أزمة الكوميديا في الدراما التونسية.. أباطرة المال يفسدون الذوق العام


 

أحمد القاسمي

يعيش المشهد التمثيلي التونسي مفارقة محيّرة، فالسينما التونسية تعيش فترة ازدهار على الأقل على مستوى وفرة الإنتاج وتنويع التجارب والأنماط السينمائية، أما المشهد المسرحي فكثيرا ما مَثل نقطة مضيئة في الثقافة التونسية، وبالمقابل غدا هذا المشهد يشكو من ضعف كبير كلما ولى وجهته شطر التلفزيون، وكلما طرق باب الكوميديا بشكل خاص، رغم مكانتها الفضلى ضمن أولويات المشاهد التونسي خلال شهر رمضان.

يشمل هذا الانحدار المعالجة الفنية والقضايا المطروحة على حد سواء، وبالنظر إلى استمرارية هذا الانحدار وتعمقه من سنة إلى أخرى حاولنا أن نورد نموذجين من الأعمال المعروضة، وأن نستجلي قراءة مختصي النقد في علم النفس وعلم الاجتماع والكتابة الكوميدية، وأن نربط ذلك بفضاءات الإنتاج الخاصة والقنوات التجارية ورهاناتها البعيدة عن التثقيف ونشر الوعي.

 

“دنيا أخرى”.. فخ النكت السوقية

مسلسل “دنيا أخرى” هو مسلسل هزلي ينتمي إلى كوميديا الموقف أو السيتكوم، ويعرض يوميات شبان من حي شعبي، فيعمل على الإضحاك عبر طبيعة حضور شخصياته في الفضاء، إذ غالبا ما تكون الشخصية مواطنا شعبيا فظا همجيا لا تتناسب حركاته وأقواله الفظة مع المكان الذي يكون إدارة رسمية أو مطعما فاخرا، أو مع الوضعية التي تتمثل في موقف جاد لا يحتمل المزاح.

يتخلل هذا البناء النمطي الكثير من النشاز في طبيعة الملابس والحركات، كأن تكون تصرفات الشخصيات صبيانية لا تناسب أعمارها، أو أنْ تتكلف اللغة الفرنسية كعلامة للثراء والرقي الاجتماعي فتوردها غير متقنة.

وفي هذا يرى محمد الصالح مجيد الإعلامي والناقد ومدير مركز الرواية العربية بقابس أنْ “ليس يوجد ما هو أصعب من كتابة النص الساخر، ولا ما هو أصعب من إضحاك الجمهور، ولكن يبدو أن رهطا من الجيل الجديد استسهل الكتابة واعتقد أن مجموعة من النكت السوقية يمكن أن تشد الجمهور دون أن يحكمها خيط ناظم أو رؤية للعالم أو فكرة يراد تبليغها، والنكتة إذا صدرت عن ساذج قد تضحك في البداية، لكن سرعان ما تفقد حرارتها وقدرتها على الإثارة إذا حصر صاحبها نفسه في صورة نمطية”.

ويضيف قائلا: المرأة التي تنطق اللغة الفرنسية بطريقة غير سليمة يمكن أن تحقق الإضحاك لكن مثل هذا الموقف سرعان ما تذبل طاقته التأثيرية وتضمحل، ونحن نعاني في تونس من أزمة كتابة السيناريو، ولا نجد في تونس كاتب سيناريو متمرسا ومختصا، ويزداد الأمر قتامة كلما تعلق الأمر بالنص الهزلي الساخر، وإن كانت الساحة الفنية لا تفتقر إلى مضحكين يعولون على أجسادهم وألسنتهم للفت الانتباه، فإن غياب النص الهزلي الساخر وسيناريو الفيلم الكوميدي مسألة لا يمكن إنكارها في تونس.

