“أرض الرحّالة”.. رحلة البحث في الصحراء عن الخلاص

عبد الكريم قادري

بعد أن فقدت زوجها ووظيفتها وبيتها، قرّرت “فيرن” أن تقضي بقية حياتها في العزلة والتنقل من مكان لآخر، وذلك على متن شاحنتها المتداعية التي تشق بها الطرقات المستقيمة والمتعرجة، وتكتشف بها المدن الصحراوية المكسوة بالثلوج، علّها تجد السكينة والسلام في تلك الفضاءات الممتدة. فما هو الدافع الذي حوّلها إلى امرأة رحّالة بعد الستين من عمرها، وهل ستعثر على ما كانت تبحث عنه؟

عادة ما تكتسب الأفلام الجيدة سينمائيتها وفنيتها من المعالجة التي تعكسها أدوات المخرج ومرجعيته وموهبته في زرع الرؤى الفلسفية والتكثيف البصري، مع ضبط زوايا العمل بشكل ذكي وخلّاق لا يحسّ المشاهد عن طريقها بالتلقين أو التعليم والتذاكي، وهو المنطلق الذي استحوذت عليه المخرجة وكاتبة السيناريو الصينية “كلو تشاو” في الفيلم الأمريكي “أرض الرحالة” (Nomadland) الذي أنتج عام 2020، معتمدة على منطلق السببية، وقد ذهبت فيه إلى موضوع الكساد الاقتصادي الذي أثّر بشكل كبير على ملايين الأمريكيين، بعد أن قلب حياتهم رأسا على عقب.

وبالتالي فقد لعبت المخرجة في هذا الفيلم على خطّين متوازيين، وهما الأزمة الاقتصادية والأزمة النفسية، بحكم أن الأولى ولّدت الثانية، وفرضا لو اعتمدت المخرجة على معالجة المشكلة الاقتصادية بطريقة مباشرة لكان فيلمها سيتحول إلى تقرير تلفزيوني لا يثير سوى المشاهد الآني الذي يتلقف المعلومة وينصرف، لكنها ذهبت أعمق من ذلك، أي في اتجاه بلورة الفكرة الفلسفية الملتحفة بالأبعاد النفسية ودمجها في المشكلة الاقتصادية، وجعلها كإفرازات أزمة تؤثر بشكل أساسي على المتضرر الأساسي، وهو العامل والموظف والطبقة الوسطى وغيرها، وبشكل ثانوي على الأجيال الأخرى، بحكم أن التصرفات ستنعكس على الأطفال والأحفاد والأجيال بشكل عام، ليصبح الضرر متجددا ولا ينقطع ولا يرتبط بمحيط جغرافي أو زمني، وبالتالي تكون المخرجة فتّت المشكلة على أبعاد مختلفة في الفيلم، مع إظهار الشق الاقتصادي كمسبب للبعد النفسي.

 

عزلة ما بعد إغلاق المصنع.. بداية الحكاية

أحيانا يعيش المرء عمرا لا يستقر فيه على خلاص نفسي يجعله يشعر بالرضا والسلام، وقد يكتشف هذا الخواء الروحي عندما يمر بنكسة كبرى، أو منعرج حياتي عميق ينبهه إلى ما هو فيه، وهذا هو حال “فيرن” (الممثلة “فرانسيس مكدورماند”) بطلة فيلم “أرض الرحالة”، وهي المرأة التي تفطّنت بأن حياتها على وشك أن تنتهي ولم تعش أو تصل إلى حالة السلام، أو مرت بحالة خلاص ظرفية انتهت بمجرد أن صفعها الواقع وجعلها تستفيق من حالة النوم الجميل الذي كانت فيه.

وهذا بعد أن أغلقت مصانع الجص الأمريكية في نيفادا يوم 31 يناير/كانون الثاني 2011، أي بعد 88 سنة من النشاط والعمل المتواصل، وقد جاء قرار الإغلاق هذا نظرا للانخفاض الهائل في الطلبات على الألواح الجصية بسبب الكساد الاقتصادي الكبير، وقد جاءت مقدمة المعلومات هذه في بداية الفيلم، لتأخذ بيد المشاهد في سياق التلقي الصحيح، كما وظّفتها المخرجة “كلو تشاو” كمعطيات مكتوبة لتتجنب أفلمتها وقتل معناها بصريا، وتركت للمتلقي سبل التأويل وتخيل أجواء العمل الذي ينعكس في الغبار المتصاعد من المصنع وصوت فوضاه الكبيرة.

