أطفال سوريا.. وَجَع هذا الزمان

محمد موسى

ستة أطفال سوريين سيكونون موضوع الفيلم التسجيلي البريطاني “أطفال سوريا”، والذي عرضته القناة الثانية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أخيراً. سيرافق الفيلم اولئك الأطفال لفترة ستة أشهر كاملة، بدأت من شتاء هذا العام وانتهت مع بداية صيفه.

ليز دوسيت رفقة أحد أطفال المخيم

تتنوع خلفيات أطفال الفيلم الاجتماعية وولاءات أهلهم السياسية، لكنهم يشتركون بالعيش في الجحيم السوري او على أطرافه، ويشتركون أيضاً بحمل آثار ذلك الجحيم، الذي يدخل عامه الرابع، بلا إشارة واحدة على الإنفراج. أبطال الفيلم هم نموذج لملايين غيرهم من الأطفال السوريين، الذي يقال إن عشرات الآلاف منهم قد قتل في الصراع، وثلاثة ملايين يعيشون شظف الحياة في مخيمات اللاجئيين في سوريا وحول العالم. هم الجرح المفتُوح النازف الذي يشير لتعثر هذا الزمان وقسوته وإنحطاطه.

بين “جلال”، السوري الذي يقاتل والده في صفوف قوات الرئيس باسل الأسد، و”عمر”، الذي يقاتل بنفسه قوات الأسد رغم إن عمره بالكاد وصل الى الخامسة عشر، هناك إختلافات ومسافات شاسعة، يشيران الى تعقيد الوضع السوري وعمق جروحه. يسجل الفيلم يوميات الطفلين، “جلال”، الذي كان يستعد لحفل شعبي راقص لمؤازرة الحكومة السورية، و”عمر”، الذي يقاتل في الجيش السوري الحرّ بدل والده الذي أصيب في العام الماضي. ليس “عمر” وحده هو الذي سوف يكون قريباً من الموت بكل صوره، “جلال”، الذي يعيش في حي التضامن الدمشقي، الذي يقع على أطراف حدود العاصمة الجنوبية، ليس بعيداً عن “الموت” أيضاً، فعمه وخاله قتلا في المعارك ضد المسلحين، وسيصوره الفيلم، وهو يصرخ بغضب في جنازة طفلين قتلا بسبب قذائف هاون سقطت على حيه “المواليّ”، إنطلقت من حي “معارض”. وإذا كان عمر وخالد يقفان على طرفي الصراع في سوريا، لا يبرز الفيلم مواقف واضحة للأطفال الآخرين في الفيلم او لأهلهم، عدا طفلة سورية، تعيش اليوم في مخيم للاجئين في تركيا، فقدت إحدى قدميها في إنفجار في قريتها السورية.

ليز دوسيت

يتوفر للفيلم البريطاني فرص مُهمة لتصوير لحظات تاريخية فارقة من الأزمة السورية من العام الماضي، فالفريق الفنيّ له سيكون في مخيم اليرموك الفلسطيني في جنوب العاصمة السورية، عندما يُفتح الحصار جزئياً عن هذا الأخير، وسيرافق طفل فلسطيني سوري مع عائلته، (سيسمح لها بمغادرة المخيم فيما ترفض السلطات السورية مغادرة والد العائلة). كما سيكون الفيلم عند فتح الحصار عن مهد الثورة السورية في مدينة حمص، ليرافق بعدها طفلة عاشت حصاراً لا يوصف قسوته، في سِلْم حياتها الجديدة الشديد الهشاشة. هذا لوحده يُعد إنجازاً للفيلم التسجيلي البريطاني، الذي إلتف على الحواجز التي تفرضها الحكومية السورية بالعادة على نشاط القنوات التلفزيونية الاوربية، وصور في المناطق التي لازالت تخضع لسيطرتها. تتجول المراسلة التلفزيونية ذات الخبرة الكبيرة ليز دوسيت، على أطراف المخيم الفلسطيني، ليس بعيداً كثيراً عن مكان الصورة الشهيرة التي التقطت مع نهاية حصار المخيم، وتحولت في أسابيع قليلة الى إيقونة للقسوة التي طالت سكان المخيم، (تظهر الصورة مجموعة من سكان المخيم يقفون فيما يشبه القيامة الصغيرة بين بنايات مُهدمة بإنتظار المُخلص). كما ستكون المراسلة، من أوائل الصحفيين الذين سيدخلون حمص بعد إتفاق السلام مع المسلحين، وستتجول بين الشوارع التي بدت وكأن هزة ارضية عنيفة قد ضربتها، وستنقل من هناك قصصاً مُروعة، عن سكان جياع محاصرون أكلوا القطط والكلاب، وقتلى مدنيين يدفنون في حدائق عامة وجوامع. وناس فقدت عقلها من هول ما مر بهم.