الممثلان كريم الغربي وبسام الحمراوي بدور الأشخاص ذوي الإعاقة، حيث لاقى المشهد استنكارا في الشارع التونسي

 

ذوو الاحتياجات الخاصة.. انتهاك صارخ للكرامة الآدمية

الأخطر في هذه السلسلة الهزلية “دنيا أخرى” إطلاق العنان للسخرية من كل القيم، فالمرأة في تصوره سهلة يمكن الوصول إليها عبر المال، والفقير عبد لحاجته المادية يرمي بكل قيمه خلف ظهره حالما يبرق الدينار أمامه، وطالت سخريته أصحاب الاحتياجات الخاصة، فقد عمد الممثلان الرئيسيان في هذه السلسلة إلى محاكاة حركاتهم وملامحهم بطريقة فظة، وصوّرا إعاقتهم باعتبارها لعنة إلهية.

وفق نصّ بيان للمنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فقد عبّرت فيه عن استنكارها لما عرض على قناة الحوار التونسي من “خرق للقوانين المنظمة لحرّية الإعلام وللأخلاقيات المهنية، ومن انتهاك لحقوق الإنسان، ومس من الكرامة الإنسانية الكامنة والمتأصلة”، وهو ما عد فضيحة أخلاقية أثارت موجة عارمة من الاستياء.

 

“الحجر الصحي”.. استغباء عقل المشاهد

مدار مسلسل “الحجر الصحي” على أحداث مختلفة تعيشها عائلة تونسية تعاني التوتر بسبب الحجر الصحي، ويتسلل متشرد إلى المنزل بُغية السرقة، فإذا به يعقد علاقة صداقة مع الطفل المكتئب ويصبح صديقه المسلي، فيتعلم منه أكثر مما يتعلّم من والديه.

أهم ما يتسم به هذا العمل الحبكة المصطنعة والربط المفتعل بين الأحداث، والتراخي الكبير في تجاوز العقد التي ينشئها النص، كأن نمرّ من الواقع إلى الحلم مرورا يخلق لبسا في أذهان الشخصيات، فالسارق يُعلم أهل المنزل بأنهم يحلمون ويسلّمون بذلك بكل بساطة، ويتصرفون عندئذ كالمنومين مغناطيسيا، فيتواطؤون معه ويشحنون بأنفسهم أثاث المنزل ليأخذه هذا السارق، أو كأن يمثل الأبوان مشاهد مسرحية ظاهرها محاولة لإخراج الطفل من حالة الاكتئاب، وباطنها تمطيط النص وحشوه بما اتفق ليغطي مساحة زمنية معينة.

كما يعرض جملة من المقالب الموازية لريفيين أحدهما شديد الغباء وثانيهما فطن، والمفارقة هنا أنّ الغبي يدبر أعقد المقالب، أما الفطن فيقع دائما ضحية لها، فيفيد المؤلف من فن التهريج الذي يقوم في بنيته النمطية على المهرج “أغوست” الطيب الساذج والمهرج الأبيض الماكر الذي ينسج أعقد المكائد لـ “أوغست” ولكن يسقط هو ضحيتها.

الحاصل أن هذا العمل كان “تلفيقية” بلا رؤية أو عمق أو رسالة، حكاياتها مصطنعة وصورتها مسطحة لا تحترم ذكاء المشاهد، وهذا طبيعي فقد أعد على عجل، فالفترة الفاصلة بين إعلان الحجر الصحي في تونس وبث الحلقة الأولى دامت شهرا بالضبط، وهي فترة كافية عند فريق الإنتاج لابتكار الفكرة واختمارها ومناقشتها وكتابة السيناريو وتنفيذه بكل ما في ذلك من مراحل وتعقيدات.

 

صورة الريفي القادم للمدينة.. كوميديا الإضحاك الوحشي

تجبرنا هذه الأعمال على التطرق لمصدر الإضحاك في هذه الأعمال، فقد غدت فلسفة الجماليات تصنف المضحك ضمن الفنون الأصيلة الراقية، وعملت على ضبط أسس جماليتها وعلى كشف تأثيرها العميق بعد أن حشرتها التصنيفات الإغريقية ضمن الأعمال المُبتذلة، وليس السياق هنا سياق عرض لهذه المقولات النظرية.

