“أرواحنا الطفولية”.. عودة الكبار إلى الطفولة لاكتشاف ذواتهم الشاردة

تُعرف الصناعة السينمائية الأمريكية بكونها الأكثر تأثيرا في السينما العالمية على مستوى التقنيات والتسويق والتأثير، وتُختزل في العُرف بالسينما الهوليودية، وتمثل منظومة إنتاج متكاملة، لكن ليس جميع المخرجين يخضعون لهذه المنظومة، فقد شهدت السينما الأمريكية على مدار تاريخها سينمائيين متمردين يضيقون باختياراتها وأنماط الإنتاج فيها، ويحاولون الخروج عن معهود أفلامها الأمريكية لابتكار أسلوب فريد في السرد، ولعل أشهرهم “أورسن ويلز” مخرج رائعة “المواطن كين” (Citizen Kane) التي تعتبر الفيلم الأفضل في تاريخ السينما.

أما أفلام “مايك ميلز” فتضيق ذرعا بهذه السينما، وتحاول أن تبحث عن أسلوبها الخاص منها، خاصة فيلم “هيّا هيّا” (C’mon C’mon) الذي أنتج عام 2021.

لقاء الخال وابن أخته.. فرصة للإبحار في عالم الطفولة مرة أخرى

فيلم “هيّا هيّا” (C’mon C’mon) أو “أرواحنا الطفولية” وفق النسخة الفرنسية (Nos âmes d’enfants) هو روائي بالأسود والأبيض للمخرج “مايك ميلز” من إنتاج عام 2021.

يعرض الفيلم قصة “جيسي” الطفل ذي الـ10 سنوات الذي يعيش في ظل أمه المنفصلة عن زوجها “بول”، إذ تضطر إلى تركه لتزور والده في أوكلاند، فقد كان يعاني من حالة اكتئاب عميقة خلفت له هشاشة نفسية، وكان لا بد لها أن تطلب من خاله “جوني” أن يرافقه وهو إذاعي أعزب في الأربعينيات من عمره من نيويورك، ويؤدي دوره الممثل “خواكين فينيكس”.

لم تكن الصلة بين “جوني” وشقيقته على ما يرام، لجفوة حدثت بينهما أثناء مرض والدتهما، ففرقت بينهما منذ سنة خلت، ولم يكن مرض الأب وزيارة الزوجة إلا حيلة من الكاتب والمخرج “مايك ميلز” ليجمع بين الخال وابن الأخت في رحلة تأخذهما إلى مختلف الولايات الأمريكية، يحاول خلالها الصحفي أن يتعرّف إلى أحلام الأطفال ومخاوفهم ومواقفهم من عالم الكبار، فتكون الرحلة فرصة لـ”جوني” ليعايش عالم الطفولة عن كثب، ويكتشفها من جديد، ويكتشف نفسه من خلالها.

أمريكا المأساة.. تقييم الأطفال السلبي لعالم الكبار

لم يصدر الفيلم عن سيناريو نمطي شبيه بتلك السيناريوهات التي عهدناها في السينما الأمريكية، ولم تتوزع فصوله بين بداية تعرض أطراف الحكاية، ووسط تتصاعد أحداثه لتصل إلى ذروة العقدة، ثم ينحل الصراع وينتهي الفيلم إلى نتيجة ما، ذلك أن “مايك ميلز” جعل قصته تتقدم على محورين متوازيين، الأول حين يسأل “جوني” الأطفال في البرنامج الإذاعي عن تصوراتهم للمستقبل وعن علاقتهم بذواتهم وعائلاتهم أو بمحيطهم أو بذواتهم.

تُحاكي المعالجة هنا أسلوب الأعمال الوثائقية، فتعرض تقييم الأطفال السلبي لعالم الكبار، فأمريكا بالنسبة إليهم مأساة كبيرة أساسها التمييز على أساس العرق أو الدين أو الحالة الاجتماعية، كما أن المدرسة لا تؤدي دورها في التوعية بضرورة القبول بالاختلاف، وكل العلامات تعمّق إحباطهم، لأن ما يجب أن يتغير كثير، لكن لا شيء يضمن أنه سيتغير سريعا.

