“أخي أختي”.. عندما تكون العائلة بلسما لجراح العصر العميقة

د. أحمد القاسمي

قال الشاعر بشار بن برد:

أخوك الذي لا ينقض الدهر عهده      ولا عندَ صرفِ الدهرِ يزوَرُّ جانبُه

لكن العصر غير العصر، فالكثير منا بات يعتقد اليوم أن الروابط الدموية تمثل تصورا بدائيا للعلاقات البشرية، وأن المجتمعات المدنية فرضت روابط جديدة بين الناس كالشراكة أو الصداقة أو التضامن بين رفاق النضال، فهذه علاقات نختارها بإرادتنا، وتقوم على التلاقي في الاختيارات والمصالح، فلا تُفرض علينا فرضا، وتتعمق هذه النزعة أكثر في المجتمعات الغربية التي سارت أشواطا في طريق المدنية والعقلانية. لكن هل يكون هذا الاعتقاد صحيحا دائما؟

فيلم “أخي أختي” (My Brother, My Sister) الإيطالي (2021) من إخراج “روبرتو كابوتشي” يقدّم طرحا بديلا.

“انتهى عمر أبي.. هل نحن هنا للاحتفال بموته؟”

يستهل الفيلم بتأبين الأب جوليو كوستا أستاذ الفيزياء الفلكية وعاشق الموسيقى الكلاسيكية من قبل أفراد عائلته وطلبته. يبدو كل شيء منسجما كسمفونية وقورة، فتتالى الكلمات التي تركز على علمه وأخلاقه وذوقه الرفيع كما يجب أن يُذكر كل ميت بخير، غير أن الدخول المسرحي لابنه نيكولا إلى الكنيسة فجأة مرتديا ملابس رياضية وحاملا حقيبة ظهر؛ يمثل نشازا يفسد تناغم هذه المعزوفة، ليلقي بصلافة كلمة التأبين الغريبة. يقول ملمحا لتحول هذه المناسبة إلى نفاق اجتماعي وتقليد خال من كل بعد روحي “لقد انتهى عمر أبي.. هل نحن هنا للاحتفال بموته؟”.

 

ويضيف “أبي الزمان والمكان مفهومان لا وجود لهما في الكون”، مشيرا ضمنا إلى النظرية النسبية لآينشتاين، متسائلا بسخرية “هل حللت هذا اللغز أيها الأستاذ؟”، مؤكدا خطأ والده، فما نفعله يترك علامة وأثرا.

ورغم هذا التأبين العدائي والمبهم للأب، فإنه يلقى التصفيق والإعجاب من قبل الحاضرين الذين لا يفهمون مغزى كلامه، وهذه أمارة أخرى على سلوكهم المنافق. أما المتفرّج فسيُسعَف بفرصة ثانية في أواخر الفيلم ليحل لغز الكلام المعمّى حين يكتشف في مشاهد الفيلم الأخيرة ما خلّفه الأب من علامة وأثر، ومن جرح نازف في نفس ابنه بعد أن صُدم بأن والده يعاشر “جيادا” خطيبته.

عائلة مفككة تبحث عن توازنها المفقود

بعد موت الأم ينشأ الابن نيكولا والبنت تيزلا في ظل أب مثقف، لكن سلوك الأب جوليو كوستا غير المسؤول عصف بالعائلة، فترك الابن المغدور العائلة واختار حياة هامشية، وقضى وقته في ركوب الطائرات الشراعية في شواطئ أمريكا اللاتينية. أما شقيقته تيزلا فتعثرت في شعاب الحياة في غيابه، وتزوجت من رجل هجرها إلى أخرى، وترك لها طفلين هما سبستيانو المُصاب بذهان، وكارولينا التي تشتاق إلى والدها بشدة.

ولعلّ الأب شعر بفداحة ما أحدثه بحقّ عائلته فحاول أن يكفّر عن ذنبه، وأن يحقّق بموته ما لم ينجح في تحقيقه بحياته، وأن يجمع العائلة تحت سقف واحد، فأوصى بأن يتقاسم الأخوان المنزل العائلي بروما، وهذا ما يدفع بالصراع إلى أشدّه، ويجعل رغبة الأب رهانا محفوفا بالمخاطر.

