أفلام قصيرة تعالج مواضيع كبيرة.. تتصدر مهرجان كليرمون فيران 2019

محمد هاشم عبد السلام

من بين الأفلام المتميزة التي عُرضت في عدة مهرجانات ولا تزال تواصل عروضها الدولية؛ الفيلم البلجيكي "الكعكة الهائلة"

نادراً ما تحظى الأفلام القصيرة -خاصة في البلاد العربية- باهتمام نقدي أو متابعات صحفية جادّة تُلقي الضوء على تلك الأفلام، والتي عادة ما تكون بمثابة مؤشر دالّ بصدق على اتجاهات التطور السينمائي في بلد ما، أو صعود أجيال أو أسماء جديدة في مجال السينما بأحد البلدان على مختلف المستويات؛ تصويرا وسيناريو وإخراجا وغيرها.

أسباب تلك الظاهرة عديدة ومتشعبة ومتداخلة، وهي على أية حال ليست ظاهرة جديدة أو طارئة. صحيح أن للسينما الروائية والتسجيلية الغلبة سواء من حيث المتابعة أو التغطية أو حتى في المهرجانات، لكن تظل للسينما القصيرة أهمية قصوى.

 

“شارع باتيسيون”.. فيلم اللقطة الواحدة

خلال الأسابيع القليلة الماضية من العام 2019، عُرضِت مجموعة مميزة من الأفلام القصيرة لفتت الأنظار على أكثر من مستوى، ففي مهرجان كليرمون فيران السينمائي الدولي الفرنسي المخصص للأفلام القصيرة، وهو الأهم والأكبر والأعرق على مستوى العالم؛ فاز في “المسابقة الدولية” فيلم “شارع باتيسيون” للمخرج اليوناني الشاب ثاناسيس نيوفوتيستوس بجائزة “لجنة التحكيم الخاصة”، وجائزة القناة التلفزيونية الشهيرة “كنال بلاس”، وجائزة “أفضل فيلم أوروبي”.

تدور أحداث فيلم “شارع باتيسيون” في أحد الشوارع الرئيسية بالعاصمة اليونانية أثينا، والمثير أن الشارع لا أهمية له بالفيلم، على عكس ما يُوحي العنوان، إنه مجرد شارع نتابع فيه عبر 11 دقيقة تحديدًا امرأة أو فتاة شابة تمضي قدمًا منذ بداية الفيلم وحتى نهايته، لا نرى وجهها بالمرة ونرى ظهرها فقط، بينما تتحدث في الهاتف أو تقطع الشوارع أو تنتظر أو تعبُر إشارات المرور.

يُفتتح الفيلم والفتاة تركض مُمارسة بعض التمرينات الرياضية، مُرددة بعض الجمل الحوارية الواردة على لسان “فيولا”، وهي الشخصية الرئيسية في مسرحية شكسبير “الليلة الثانية عشرة”. لا نعرف لماذا تردد المرأة (المُمثلة مارينا سيميو) التي لا اسم لها في الفيلم تلك الجمل الحوارية إلا لاحقًا.

تدريجيًا نتبين من خلال المكالمات التلفونية التي تُجريها أنها في طريقها لأداء تجربة أداء تمثيلي، وأنها مرشحة بالفعل من جانب جهة الإنتاج الفرنسية لتلعب دور “فيولا” في المسرحية، إنها متأخرة قليلا عن موعدها، لكنها مع ذلك في غاية السعادة.

تلك السعادة تنقلب إلى قلق، ثم سرعان ما تتحول إلى مأساة، فعبر مكالمة لابنها الصغير يانيس ندرك أن جليسته قد تركته لسبب غامض، وتحاول المرأة الاتصال بالمربية لتعرف أين هي ولماذا تركت الصغير، لكنها لا ترد. تتصل بشقيقتها تطلب منها أن تذهب لتجلس مع الصغير لحين عودتها، لكنها تتذرع بأن لديها اجتماعات، تناشدها قائلة إن تلك حالة طارئة واليوم إجازة نهاية الأسبوع، وأنها ستُقَدِّرُ لها ذلك الصنيع، لكنها ترفض في النهاية. وبعد عدة مكالمات للجليسة التي لا ترد وأخرى من صديقتها تخبرها بضرورة الإسراع للمقابلة، تتصل بابنها وتطلب منه الجلوس أمام التلفاز أو اللعب بجهاز الآيباد الخاص بها، وعدم فتح الباب لأحد أو دخول المطبخ.