إعادة اكتشاف القيم والثوابت.. رحلة الصحفي اليتيم

تشغل قصة “جوني” مع أخته وابنها المحور الثاني، وفيها يتمكن الشقيقان من استعادة روابطهما العائلية بعد فراق، ولا نكاد نجد أحداثا متصاعدة، وإنما تقوم على المحاورات التي تنقلب فيها المعادلة مقارنة بالبرنامج الإذاعي، فلا يكف الخال يجيب عن أسئلة ابن أخته بعد أن كان يسأل الأطفال في المحور الأول. المفارقة هنا أنّ الطفل لم يكن يسأل ليعرف، بقدر ما كان يدفع خاله ليعيد التفكير في ثوابت حياته، وفي طبيعة علاقته بأخته، وسبب عدم زواجه ومعاييره للتمييز بين التصرف “الطبيعي” و”غير الطبيعي”.

لم يكن “جوني” يجيب بقدر ما يعيد التفكير في ما يعتبره من ثوابت حياته، وبقدر ما يضع حياته موضع تساؤل ويغير من تصوراته حول علاقته بذاته، وحول العائلة وحول الآخر، ليخترق كم الجهل الذي كان يحيط به.

كثيرا ما كانت الأسئلة تربك “جوني”، وتكشف عسر تعبير الكبار عن أنفسهم. وليس المشهد الذي يتخيله “جيسي” وشخصية اليتيم التي يتقمصها وهو يزور امرأة (أمه الحقيقية) تستضيف عددا من الأطفال الموتى، فيسألها عن كيفية موتها ليفعل ما فعلوه، أو يسألها أن تسمح له بأن ينام في سرير ابنها الميت؛ إلاّ تعبيرا عن شعوره باليتم بسبب انفصاله عن والده، وعدم قدرة أمه على فهمه.

يضمّن “مايك ميلز” موقفه من عالم الأطفال انطلاقا من هذا البناء الطريف، وهذا الأسلوب الفريد في صياغة السيناريو، ويجعل رحلة “جوني” وابن أخته وما يعيشانه من مواقف، وما يلاحظه من ردود فعل ابن أخته التلقائية؛ سبيلا لاكتشاف القيم الإنسانية، مثل قيم الأسرة وحق الطفل وشروط تنشئته.

وعلى بساطة الأحداث ننخرط في تفاصليها، ومنها نغوص في أعماقنا ونضع أنفسنا موضع التساؤل.

“جيسي”.. قوة الأداء التمثيلي وهشاشة الكتابة

تبدو العلاقات بين الكهول والأطفال ودية للغاية وبسيطة، لكن حالما نغوص في الطبقة العميقة من الفيلم نكتشف الهوة بين عالم الجيلين. ورغم عسر الدور المركب الذي يؤديه الممثل الطفل “وودي نورمان” ببراعة، فقد بدا متشبعا بالشخصية ومدركا لعمقها النفسي، ويؤدي مواقفها بتلقائية ومرونة منقطعتي النظير، حتى كأن ما يجري أمامنا عين الحقيقة، مما يدفعنا إلى الاندماج فيه.

صورة تجمع الطفل “جيسي” بخاله الصحفي “جوني” الذي تعرف على عالم الطفولة عن كثب من خلال ابن أخته

ورغم وجود الطفل في مركز الحكاية، فلا يمكن أن ننسب الفيلم إلى سينما الطفولة، فالمخرج يستهدف الكهول لينقد تصوراتهم ويعرض وجوه الانحراف فيها، وعبر براءة “جيسي” يدفعهم إلى البحث عن روح الأطفال التي تسري فيهم حتى يستعيدوا نقاءهم في محيط متوازن، بعيدا عن الضغائن والأحقاد.