يضعنا السيناريو ببراعة في قلب معضلة التعايش الأسري العسير، فتيزلا امرأة محافظة لم تغفر لأخيها نيكولا تخليه عنها وهروبه بعيدا، وهي التي تحتاجه بشدة من جهة، وتجهل دوافعه بعد أن أخفى عنها حقيقة علاقة والده بخطيبته جيادا من جهة ثانية. أما ابنها سبستيانو فبسبب مرضه وجد صعوبة في التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، وفي التفريق بين ما هو قائم في الواقِع وإدراكهم الخاص، فيعيش في عالم مواز، ويعيش مع كائنات متوهمة ويشعر برهاب الغرباء عن محيطه.

 

ومما يعمّق من الأزمة أنّ نيكولا ليبيرالي جعلته هامشيته وغيابه لعشرين سنة عن الأسرة يعود بأسلوب مختلف للحياة، ويفهم الحرية فهما متطرفا. ولا بدّ لتيزلا أن تسلّم بهذه الشراكة مرغمة، فهي لا تستطيع أن تغادر المنزل المشترك لعجزها عن دفع أجرة منزل جديد.

مواجهة الأسرة للواقع.. هل يُجدي الهروب نفعا؟

يجعل السيناريو شخصياته هشة نفسيا، ويضعها في المقابل أمام تحديات جسام تفوق قدرتها على الاحتمال، ويفرض عليها أن تواجه صلابة الواقع، ولا تجد من ملاذ غير الهروب إلى عالم مختلف، فنيكولا يصاب في مقتل عندما يكتشف حبيبته في فراش والده، فلا يجد من حلّ لمواجهة جرحه إلا بالهروب من روما لآلاف الكيلومترات.

أما الفتى سبستيانو فيواجه إهمال الأب باختراع عالم خيالي، ليعتقد أنه كائن فضائي، وأنه مسافر إلى المريخ، وخلق شخصية كيلفين المولود مثله على المريخ والذي ينتظره هناك ليحمل الموسيقى الكلاسيكية ويعرّف بها سكانه. ويذهب في ظنّه أنه يتواصل مع كائنات فضائية من جنسه عبر الإنترنت، وصادف أن قال خاله نيكولا في كلمة التأبين الغريبة إنه كائن مرّيخي، وهو يشير إلى رفضه سلّم قيم المجتمع المنافق، لكنّ الفتى أخذ كلمة خاله مأخذ الجد، وهذا ما خلق علاقة خاصة بينهما ومد جسور التواصل.

تهرب تيزلا من أنوثتها بعد أن دمّر تخلّي زوجها عنها ثقتها بنفسها، وتواجه ابنتها كارولينا تصلّب أمها تيزلا بالهروب من المنزل، وتساعدها في ذلك شاحنة التخييم التي ترثها عن جدها.

تيزلا تعلم نيكولا بأنها عرفت أخيرا سرّ هربه إلى أمريكا اللاتينية واحتفاظه بسره حتى لا يشوه صورة والدها في ذهنها

 

يهرب الجميع من مواجهة الواقع إذن، وكنعامٍ يردمون الرؤوس في التراب، لتتفكك الأسرة. لكن هل يجدي الهروب نفعا؟! فالمشاكل لا يمكن أن تحلّ إلا حين نواجهها بشجاعة، والعائلة ضمانة لبناء مجتمع متوازن.

هذه هي أطروحة الفيلم التي تجعله دعوة إلى القبول بها في كلّ حالتها ومحاولة إصلاح كسورها لأنها تبقى ملاذنا الأخير.

من الصدام إلى طي صفحة الماضي

من وجوه الإتقان في الفيلم أنّ الشخصيات كانت كالدمى يحركها لاعب ماهر، والطريف أن هذا اللاعب ليس إلا أستاذ الفيزياء الفلكية جوليو كوستا الملقى في قبره، فقد أشاع في حياته أنه سيترك المنزل لتيزلا، وأنه يحتفظ بمال لنيكولا، لكن ما ورد في الوصية مخالف تماما، ففضلا عن فرضه للاشتراك في ملكية المنزل؛ أوصى بأن يعيش الشقيقان معا لسنة كاملة، ولهما أن يقررا بعد ذلك ما يريانه صالحا.