حسبنا أن نُذكّر بدورها الفعال في مهاجمة الأفكار والعادات والأخلاقيات التي تراها سلبية بأسلوب ظريف مثير لضحك الجماهير، مما يكفل اجتماع النقد بالتسلية، وحسبنا أن نذكّر بتقسيمها إلى صنفين، الضحك الوحشي الذي يعكس ضربا من تعالي الساخر، وترفعه عن موضوع سخريته، والضحك المشترك باعتباره عملية لا إرادية تلقائية تخرج فيها المشاعر عن السيطرة وتسقط الأقنعة فيرى الساخر نفسه في مرآة سخريته وينقد واقعه باعتباره طرفا فيه وعنصرا من عناصر تدهوره.

وفي هذا يقول محمد الصالح مجيد: وَقَرَ في عُرْف بعض كتاب النص الكوميدي مسرحا وسينما وتلفزيونا أن الإضحاك لا يتحقق إلا على لسان ريفي قادم إلى المدينة بجهله وتوحشه وعدم انضباطه، إذ يجانب بسلوكه كل حدود اللياقة والتمدٌن، وينافر هندامه كل قواعد القيافة، ولقد أمسى الريفي في الأعمال الهزلية موضوع الهزء والسخرية، فهو الغباء والسخف والوضاعة والحقارة، وهو الكائن المشوش للنظام والمعادي للنظافة والمعتدي على قواعد العيش السليم التي تحتكم إليها المدينة.

ويضيف: وغير خافٍ أن هذه الصورة بعيدة عن الواقع في ظل تحول العالم إلى قرية وانتشار وسائل الاتصال الرقمي، لقد ضحك التونسيون في ثمانينيات القرن الماضي مع عبد القادر مقداد وهو يرتحل باللهجة الجريدية المحلية الجنوبية إلى العاصمة، كان واعيا بوقع هذه اللهجة وقدرتها على لفت النظر بعد أن اعتمدت لهجة أهل العاصمة لهجة رسمية تعتمدها الإذاعة والتلفزيون.

لكن عبد القادر مقداد عرف كيف يضحك مع الجمهور لا منهم وباللهجة الجريدية لا منها، وعبرها نجح في تنبيه الجمهور المنبهر باللهجة الجريدية إلى ما عرفه المجتمع من تناقضات، وما عمدت إليه السلطة من عنف في القمع.

التونسي كريم اليعقوبي يقول إن التلفيقية الكوميدية تخفي أزمة هوية عميقة يعيشها التونسي

 

ضياع النص في أروقة الصداقة.. إشكالية الكتابة الكوميدية

يقدّر كريم اليعقوبي أن كتابة الأعمال الكوميدية كشفت عن أزمة حقيقية في الابتكار والإبداع، ومنها التداخل بين الفكاهي والدرامي غير المبرر وغير المتناسق في أغلب الأحيان مع الوضعيات، “ولا يعود ذلك إلى غياب المرجعيات العلمية في طرح المواضيع ومعالجتها من معرفة بالجماليات وبالتاريخ حينما يتعلّق الأمر بأحداث الماضي وعلم الاجتماع الفني وعلم النفس، فهذا كله بات رفاهية إبداعية لا نطمع في رؤيتها على شاشاتنا”.

ويكمل: إنها تعود كذلك إلى أن النصوص غدت تكتب بحسب الممثل في دوائر ضيقة من الصداقات والتضامن بين تحالفات عقدتها هذه القناة أو تلك مع ممثلين لا يظهرون إلا على شاشاتها، والحصيلة أنّ أداء الممثل يتكرر في كل إنتاج بالطريقة نفسها وهي أساسا تهريج سلوكي على شاكلة أداء الحيوانات في السرك.