هنا تكمن المفارقة، فنقطة قوة الفيلم هي نقطة ضعفه أيضا، فالسيناريو جاء متكلفا كثيرا، مما يتعسّف على الطفل ويجعله يصور الوجود من منظور كهل خبير بالأمور، بما يتجاوز إدراك الأطفال وتجاربهم في الحياة، وكثيرا ما ينطق بما يريد الكاتب والمخرج “مايك ميلز” قوله، لا بما تستدعيه الوضعية الدرامية.

“جوني”.. بحث عن دفء أسري في عالم متوحش

يمثل الفيلم انتصارا واضحا للطفولة، ودعوة إلى الاعتناء بالأطفال وجعلهم في مقدمة اهتمامات الكبار لحمايتهم من عالمنا العدواني. وفي لعبة اليتم التي يلجأ إليها “جيسي” إدانة بالتقصير في حقّهم، وكأن الكهول قد استسلموا لطاحونة الشيء المعتاد وقبلوا التنازل عن إنسانيتهم بفعل الحقد والأنانية.

لا يطلب منا المخرج بذلا بلا مقابل، فاقترابنا من عالمهم كفيل بأن يقدّم لنا الدروس العميقة ويجدد قيمنا، فتخوّل صحبة “جيسي” لنحو عشرة أيام للخال “جوني” أن يدرك عمق الهوة العاطفية والنفسية والأخلاقية التي أوقعته فيها الحياة المعاصرة، وتجعله يبحث عن تدارك الزمن الضائع في علاقته بأخته “فيف”، فيبحث عن الدفء الأسري في عالم متوحش، ولا يُستثنى المتفرّج من هذا الدرس، فلا شك أننا جميعنا ضحايا للحياة المعاصرة بكل تعقيداتها، ولا شك أنها تفقدنا إحساسنا ببساطة الوجود.

ولا يخلو الفيلم من مؤثرات ذاتية لحياة كاتبه ومخرجه، إذ يصرح “مايك ميلز” في أكثر من لقاء بأنه استلهم قصة الفيلم من تجربته الخاصة، من وحدته في بيته الأسري بكاليفورنيا حين كان طفلا، فقد فُرضت عليه العزلة، لأن أخته كانت تفوقه بعشر سنوات.

الأخوان جوني وفيف تجمعا مرة أخرى بفضل روح الطفل جيسي الذي جمعهما

أما الحوار مع بقية العائلة فكان يصطدم بالزوايا الميتة التي يُحظر عليه الاقتراب منها، ولم يجد بدا من الاستسلام للتلفاز والتهام الحلويات، أي من الصورة النمطية للطفولة المهملة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم المعاصر بأسره.

نزهة الأدغال.. ملامح الفطرة التي أفسدتها الحضارة

لا تقتصر مظاهر التميّز والخروج عن معهود السينما الأمريكية على بناء السيناريو، فطريقة “ميلز” في التصوير لا تخلو من البحث عن الأسلوب الفريد، فقد كان ينوّع زوايا التقاط المشهد، وكان يعتمد الصورة المركبة، فيجعل الشخصية في الواجهة من اللقطة المقربة التي تعرض تفاصيل ملامحها، وتجعل تفاصيل الفضاء في الخلفية بحثا عن فرجة مزدوجة الأثر، فتكون في مستواها الأول انفعالية تدفعنا إلى أن نُعجب بشخصية الطفل المميزة، وإلى أن نتعاطف باستمرار مع الأطفال، وإلى إدانة العالم العدائي الذي يحاصرهم.

كما تحوّل تعاطفنا في المستوى الثاني إلى تأمل، فتحثنا على التفكير في عيوب الحياة المعاصرة المفرغة من المشاعر والقيم، رغم ما تحقّق من وفرة اقتصادية في الولايات المتحدة والعالم الغربي على الأقل، وتعرض الصورةُ الشوارعَ في الخلفية، حيث تكون الأبنية عملاقة وناطحات سحاب أو جسور، لكنها مفرغة من النبض الإنساني، فتختزل صورة الولايات المتحدة التي تجمع بين عظمة الاقتصاد وهشاشة الروح.