كانت “فيرن” تعيش في سكن وظيفي في هذا المصنع مع زوجها الذي يعمل فيه، لكنها مع إغلاق المصنع وموت زوجها؛ وجدت نفسها بلا وظيفة ولا بيت ولا مدينة ولا قرية، لهذا اشترت شاحنة وجعلتها بيتها المتنقل، وهي من الأحداث الحياتية التي أجبرتها مبدئيا على حياة العزلة والترحال.

كان لدى “فيرن” خيار أن تعيش مع أختها، لكنها اختارت الحياة التي ستجد فيها الخلاص الحقيقي الذي كانت تبحث عنه، بعد أن حاصرتها الأسئلة الوجودية التي شحنتها العزلة والوحدة والفقد والموت، لهذا انطلقت من فضاء لفضاء ومن مدينة لمدينة ومن عمل لعمل، أي أنها بدأت تكتشف في حياتها الجديدة أشخاصا يوازونها حسرة وألما، ولديهم نفس الأزمة والجراح تقريبا، لهذا تضامنوا فيما بينهم لأنهم شربوا من منبع الألم الواحد، ويجمعهم شعور البحث عن خلاص في “أرض الرحّالة”.

الممثلة “فرانسيس مكدورماند” التي سبق وأن حصلت على أوسكار أحسن ممثلة عن دورها في فيلم “فارغو”

 

فضاءات الصحراء.. فلسفة عزلة القائد الروحي

وظّفت المخرجة “كلو تشاو” الصحراء الواسعة التي يتجمع فيها المئات من أصحاب “الكرافانات” مثل “فيرن” كمعادل موضوعي للفسحة والصفاء ونقاء الروح، وهذا ما جعل هؤلاء يلتفون حول القائد الروحي الذي يشبه من خلال شكله أحد القديسين في هذا المخيم الطبيعي، يدعوهم إلى البحث عن السلام الداخلي، وتخطي الألم وتجاوز الصعاب، والاستماع إلى صوت الإنسان الداخلي، والتعامل مع الروح بشكل مختلف، والترحم على الأصدقاء الذين ماتوا.

اعتقدت “فيرن” مثل غيرها بأن هذا الداعية الروحي يبحث فقط عن السلام الداخلي، لكن في لحظة صفاء بينهما اكتشفت بأنه فقد هو الآخر ابنا بعد أن انتحر، لهذا فهو يشعر بأن الدنيا لم تعد تسعه، وقرر خدمة الآخرين ليرضى بطريقته الخاصة، وهذا حال الجميع، امرأة تواجه الموت بعد أن مرضت بالسرطان، وأخرى حاولت الانتحار لكنها نجت ولم تستطع، ورجل يبحث عن العزلة، ومراهق سئم حياة المدن وضجيجها.

التف الجميع حول نار ليلية مزدهرة يسردون حولها أوجاعهم وقصصهم، خاصة وأن أجواء الصحراء التي لم تتلطخ بالحضارة والرأسمالية المتوحشة وعجلة الاقتصاد التي تدور حول جهد الفرد، لهذا يكون دائما المتضرر من العملية الإنتاجية الكبرى هو العامل البسيط الذي يستغلونه كحصان طوال حياته، وعندما يكبر ويتعب يرمونه إلى الحقل حتى يواجه مصيره المنتظر كما قال الداعية الروحي.