ويرى اليعقوبي أن في الكوميديا مرتبتين تتعلق أولاهما باستنباط شخصيات طريفة كشخصيتي جحا وأبي دلامة من التراث أو شخصيات نمطية مستلهمة من واقعنا وهذا الأيسر على الكاتب، والمرتبة الثانية هي بالكتابة الموجهة للوضعيات الناشئة عن تطورها الطبيعي والمبنية على بناء الشخصية ودائرة علاقاتها في النصّ، غير أنّ ما يعرض من أعمال بعيد كل البعد عن المرتبتين معا، خال من الفكاهة السليمة التي تضحك لتمس من الجانب الذهني والمعرفي للمتفرج، وتعمل على التأثير في مواقفه وتوجهاته وحثه على التفكير بطريقة مغايرة.

الممثلان التونسيان كريم الغربي وبسام الحمراوي في أحد مشاهد تصوير “دنيا أخرى”

 

خلل هيكلي.. محاولة استجلاء مكمن القصور

يحاول الإعلامي والباحث في علم الاجتماع منذر بالضيافي أن يتفهم هذا القصور، فقد تزامنت الأعمال الرمضانية مع انتشار وباء كورونا، مما جعل المنتجين يوقفون تصوير العديد من الأعمال، وحتى ما أنتج فقد أتم بسرعة، فلم تخلُ من كثرة الأخطاء الإخراجية والتّصويرية الفادحة، فنظرا لتأخّر موعد انطلاق مرحلة التّصوير وضغط الوقت على المنتجين، وما رافق ذلك من تداعيات على عمليات ما بعد الإنتاج من مونتاج وميكساج كان التأثير جليّا على مستوى الجودة.

كل ذلك بالإضافة إلى المعضلات المادية، فالنقص الكبير في الاعتمادات المالية أثر بصفة جلية على نوعية الإنتاج، فسقط في فخ الاستسهال والميوعة باسم تصوير الواقع، ولعل هذا ما يفسر الانتقادات الكبيرة في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي لهذه النوعية من الأعمال التي جرى تحميلها وزر السقوط والتراجع القيمي الذي يعاني منه المجتمع التونسي.

لكن الإعلامي بالضيافي لا يجد مناصا من الاعتراف بأن الأسباب هيكلية، “فهذه الظروف الطارئة لا تجعلنا نغفل عن وجود ضعف كبير في الجودة تعود إلى السنوات الأخيرة لغياب المهنية والتدقيق في اختيار النصوص وإعداد السيناريو، وهذا الفقر يعود بالأساس لإقصاء أصحاب المهنة لصالح مجموعة من الهواة، ولغياب الخيال وافتقاد بعض النصوص الدرامية إلى الحبكة المتقنة”.

ويضيف: لم نشاهد أعمالا معتبرة يمكن أن تصنف في خانة ما يسمى بكوميديا الموقف أوالسيتكوم، تلك المسلسلات التلفزيونية الفكاهية لا تتطلب إمكانيات مادية وتقنية ضخمة، وتنجح في إمتاع الجمهور وتسليته عبر تضخيم الحدث وتقديم شخصيات ومواقف هزلية على غرار “نسيبتي العزيزة” أو السيتكوم الخالد “شوفلي حل”.

 

نسب المشاهدات العالية.. أزمة الذائقة العامة

لا شك أن هذه الأعمال ستُطوى مع انتهاء عرضها، ولكن ما يعنينا هو تفكيك هذه المفارقة المحيّرة وفهمها، فرغم إجماع النقاد على ابتذال هذه الإعمال وإسفافها، ولجوء بعضهم إلى نظرية المؤامرة واعتبارها تهريجا مبرمجا ومواقع متقدمة في الحرب على المجتمع التونسي وعلى وعيه، وواجهة للوبي الأموال الذي يعمل باستمرار على اختطاف الثورة وتوظيفها لصالحه، ورغم ربطهم آليا بين هذه الأعمال والخطوط التحريرية للقنوات التي تحتكر نشاط الممثلين على مدار السنة في برامج ترفيهية، تؤكد مؤسسات الإحصاء أن نسب مشاهدة هذه الأعمال مرتفعة.

