي يلعبها أحمد زكي.

كان لشراقي ابن يمثل دوره كاتب هذه السطور، ويقع ذلك الابن في براثن راقصة من بلدة مجاورة تغويه فيتزوجها، ويترك أمه بعد خلاف حاد معها حول هذا الزواج البائس، وتصبح شراقي وحيدة في بيتها.

يبدأ القاتل خطته لكي ينال من شراقي على مدار ثلاث محاولات فاشلة لقتلها، لكن ينقلب السحر على الساحر، وبدلا من أن يقتلها تنقذه هي من موت محقق محدق به. هذا ما جعله يشعر بامتنان تجاه شخصية شراقي، فيقرر القاتل في لحظة تطهر ومراجعة للنفس أن يتحوّل من قاتلها إلى حارسها، بالفعل يقف كما يقف الرقيب أمام منزلها الذي كان على منحدر.

الفنان المصري أحمد زكي الذي أدى دور البطولة في فيلم “شراقي” الذي لم ير النور

 

حامل البندقية.. مقتل القاتل عند بيت أمه

بالتوازي مع علاقة القاتل بالسيدة شراقي التي انقلبت من عداء إلى ولاء؛ نجد علاقة الراقصة مع ابن شراقي تمر بلحظة درامية عنيفة، فقد اكتشف خيانتها له، فقتلها ببندقيته مع عشيقها.

ذهب الابن بدمائه الملطخة على ملابسه لكي يصالح أمه، فهو يريد أن يطلب منها الصفح. تأتي الذروة الدرامية عندما يرى الحارس الابن قادما من بعيد ويظنه أحد القتلة.

رأى الحارس الابن غريبا مريبا لكون ملابسه كانت ملطخة بالدماء، فحمل بندقية وجرى مندفعا، فما كان من الحارس إلا أن أجهز عليه ظنا منه أنه من الأعداء، وحينها دخل الحارس يزف خبر القتل إلى شراقي التي ما إن خرجت لكي ترى الجثة، حتى صعقت وأصيب بنوبة بكاء هستيري وصراخ وعويل، فقد قتلها حارسها دون أن يدري.

وبالرغم من العمل الجاد على هذه القصة البديعة، إلا أن خلافا نشب بين فاتن حمامة وحسام الدين مصطفى، وفُقِد المشروع برمته، وفقدنا وفقدت معنا السينما المصرية فيلما من أمتع وأجمل الأفلام.

المخرج الجزائري أحمد راشدي الذي أنجز فيلم “لا” عن الحقبة الناصرية لكنه لم ير النور

 

“لا”.. قصة من السجن تكشف زيف الحقبة الناصرية

نأتي إلى فيلم” لا “عن قصة بالاسم نفسه للصحفي الكبير مصطفى أمين، ومن إخراج الجزائري أحمد راشدي، وإنتاج وبطولة عبد الحليم حافظ. وتدور أحداث الفيلم في المرحلة الناصرية، حين اكتشف أن هناك سجينا زائدا أكثر من العدد الموجود.

تتوالى أحداث الفيلم لكي تكشف عوار وزيف المرحلة الناصرية، وما شابها من تحكّم في مراكز القوى التي أفسدت التجربة الناصرية بصلفها وغرورها.

اللافت في الأمر أن يتبنى الفيلم عبد الحليم وهو ابن النظام الناصري وأحد الأصوات المبشرة بمبادئه، فمن الغريب أن ينقلب ويتبنى وجهة النظر المعادية، بل ويلجأ إلى أشهر معتقل وقتها، وهو مصطفى أمين الذي اعتقل وعُذّب في عهد عبد الناصر، ثم أفرج عنه السادات، فاستقبله صديقه المخلص عبد الحليم، واشترى حقوق قصة “لا”، ليحولها لسيناريو فيلم سينمائي من إخراج اللامع وقتها أحمد راشدي.

يُعتبر راشدي أحد منتجي أهم الأفلام السياسية في أواخر الستينيات، وهو فيلم “زِد” (Z)، من إخراج الفرنسي اليوناني الأصل كوستا غافراس، وقد حصل الفيلم على أوسكار أحسن فيلم أجنبي. هكذا كانت اختيارات وطموحات حليم الذكية، لكنه مع الأسف رحل قبل أن يبدأ الفيلم.

هناك أمثلة كثيرة على إبداعات لم تر النور لظروف مختلفة، إما قدرية أو سياسية أو فنية، ومهما كان اختلاف الأسباب فإن النتيجة واحدة. لكن نتمنى أن لا تتكرر مأساة البيت الكبير .