بالفعل كانت هذه المدة كافية لردم التصدعات، فعناية نيكولا بسبستيانو ومشاركته له في حب الموسيقى الكلاسيكية خلق بينهما مساحة تواصل، وجعلت الطفل يخرج من عزلته شيئا فشيئا. وها هي تيزلا المنزعجة من صوت العزف الذي يوقظها من نومها تكتشف مشهدا بديعا، فقد كان الخال يعزف على البيانو، وكان سبستيانو يرافقه على الكونترباس في انسجام عجزت هي عن تحقيقه.

هكذا يحدث المنعرج في مسار الأحداث، وتتغير العلاقة بين الشقيقين من الصدام إلى التكامل، وإلى العمل على طي صفحة الماضي، وها هي تيزلا التي تخرج غاضبة من شقيقها بنية توبيخه لما يحدث من هرج وهو يلعب كرة السلة؛ تجد نفسها متورطة معه في منافسة من منافسات الماضي السعيد بينهما، ومنخرطة معه في لعب طفولي لا تستفيق منه إلا والجار يشتكي الجلبة، ويطلب منهما الكفّ عن الشغب لأنه يريد أن ينام.

حب الموسيقى الكلاسيكية خلق مساحة تواصل بين الخال تيكولا وسيبستيانو الذي يشاركه عزف الموسيقى الكلاسيكية

 

ينجح الأب في مسعاه، فيدرك الشقيقان أنّ الحلول للمشاكل المختلفة ستوجد حتما متى استمع كلاهما إلى الآخر في حوار هادئ، وأنّ الغفران كفيل بمعالجة كل الجراح، وأنه أجدى من الهروب وأكثر شجاعة.

لكن حالما تستعيد الأسرة تماسكها من جديد وتتخلّص من جراحها لتعيش معنى التضامن العائلي تحدث انتكاسة مفاجأة تغيّر مجرى الأحداث، فتغضب تيزلا من شقيقها بسبب إهماله لسبستيانو حينما أخذه معه إلى الشاطئ، وتقول له كلاما قاسيا، ويقرر نيكولا الرحيل من جديد.

ولأنّ الأب جوليو كوستا محرك دمى ماهر ولاعب فذّ؛ فقد استبق الأمر وتوقّع مثل هذا المآل، وترك المال الموعود عند حفيدته على ألا تسلمه له إلا بعد أن يحاول العيش مع شقيقته.

من وصية الأب إلى وصايا الحفيد

يموت الأب لكن حبه للموسيقى الكلاسيكية يظل شيئا من روحه التي تسري في العائلة. أليس هو القائل “إن الحياة من دون موسيقى مثل العائلة من دون حب”؟

يعزفها نيكولا بمهارة، وتمثل مهدئا لسبستيانو ينتزعه من ذُهانه يجعله يتغلّب عن التشنج، وتسهر إيما مدربته على علاجه بها، فيطلب منها أن يقدّم حفلة للعموم، ويشرع في التدرب على ذلك، ويتدرّج بشكل واضح نحو الشفاء. لكن وهو يدخل قاعة العرض يُواجَه بعاصفة من تصفيق الجمهور تربكه وتدفعه إلى الهرب من القاعة ليصطدم بسيارة ويؤخذ إلى المصحة وهو في غيبوبة.

سبستيانو يستيقظ من رقاده الثقيل بعد أن صدمته سيارة، ويطلب من أمه عدم التجهم والفرح لأجله، ويسأل كارولينا أن تبحث عن سعادتها، ويطلب من نيكولا عدم الهرب ثانية

 

هنا يتغير الفيلم من عرض الأحداث الواقعية إلى الأحداث العجيبة، فسبستيانو يستيقظ من رقاده الثقيل ويطلب من أمه عدم التجهم والفرح لأجله، ويسألها أن تبدأ حياة جديدة، ويسأل كارولينا أن تبحث عن سعادتها، ويطلب من نيكولا عدم الهرب ثانية، فمهما تكن العائلة غريبة وغير مثالية وهشة تظل عائلته في النهاية.