تحول صنّاع هذه الكوميديا إلى نجوم يتصدرون المشهد الفني، ولا يغيب عنا أن القنوات المنتجة لهذه الأعمال هي قنوات خاصة، بمعنى أنها مؤسسات استثمارية تبحث عن جني الأموال من ورائها، وما كانت لتراهن عليها لو لم تجلب لها عقود الممثلين المشهورين الذين يصطادون أعلى نسب المشاهدة، وهذا ما يؤشر إلى أزمة كبيرة على مستوى الذائقة العامة.

يصبح هنا الأمر محل جدل كبير في تحديد الطرف المسؤول عن هذا الانهيار، فهل هي مسؤولية الكُتاب والممثلين أم هي مسؤولية القنوات الخاصة التي لا تدرك أنّ الإعلام رسالة تخدم المصلحة العامة وتراعي أخلاقيات المهنة، وأنّ انحرافه عن الجادة يحوله إلى معول هدم وتدمير، أم هل يتعلّق الأمر بمسؤولية المتفرّج أساسا؟

فقد تراجع دور الناقد وأضحى معيار نجاح الأعمال هذه الأيام مختزلا في نسب المشاهدة، وفي رضى رجل الأعمال وإبرامه للعقود مع هذه القناة أو تلك، وبوصلته نسب المشاهدة، ولا يمكن التأثير في هذا الناقد الجديد إلاّ بمقاطعة القنوات التي تستفيد من أجواء الحرية والانفتاح بشكل سلبي.

 

متاهة الإحباط والانحطاط.. انعكاسات الواقع الباهت

تبرز في خضمّ هذا الجدل الدائر المقاربة النفسية والاجتماعية بقوة، فيقول كريم اليعقوبي “من منظور اجتماعي ونفسي أجد الأعمال الرمضانية تقلبا من تقلبات أزمة قيمية تعيشها كل القطاعات، كالرياضة والتنشيط والمجالات الحقوقية والأدبية والعلمية وغيرها، وهو ما يعبر عنه بـ”التلفيقية”، والمصطلح للباحث في التاريخ السياسي هشام جعيط، ونقصد بذلك الارتجال و التسرع و غياب الاستراتيجيات والرؤية الواضحة للعمل الفني.

ويمكن أن نرجع ذلك إلى سببين يتعلّق الأول بضحالة المستوى التقني والفني للعديد من الفاعلين والعاملين بالميدان، وهذا يعود إلى تدني المستوى الأكاديمي من جهة، وإلى منح المناصب والخطط على أساس الولاءات أو القرابة.

أما السبب الثاني لحضور التلفيقية الفنية في المجال السمعي البصري وفي المجالات الأخرى وهو الأخطر فيعود إلى أزمة هوية عميقة بات يعيشها التونسي تحول دون رقي الأعمال الفنية التونسية إلى مستوى الأعمال الإنسانية الكونية مهما كانت انتماءاتها الفكرية، فهذه الأعمال عينة تشخّص الحالة التونسية الراهنة بشكل ما، فهي صورة لمشهد باهت ومرتبك وشفاف في بعض الأحيان، ولا يجلب الأنظار، ويتلون بألوان المارة، فيعكس ضعفا على مستوى الحضور وقابلية لشتى التأويلات.

وفي موقف كريم اليعقوبي امتداد لمقاربة ترى أنّ هذا الانخراط الواسع من قبل المتفرجين في أعمال مبتذلة يعكس حالة من الإحباط لمآل الثورة التونسية، فالنخبة حققت بعضا من مطالبها، فظهرت طبقة من السياسيين الذين يتصدرون المشهد وأصبح الإعلاميون نجوما، أما أصحاب رأس المال فيعرفون كيف يرقصون على الحبال ويحولون كل الظروف لصالحهم، ولكن الطبقة الدنيا لم تنل شيئا من هذه الثورة، بل إنها توسعت توسعا مفجعا بعد أن انصهرت فيها الطبقة الوسطى وقد غدت مهمشة ومفقرة بدورها.