يجتهد الفيلم التسجيلي بأن يبقى مع شخصياته من الأطفال، ولا يشرك “الكبار” الا بحدود ضيقة كثيراً، هناك مقابلات مُؤثرة مع بالغين، كالتي أجرتها المُراسلة البريطانية مع ام لستة أولاد، تعيش اليوم، وبعد أن هُدِمَ بيتها، في مخزن تجاري قريب على الجامع الأموي في دمشق، هذه السيدة ستبكي عندما تُذكرها ليز دوسيت بصعوبة الأيام السورية على الأباء والإمهات في البلد المدمر. هناك ام اخرى، هي والدة  “طفل المخيم”، والتي نزحت الى منطقة مهجورة في دمشق، هذه السيدة ستستعيد مع البرنامج، ذكريات طفل جار، قُتل في المخيم، وصداقته مع إبنها.

 

لكن الفيلم في معظمه هو تجميع شهادات ويوميات لشخصياته الأطفال الستة. وهذا، وكما هو متوقعاً، سيعني لحظات مُتفجرة بالحزن والقسوة. ليست بسبب شهادات الأطفال وحدها، ولكن لتجميعه بعض المشاهد المميزة لأفعال عفوية صدرت عنهم بدون تخطيط. فعندما تسأل المراسلة طفل المخيم، الذي كان ينتظر دوره للخروج من هناك، كيف كانت أيامه في زمن الحصار، وتضع يديها على كتفه، ينفجر الطفل، الذي تعدى العاشرة بقليل، ببكاء يقطع القلوب، فربما كانت المرة الاولى التي يُسئل فيها عن حاله. هناك مشاهد مؤثرة صامته عديدة، كذاك للطفلة السورية اللاجئة في تركيا، والتي صورت الكاميرا وجهها وهي تراقب أطفالاً يلعبون في حديقة عامة، لتنزل بعدها وتصور عكازيها، والرجل الواحدة التي تقف عليها وبعد أن فقدت الإخرى في إنفجار في سوريا.

لا بد من الإشارة للحضور المُهم للمراسلة التلفزيونية ليز دوسيت، والتي عملت لسنوات في منطقة الشرق الأوسط. لن تبكي المراسلة البريطانية أمام الكاميرا، لكن وجهها بدا أحياناً وكأنه سيتفطر من الحزن، عندما كانت تعبر صفوف من سكان مخيم اليرموك مثلاً، او عندما كانت تتحدث لفتاتين من حمص، أثرت الظروف التي مررن بها على قواهن العقلية. في حمص ذاتها، صور الفيلم بالصدفة ردات فعل العنف السوري على ليز دوسيت، عندما إنفجرت قنبلة قريبة جداً من المدرسة التي كانت تقيم بها الفتاة الحمصية، احدى شخصيات الفيلم، ثم الحركات السريعة لكن الواثقة للبريطانية، وهي تحاول التحقق بكل إتجاه من سلامة الذين في المدرسة، قبل أن تكتشف إن أحد مصوريها البريطانيين إصيب في الحادث. لا تفصح ليز دوسيت عن الخلفيات الاجتماعية لأطفال فيلمها، لكن يمكن للمشاهد المُتابع أن يُخمن. فالفيلم حاول أن يحافظ على خط أخلاقي متوازن وأن يبقى على مسافة واحدة من الجميع، لكنه أظهر بالمقابل الحقد الذي زرعه الصراع في سوريا في قلوب بعض السوريين، والذي نقله “عمر”، الذي كان قد عاد للتو من اقتتال داخلي بين قوات المعارضة السورية نفسها، اذ وعد بالإنتقام من قتلة رفاقه، فيما تنبأ أخاه الأصغر، والذي لم يتعدى العاشرة من العمر، بأن صراع سوريا سيتواصل لأجيال عديدة قادمة.