أعداء الوطن.. تصفية الفنانين المغردين خارج السرب

الفنان المصري هشام عبد الحميد

هل إسماعيل ياسين ومحمد فوزي ونور الشريف ويوسف شاهين وشادي عبد السلام وعمر الشريف هم أعداء الوطن؟ تبدو الإجابات للوهلة الأولى بالطبع لا، فلا يمكن على أيّ حال أن نُطلق على هؤلاء العاشقين لفنهم بأنهم أعداء الوطن .سيقول قائل إنهم ملئ السمع والبصر، فكيف يكون هؤلاء أعداء الوطن، ولماذا؟

لنلقي نظرة بسيطة إلى الوراء، فبشيء من التقصي سندرك أن منهم من دفع الثمن غاليا، ومنهم من استطاع لأمور شتى أن يتجاوز هذه المحنة.

الفنان المصري إسماعيل ياسين الذي عُرف بامتلاكه كاريزما وطريقة أداء مُحببة لدى الجماهير

 

إسماعيل ياسين.. عبقري الكوميديا الذي ظلمه عبد الناصر

إسماعيل ياسين ذلك الفنان الذي قلما يجود به الزمان، يمتلك كاريزما وطريقة أداء محببة، وإلى الآن ما زال عالقا في أذهان الكبار قبل الصغار، لكن هذه الطاقة العبقرية تعرضت لظلم وتجاهل فادح، وذلك لأن إسماعيل ياسين كان من مريدي الرئيس محمد نجيب، ولأن نجاحه المدوّي كان يصل للعالم العربي من الخليج إلى المحيط، مما أثار حفيظة كثير من النفوس ضده.

وكان من أول المتحفظين ضده الرئيس جمال عبد الناصر الذي أوقفه مواطن مغربي بسيط وسأله عن إسماعيل ياسين، ووسّطه أن يحمل إليه السلام هكذا بكل بساطة، فرجل الشارع البسيط يوسّط رئيس جمهورية مصر العربية الذي كان لحكمه الصولة والجولة عند العرب وقتها، ليقول للرئيس إن إسماعيل ياسين هو المحبب لقلوبنا، غير مدرك قدر الأثر المدمر الذي سيلحق بإسماعيل ياسين من جراء هذا الحب الهادر، وبالطبع صدرت الأوامر العليا لكي يتعثر إسماعيل ياسين، ويتعرض لمنغصات ومحبطات كانت كفيلة بتدميره .

وهذا ما حدث، فقد حجزت الضرائب على أملاكه وجردته منها، وعانى من انصراف المنتجين عنه، وبالتالي لم يعد هناك عمل ينتظره، مما اضطر هذا العملاق لأن يتسول بمنولوجات فكاهية في الملاهي الليلية لكي يجد ما يسدّ به رمقه، وذلك بعد أن كان النجم الذي يشار إليه بالبنان.

إن رغبة الزعيم أطاحت بهذا النجم ليصبح مجرد أجير في ملهى ليلي، وبالطبع تكالبت عليه الأمراض، حتى رحل عن عالمنا وهو يتجرع الكمد والحسرة.

لكن يبقى السؤال ما الذنب أو الخطيئة التي ارتكبها إسماعيل ياسين لكي يعاقب هذا العقاب القاسي، والذي أودى بحياته في آخر الأمر؟ هل هو النجاح الأسطوري الذي حققه أم هو حب الجماهير الكبير له؟ هل لأنه أحب محمد نجيب؟

قد نختلف أو نتفق في الكثير أو القليل من التفاصيل، لكن الثابت والواضح أن إسماعيل ياسين ليس عدوا للوطن .

الفنان المصري محمد فوزي الذي أنشأ شركة صوت القاهرة ولم يُقدِّم فروض الطاعة والولاء للنظام المصري

 

محمد فوزي.. صوت القاهرة الذي لم يُمجّد النظام

الثابت أن محمد فوزي موهبة عبقرية قلّما يجود بها الزمان، والثابت أيضا حُبّه لمصر غير القابل للنقاش. لقد أنشأ شركة صوت القاهرة التي تفوقت على الإسطوانات الأوربية بصناعتها، فإسطوانة فوزي تعمل بشكل مزدوج، والإسطوانات الأخرى أحادية الجانب، ثم إن درجة نقاء الصوت أفضل في إسطوانات فوزي، فضلا عن أنها زهيدة الثمن.

بالإضافة أن هذه الشركة كانت تُعّد الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، فإن مشكلة محمد فوزي أنه لم يُقدِّم فروض الطاعة والولاء للنظام الجديد، فكانت النتيجة أن قرارا صدر بتأميم شركته، واستثناء شركة محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ من التأميم، حيث نصحه البعض بأن يغني في أعياد الثورة القادمة لعبد الناصر لكي ينقذ ما يمكن إنقاذه؟ لكنه غنى “أحببتك يا بلد”، وبالطبع لم يعجب النظام، فهو يريد أغاني تمجده، ولهذا سحق فوزي.

عندما اتجه إلى مكتبه كرئيس مجلس إدارة الشركة فوجئ بجنرال يجلس مكانه ممددا قدميه على المكتب. قال له بلهجة مستفزة: لقد تغير الوضع، وأنت الآن لك مكتب آخر. ذهب فوزي لكي يجد مكتبه الجديد، كان مكتبا متواضعا صغيرا بجانب دورة المياه. لكن السؤال لماذا انتقم النظام من فوزي؟ أكان ذلك لأنه معتز بنفسه وبكرامته؟

ومن عبث الأقدار أن النظام المصري لم يجد عند وقوع النكسة ما يُقّدم في إذاعة مصر العربية سوى أغنية “أحببتك يا بلدي”.