في القسم الأخير من الفيلم يأخذ الخال ابن أخته إلى المنتزه الخالي إلا منهما، فيتحول هذا الفضاء إلى أدغال عملاقة متشابكة الأغصان، وهناك تتحرر الشخصيتان من وطأة الواقع ومن رقابة الآخر، وتتحول الجولة إلى عبث وصياح مجنون ومرح طفولي تلقائي، وإذا بالأدغال تتحوّل إلى ما يشبه التشكيل البصري الذي يرمز لعمقنا الإنساني المجهول والمعقّد، وإلى فطرتنا التي أفسدتها الحضارة، وإلى حريتنا التي سلبتها منا الحداثة.

موجة السينما المستقلة.. انتصار الفن على شباك التذاكر

لا نفهم الفيلم فهما عميقا ما لم ننزله في سياقه الجمالي والحضاري، ويقتضي الأمر أن نذكّر ببعض الحقائق، فالسينما الهوليودية عامة هي سينما القص المشوق الذي يجعل همّه الأول استثماريا، فيُقاس نجاح الأفلام بمعدلات إيراداتها، وفيها تستند الصورة إلى المؤثرات الخاصة، وتوظّف لخدمة الحكاية أساسا.

لكن هذا الاتجاه المهيمن لا ينفي وجود تصور مختلف يعتبر أنّ السينما فن التعبير عن الرؤى والمواقف بصورة مبتكرة أكثر من تمريرها عبر القصة وأحداثها، فلا تعوّل على التقنية وخداع المؤثرات، وإنما على عمق خيال المخرج.

غالبا ما يشار إلى هذا التيار باسم السينما المستقلة، ويحيط بمفهوم الاستقلال كثير من الالتباس، لكنه عامة يفيد السينما التي تقاوم النزعة التجارية لصالح الفن، وتنتج خارج منظومة الأستوديوهات الرئيسية وبموارد محدودة، وهذا شأن سينما “مايك ميلز”، فهي تبحث عن العمق التعبيري لأفلامها، وتنتجها ضمن مؤسسة “أ 24” (A24) للإنتاج السينمائي وتوزيعه، أي خارج المنظومة المهيمنة، وتصنّف نقديا اليوم ضمن اتجاه يُشار إليه بالموجة الجديدة للسينما الأمريكية المستقلة، ويُدرج اسمه مع فنانين آخرين من أمثال “نوح بومباش” و”غريتا غيرويغ”.

حنين الشاشة الفضية.. سينما فقدت بريق ألوانها

يعكس الفيلم سينما “مايك ميلز” المختلفة التي تحاول فرض معايير جديدة تنتصر للفن والإنسان أكثر مما تبحث عن الإبهار. لكن يبقى السؤال لماذا اعتمد الصورة بالأبيض والأسود؟ هل هو الحنين إلى زمن الشاشة الفضية، أم هو السير على خطى النمساوي “ميخائيل هانيك” في فيلم “الشريط الأبيض” (The White Ribbon)، أو على خطى الكوري “لي جون إك” في فيلم “مخطوطة السمك” (The Book of Fish)، أي على خطى عمالقة أعادوا للسينما فتنتها وجعلوا من الصراع بين الأبيض والأسود صراعا بين الجانب المضيء من الإنسان والجانب القاتم منه.

لا شك أن الفيلم ظل يُراكم الإدانة لعالم الكهول ويربطه بفتور النبض الإنساني، كما ظل يحنّ إلى الطفولة ويجعلها توحي بالبراءة والطهر، مما يبرر هذا الاختيار. لكن لا شك أن فكرة الاعتماد على الأسود والأبيض للتعبير عن هذه الأفكار بات أمرا معهودا، كما أنه فقد فتنته وبريقه.