في تلك الأثناء، تزداد جرعة التوتر إلى أقصى مدى، فنلمس من صوتها مدى قلقها وتوترها على الابن، وندرك الخطر المُحيط بالصغير يانيس الذي يبدو أنه غير مُطيع بالمرة. تتصل الأم بطليقها وتساومه على أيام إضافية ليرى فيها ابنه مقابل الذهاب فورًا والجلوس معه، فيتهمها بالتقصير وتنشب مشاجرة، وفي النهاية يخبرها أنه سيفعل، فتتصل الأم لتخبر ابنها أن والده في الطريق إليه، فتكتشف أن الولد في المطبخ وقد أشعل الموقد لإعداد الطعام نظرًا لجوعه الشديد، وفي تلك الأثناء تحدث اشتباكات عنيفة في الطريق بين مجموعات ترتدي الأسود وقوات الشرطة اليونانية، ويحدث إطلاق نار ومفرقعات وألعاب نارية.

بالكاد تسمع الأم ابنها، حيث تضطرها المطاردات والاشتباكات للركض إلى شوارع جانبية، وفي النهاية تأمر ابنها بعصبية بضرورة الخروج فورًا من المطبخ، وترشده لكيفية إطفاء الموقد، ثم تصيح بصبر نافذ “دائمًا ما تفسد عليَّ كل شيء، انتظرني.. أنا قادمة”.

في تلك اللحظة تمرق رصاصة بجوار وجهها فتُصاب بهلع، تدفعها الصدمة لمزيد من الصراخ والغضب ثم الانهيار، مجموعة من الأفراد المجهولين الذين يفرون من الاشتباكات يُنهضونها، ويرشدونها للعَدْو معهم، فنرى مجموعة من السيقان تركض على الإسفلت وهي بصحبتهم.

فيلم “شارع باتيسيون” بالغ التكثيف والذكاء، فهو فيلم لا إطالة فيه بالمرة، وخاتمته مفاجئة وغير متوقعة، حيث نجح المخرج عبر صوت الممثلة أن ينقل لنا انفعالاتها المختلفة، كما خلق الأداء الحركي والصوتي ومجموعة من المكالمات الهاتفية دراما قوية. أما الأكثر إدهاشًا جماليًا وتنفيذيًا في فيلم “شارع باتيسيون” أنه بالكامل من البداية إلى النهاية -رغم قصره- مُصَوَّر في لقطة واحدة دون قطع واحد أو أي تدخل مُونتاجي.

فيلم "21 نقطة" شديد المرح وعلى قدر من الإنسانية، وقصته غاية في البساطة

“21 نقطة”.. صداقة مع روبوت

في “المسابقة الدولية” لمهرجان كليرمون فيران فاز فيلم “21 نقطة” للمخرج النيوزيلندي بيت سيركت بجائزة “أفضل مؤثرات خاصة”. ويعمل بيت سيركت في حقل التلفزيون ويمارس كتابة السيناريو، وهذا هو الفيلم الأول له بعد عدة حلقات تلفزيونية لصالح التلفزيون النيوزيلاندي. وفيلم “21 نقطة” يحمل عنوان النقاط الـ21 التي يتطلب الحصول عليها في لعبة تنس الطاولة من أجل الفوز بأحد أشواط المباراة.

وخلال عشر دقائق تقريبًا هي زمن الفيلم نتعرف على الشاب “ألن” (الممثل جوش تومسون) الذي يعشق لعبة تنس الطاولة. ألن شاب وحيد وخجول ومنغلق على نفسه، ويعاني من لوم وتقريع والدته الدائم له على كل كبيرة وصغيرة، وهو ما يجعل ألن يتوهم أن ثمة صديقا حميما أمامه يصاحبه على مدار اليوم ويتحدث إليه، وحتى يلاعبه تنس الطاولة، وينصحه أو يتهكم عليه بشأن علاقته بشخصيته أو بوالدته، وذلك الصديق المتخيّل ما هو إلا روبوت أو جهاز آلي على شكل إنسان يحمل اسم “غاري”، لكنه حاد الذكاء. وعلى امتداد تلك الدقائق القليلة نلمس الكثير مما خفي عن شخصية وحياة وتصرفات ألن بفضل ذلك الروبوت.

الفيلم شديد المرح وعلى قدر من الإنسانية، وقصته غاية في البساطة، وتصميم الخدع البصرية -أو بالأحرى تنفيذ الروبوت ودمجه داخل أحداث الفيلم كأنه شخصية حقيقية- أكسب الفيلم الكثير من التميز والجدة.

 

“الكعكة الهائلة”.. تاريخ بلجيكا الاستعماري الدموي

من بين الأفلام المتميزة التي عُرضت في عدة مهرجانات ولا تزال تواصل عروضها الدولية؛ الفيلم البلجيكي “الكعكة الهائلة” الذي فاز في مسابقة “الأفلام المحلية” بمهرجان كليرمون فيران بـ”الجائرة الكبرى”، وهو من أفلام التحريك التي تعتمد على العرائس أو الدمى المتحركة وليس الرسوم المتحركة، وهو من إخراج إيما دي سويف ومارك جيمس رولز.