لهذا تعلّقت “فيرن” بهذه الأجواء الروحية التي لامست شغاف قلبها إلى حد بعيد، وأعطت من خلاله المخرجة مفهوما مختلفا لفلسفة العزلة وطقوسها، حيث أن “فيرن” تبحث عن العزلة لتؤنس حياتها، وقد وظفت المخرجة تعلق “فيرن” بالصخر وتنوعه واختلافه، وهذا ربط واضح يأخذ المشاهد إلى التكوين الذي تلقته من خلال عملها في المصنع، كما أن الحياة التي عاشتها ارتبطت فيها بشكل كلي تقريبا بعالم الصخور، لهذا لا تريد أن تبتعد عنها.

بطلة فيلم “أرض الرحالة” الممثلة “فرانسيس مكدورماند” تمشي حزينة خلال غروب الشمس الذي يرمز للوداع

 

ارتباط المعنوي بالمادي.. لغة سينمائية تخلق نفسها

خلقت المخرجة في فيلمها عددا من المقارنات الضدّية التي أوصلتها إلى لغة سينمائية رزينة وقوية، مثل الجماليات البصرية التي ولّدها التنوع في المشاهد والفضاءات، كالثلوج وإحساس البرد، والصحراء وإحساس الحرارة، ومن الفراغ الساكن إلى الاكتظاظ الفوضوي، كما استثمرت المخرجة في الصحراء وتنوعها وغناها بالمناظر الطبيعية المختلفة مثل الجبال الصخرية وتجاويفها والصبار والرمال والامتداد.

ولم تكتفِ المخرجة بهذه المشاهدات البصرية التقليدية، بل ذهبت إلى خلق لغة سينمائية فجّرتها عن طريق ربط ما هو معنوي بما هو حسي مادي، فمن ذلك مثلا مشهد وقوف “فيرن” حزينة تودّع صديقتها الجديدة في الصحراء، وقد ربطت المخرجة هذه اللحظة الحاسمة بغروب الشمس التي ترمز هي الأخرى إلى الوداع والفراق.

وهناك عدد من المشاهد الأخرى التي تنحو هذا النحو، وهي المعطيات التي تقدّم الجرعة الفنية للفيلم، وتظهر موهبة المخرجة ومرجعيتها السينمائية القوية.

المخرجة الصينية “كلو تشاو” توجه الممثلة “فرانسيس مكدورماند” التي أدت شخصية المرأة الوحيدة الخائفة من الحاضر والمستقبل

 

“فرانسيس مكدورماند”.. حاملة الأوسكار المتماهية مع دورها

أدّت الممثلة “فرانسيس مكدورماند” في هذا الفيلم شخصية المرأة الوحيدة والحزينة الخائفة من الحاضر والمستقبل، المرأة التي فقدت كل شيء وتبحث من جديد عن موطئ قدم لها في هذا العالم، وقد تماهت مع هذا الدور لدرجة أن لم يعد هناك فارق بين الحقيقية والتمثيل، إذ استطاعت أن تعكس كل تلك العواطف المذكورة في قسمات وجهها وفي نظراتها وتصرفاتها، أي أنها تحملت مسؤولية كبيرة في أن تكون هي “فيرن” الحقيقية وليست الممثلة “فرانسيس”.

ويعود هذا بدرجة أولى إلى المخرجة “كلو تشاو” وحسن إدارتها للممثلة، وبدرجة ثانية أو متساوية إلى الخبرة الكبيرة التي تمتلكها “فرانيسس مكدورماند” التي سبق لها وأن حصدت عدة جوائز عالمية مهمة عن مختلف أدوارها السينمائية، أهمها أوسكار أحسن ممثلة عن دورها في فيلم “فارغو” (Fargo) عام 1996 الذي أخرجه “جويل كوين”، إضافة إلى جوائز وترشيحات أخرى مهمة.

فيلم “أرض الرحالة” للمخرجة “كلو تشاو” هو من أهم الأفلام التي صدرت في 2020، وقد شارك في المهرجانات وحصد عدة جوائز عالمية، من بينها حصوله على جائزة “غوثام” للأفلام المستقلة كأحسن ممثلة وأحسن فيلم، وجائزة السينما المستقلة لأحسن فيلم أجنبي ببريطانيا سنة 2021، وجائزة كأس فولبي لأحسن ممثلة وأحسن فيلم، كما حصد جائزة الأسد الذهبي من مهرجان البندقية السينمائي.