لم يكن الفيلم بذلك يغيّر رؤيته الجمالية، والفتى لم يستيقظ حقيقة ولم يذهب إلى الشاطئ رفقة عائلته كما توهمنا في المشاهد الأخيرة. لقد كانت المشاهد تحاكي ما يقع في الأذهان لا ما يجري في الحقيقة، وكانت روحه تسري وتقدّم وصاياها، وعلى الأصح فقد كانت العائلة تستخلص العبر من حياة الفتى ومن شخصيته الرّخوة، ومن مآل الهروب من مواجهة الحقيقة، فكأن وصاياه التي ترد في نهاية الفيلم ملحق يشرح وصايا جده التي جاءت في بدايته ولم يستوعبها أبناؤه جيدا.

جدار الصمت.. لا يكسره إلا الحوار

لعنوان الفيلم “أخي أختي” صلة بمحتواه، فهو يجسد مناداة تيزلا لنيكولا بكلمة “أخي”، وإجابته لها بكلمة “أختي”، وهذا ما يتضاد مع القطيعة التي وسمت العلاقة بين الشقيقين في القسم الأكبر من الفيلم، ويتوافق مع النهاية ذات المنحى الإنساني العميق.

لم يكن الفيلم مجرد حكاية تُعرض لشدّ المتفرج، فبالعودة إلى الواقع الإيطالي ننتهي إلى قيمة الأسرة في هذا المجتمع ونفهم مقاصد المخرج. فعلى خلاف مواطني شمال أوروبا التي يغادر شبانها السكن العائلي منذ بلوغ سن الرشد وإن كلفهم ذلك شظف العيش، يعيش الإيطاليون في ظلّ التماسك العائلي، ويجسّدون قيمة التضامن بين الأجيال المتعددة في العائلة الواحدة.

وتشير الإحصائيات إلى أنّ ثلث البالغين في إيطاليا يفضلون مواصلة العيش مع أهلهم، وأنّ أكثر من النصف لا يقيمون بعيدا عن عائلاتهم وإن حققوا استقلاليتهم، وكثيرا ما يسمى الحفيد على اسم جده وفاء له.

تيزلا التي تخرج غاضبة من شقيقها بنية توبيخه لما يحدث من هرج وهو يلعب كرة السلة؛ تجد نفسها متورطة معه في منافسة من منافسات الماضي السعيد بينهما

 

لكن الحياة المعاصرة ما فتئت تضع هذه القيم موضع تساؤل، فقد ظهرت أصوات تطالب بالتخلي عنها وتسخر من التبعية للأسرة، فاستحدثت عبارة (bamboccioni) وتعني الرضيع الكبير أو (mammoni) وتعني ابن أمه، وتفسِّر العبارتان ضمنا حياة الشبان في ظل العائلة بتبعيتهم لها وبعجزهم عن اتخاذ القرارات، وبعدم قدرتهم على تحقيق الاستقلالية.

الأطروحة البديلة التي يدافع عنها الفيلم هي قيمة العائلة المتحابّة في حياة المرء ودورها في بناء المجتمع رغم ما يرتكبه أفرادها من الأخطاء الفظيعة، فحتى تستمر هذه المؤسسة في بناء المجتمع المتضامن والمتوازن لا بد من الحبّ بين أفراد الأسرة الواحدة، ومن احترام حقوق بعضهم البعض، وإن حدثت زلة فلا مناص من الحوار ومن التجاوز والغفران.=

 من كان منكم بلا خطيَّة فليرمها أولا بحجر

رغم أنّ الفيلم لم يتناول الحياة الدينية لشخصياته، فإنه بدا مغرقا في الخلفية المسيحية التي تدعو إلى التسامح وتجاوز أخطاء الآخرين في حقنا، حتى كأنه غدا صياغة معاصرة لما ورد في الإنجيل بشأن موقف المسيح من المرأة التي ارتكبت المعصية وهمّ أهلها برجمها “وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: “مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ”.

وجعل العائلة محورها، فبدون التسامح لا يمكن للحياة أن تستمر، ولا يمكن للسلام الداخلي أن يغمر الأرواح، فكان رسالة مناهضة للنزعة المادية التي باتت تحكمنا، وتغذيها المناويل الاقتصادية والسياسية المعاصرة، لكنه لم يبق أسير رؤية ضيّقة، فالسرد جعل رسالته كونية شاملة تصوغ سينمائيا قول بشار منذ أكثر من 12 قرنا:

فخذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه      ولا تك في كل الأمور تجانبه