الفنان المصري عمر الشريف مع الممثلة الداعمة لإسرائيل “بربارا سترايسند” والتي ظهرت على أغلفة الكثير من الصحف

 

عمر الشريف.. من عدو خائن إلى بطل رفع اسم مصر

عمر الشريف هو من هو، فلسنا بحاجة إلى الإشارة إلى أعماله البديعة، لكن هذا النجم الرائع ارتكب جريمة كبيرة من وجهة نظر أصحاب نظرية أعداء الوطن، لقد سافر في الستينيات في عز المد الاشتراكي العروبي القومي لكي يقوم ببطولات عالمية في هوليود بأمريكا رمز الإمبريالية والرجعية.

ومما زاد الطين بلة في ذلك الوقت أنه شارك البطولة “بربارا سترايسند” اليهودية في أحد الأفلام، وكانت لتلك الممثلة آراء داعمة لإسرائيل، حيث ظهر عمر الشريف على أغلفة مجلات العالم يعانقها ويقبلها.

وبالطبع قامت الدنيا ولم تقعد على هذا الظهور، وقد رد عمر الشريف على هذا الهراء إنه لا يسأل من يمثل أمامه عن دينه أو توجهاته فهو ليس مخبرا، إلا أن هذا الكلام لم يعجب الرأي العام في مصر، فمن بيديهم القرار وضعوا صورة عمر الشريف و”بربارا سترايسند” على غلاف مجلة الكواكب، وكتب وقتها بالخط العريض :انزعوا الجنسية عن هذا الرقيع .هكذا وصم عمر الشريف بالخيانة الوطنية، وأصبح عدوا للوطن .

لكن بعد تغير الأحوال وتغيّر توجهات الدولة السياسية، وحين أصبحت أمريكا الدولة الصديقة وانتهى وانحسر التيار العروبي الناصري القومي؛ تغيرت النظرة نحو عمر الشريف، وأصبح هو النجم العالمي الذي رفع اسم مصر عاليا لعنان السماء. هكذا بين عشية وضحاها عاد عمر الشريف إلى أرض الوطن، واستُقبل استقبال الفاتحين، ولم يعد من أعداء الوطن.

الفنان المصري عمر الشريف بدوره في فيلم رسام الكاريكاتور الفلسطيني المعروف “ناجي العلي”

 

“لقد ارتكب جريمة شنعاء”.. اغتيال معنوي لنور الشريف

“لقد ارتكب جريمة شنعاء” هكذا قيل عنه، ونادت الصحافة المصرية بإنهاء مسيرته الفنية. لقد قاد هذه الحملة المنظمة والممنهجة الصحفي إبراهيم سعدة رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم وقتها، وامتدت آثار تلك الحملة إلى أبعد من ذلك .

امتدت الحملة إلى شركات الإنتاج والتوزيع ضد نور الشريف، وقد رأيت بأمّ عيني رفض أحد المنتجين الكبار تأجير أجهزة التصوير والإضاءة لفيلم من إنتاجه. لماذا؟ لأنه حسب حملتهم قد خان الوطن، وأنه عدو الوطن على حد قولهم. لكن ما هي جريمة نور الشريف الذي نال ما ناله من هذا الوعيد والاغتيال المعنوي؟

ذهب نور إلى لبنان لكي يقوم ببطولة فيلم ناجي العلي الرسام الكاريكاتوري الفلسطيني المعروف بنقده اللاذع للأنظمة العربية، بما فيها حركة فتح، وعلى رأسها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لقد قام نور بجانب بطولته بالإنتاج التنفيذي لهذا الفيلم، فاعتبر أنه المسؤول الأول الرئيسي لهذه الخيانة العظمى. فلم يحاسب مثلا الكاتب الكبير بشير الديك الذي كتب السيناريو لذلك الفيلم، ولم يُعتبر المخرج عاطف الطيب الذي اضطلع بإخراج الفيلم مسؤولا. لقد رأى أولو الأمر في عهد النظام المباركي أنه لا بد من تأديب هذا الفنان المارق، لكن النظام عاد مرة أخرى وسامح نور الشريف.

كان نور جريئا كعادته، نور الذي يعمل دوما بروح الفنان المنطلق ضاق به النظام وبجرأته وآرائه. وفجأة طالعتنا صحيفة من الصحف الصفراء بالقبض على نور الشريف وخالد أبو النجا وآخرين داخل أحد الفنادق الشهيرة يمارسون الشذوذ والفجور حسب الصحيفة.

وبالطبع قامت وسائل الإعلام السمعية والمرئية بتأجيج هذه الإشاعة الحقيرة التي كان المراد منها اغتيال نور معنويا، وإرسال رسالة قوية لكل من هو على شاكلته، والرسالة مفادها إن على كل فنان أو غيره أن يُفكر ويراجع خطواته وتوجهاته السياسية .

خاض نور معركة كبيرة انتصر بها في النهاية، لكنه خرج مثخنا بالجراح والآلام. لم يقف نور الطموح عن إنجازاته الحرة، إلى أن وقعت على رأسه مصيبة كبرى وهي مرض ابنته بمرض نادر، ابنته التي أحبها كثيرا.

لا شك أن تلك الحملة القذرة أثرت بالسلب على نور، ونتيجة لما حدث، ونتيجة لتلك التراكمات العنيفة والصدمات المتوالية؛ أصيب بالسرطان، إلى أن رحل عن عالمنا ولم يصبح بعد ذلك عدوا للوطن.

مع الأسف يمر الزمان وتتبدل السياسات والوجوه، لكن تظل طريقة الاغتيال المعنوي جاهزة لمن يخرج عن السرب، والاتهام جاهز لعدو الوطن .