وفي التاريخ العربي نماذج مشابهة اجتمع فيها الإحباط بالانحطاط، فالنون العربية انتهت قديما إلى التقهقر مع خروج العرب من دائرة الفعل الكوني، وعاودت السقوط في هوة الابتذال بعد 67 فتقهقرت الأغنية وانفصلت لغة السينما (المصرية أساسا) عن لغة الواقع المعيش وسُطحت مقارباتها حتى كادت تخلو من كل مضمون عدا الضحك المبتذل والعري والجنس، فمثل مهربا يلوذ إليه المتفرّج ليغيب عن واقعه كـ”سيدة الأقمار السوداء” لحسين فهمي وناهد يسري، و”ذئاب لا تأكل اللحم” لناهد شريف وعزت العلايلي، و”أعظم طفل في العالم” لرشدي أباظة وميرفت أمين.

 

“قلب الذيب”. حين يصبح المهرج صانع الرأي العام

سأل الوزير ابن سعدان ذات ليلة أبا حيان التوحيدي في مسامرته الثامنة والثلاثين من “الإمتاع والمؤانسة”: هل سمعت في أيام الفتنة بغريبة؟

فقال: كل ما كنا فيه كان غريبا بديعا عجيبا شنيعا، ومن غريب ما جرى أن أسود الزّبد كان يأوي إلى قنطرة الزّبد ويلتقط النوى ويستطعم من حضر ذلك المكان بلهو ولعب، وهو عريان لا يتوارى إلا بخرقة ولا يُؤبه به ولا يُبالى به، ومضى على هذا دهر، فلما حلّت النفرة أعني لما وقعت الفتنة وفشا الهرج والمرج، ورأى من هو أضعف منه قد أخذ السيف وأعلمه، فطلب سيفا وشحذه، وصُبح وجهه وعذُب لفظه وحسُن جسمه وعَشَقَ وعُشِقَ، فلما دُعي قائدا وأطاعه رجال وأعطاهم وفرّق فيهم، وطلب الرئاسة عليه صار جانبه لا يُرام وحماه لا يُضام.

وأيام الثورة في تونس غريبة بديعة عجيبة شنيعة كذلك، ومن غريب ما جرى أن المهرجين أصبحوا صناع الرأي العام وكتّاب تاريخ البلاد، فقد تجاسر فريق “دنيا أخرى” وأنتج مسلسلا تلفزيونيا تاريخيا حول الحركة المقاومة أيام الاستعمار الفرنسي عنوانه “قلب الذيب”.

ولأن أغلب القنوات لم تستكمل تصوير مسلسلاتها بسبب الحجر الصحي أصبح اقتناء هذا المسلسل محل تنازع بين القنوات لم يُحسم إلا في أروقة المحاكم، ثم كانت الخيبة الكبرى، فقد جاء العمل ضحلا على المستوى الفنّي مثقلا بالأخطاء التاريخية، مسيئا لنضالات الفدائيين الذين ندين لهم بالاستقلال والحرية، فجعلهم متوحشين قذرين ساديين.

لقد جعلت الثورة تونس تتصدر قائمة الدول العربية والإسلامية على مستوى حرية الإعلام، وأيا كان موقفنا من دقة المعايير المعتمدة فلا ينكر هذا التصنيف إلا جاحد، وبقدر بهجتنا بهذه الحرية لا يسعنا إلا أن نذكر بأنّ قصر الرقابة المؤسساتية على المخالفات القانونية لا يعني الحرية السائبة من كل عقال، بل يجب أن يعوض برقابة ذاتية تضع في أولوياتها جودة العمل وعمق الطرح الفكري حتى يحصّن الإعلام الذي يبدو مخترقا من قبل أباطرة المال ومافيات السياسة.