ومرد السمعة والجوائز التي نالها هذا الفيلم إلى أمرين: الأول أنه فيلم شبه تاريخي يعود المخرجان به إلى الماضي حيث القرن التاسع عشر، وهو أمر نادر في مجال الأفلام القصيرة المتحركة، والثاني يرجع لكونه يتناول بالنقد الحادّ الماضي الكولونيالي أو الاستعماري لبلجيكا في المستعمرات الأفريقية.

لم يتردد مخرجا الفيلم عبر خمس قصص قصيرة متصلة منفصلة في سرد جزء من تاريخ بلادهما الدموي في أفريقيا، دون ذكرهما لدولة بعينها، وذلك عبر حُلم ملك بلجيكي بأن تكون له مستعمرات في جزء ما من العالم، إلى أن يستقر على أن تكون في أفريقيا. وعبر رحلات مختلفة لمجموعة من البلجيك صوب تلك المستعمرة، نلمس ما فعل الرجل الأبيض من تدمير وإذلال وعبودية بأصحاب البشرة السمراء من سكان القارة الأصليين.

الفيلم بالغ التأثير، فهو قوي من حيث الموضوع المطروح، إضافة إلى جرأته في توجيه الإدانة بل والسخرية اللاذعة تجاه تلك الفترة المظلمة من تاريخ بلجيكا.

 

“سواتيد”.. عن عنف لعبة تتحول إلى حقيقة

من بين الأفلام اللافتة التي جذبت الاهتمام لخطورة ما تطرحه وملامسته للحاضر، خاصة الإرهاب والعنصرية وأحداث القتل التي باتت تهدد المجتمعات الغربية، برز فيلما “سواتيد” و”تعقب أداي”، وكانا قد عُرضا في أكثر من مهرجان للفيلم القصير، وفازا بأكثر من جائزة مستحقة.

“سواتيد” -أو الضرب بعنف، وهي الترجمة الحرفية للكلمة- فيلم شبه وثائقي يستند إلى وقائع حقيقية مُنفذة بطريقة تجمع بين التسجيلي والرسوم المتحركة. ويتناول الفيلم الذي أخرجه البلجيكي إسماعيل جوفروي شاندوتيس لعبة القتال بالأسلحة التي يُمارسها الكبار والصغار عبر الإنترنت، ويتنافسون فيها معًا بالضرب وتحطيم الآخر.

ومن ناحية أخرى تتيح اللعبة التواصل الحي عبر كاميرات الحاسوب بين اللاعبين، ومن بين مفرداتها الشاذة إمكانية الاتصال بالشرطة والإبلاغ عن اللاعب لكونه مجرماً أو إرهابياً أو يحضر لقنبلة، وإلى آخره.

وفي أكثر من مرة نرى عبر الكاميرا على الهواء مباشرة اقتحام قوات الشرطة لشقة أو حجرة اللاعب وإلقاء القبض عليه، وذلك وسط سخرية المُتابعين أو ذهولهم، ووصفهم إياه بأنه “سواتيد”، أو ضُرب بعنف أو تم الضحك عليه والإيقاع به.

الأمر لا يتوقف في مرات كثيرة عند حدود السخرية، فثمة ضحايا كثر، بعضهم اضطر لتغيير أماكن إقامتهم وهواتفهم وأعمالهم نظرًا لترصّد قراصنة اللعبة لهم، وبعض آخر دفعهم عنف اللعبة إلى حمل السلاح وإطلاق النار فعليًا. وعلى شريط الصوت نسمع ثلاث مكالمات هاتفية مُسجلة يعترف المتصلون فيها للشرطة ببكاء حار وذهول تام بأنهم أطلقوا النار على آبائهم، دون أن يعرفوا كيف فعلوا ذلك.

"أداي" مُراهق في مطلع العشرينيات، ونعلم لاحقًا أنه قُتل في سوريا بعد انضمامه إلى تنظيم الدولة

“تعقب أداي”.. عن داعش وعنصرية الأوروبيين

فيلم “تعقب أداي” المصنوع بحرفية شديدة الابتكار والجدة والتميز من جانب المخرجة الألمانية إستير نيمير، والفائز بعدة جوائز في مجال التحريك؛ يتناول قضية الأجانب الذين انضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

“أداي” مُراهق في مطلع العشرينيات، ونعلم لاحقًا أنه قُتل في سوريا بعد انضمامه إلى تنظيم الدولة. وعبر نصف ساعة مُكثفة نرى كيفية تحوله إلى الإسلام ثم اعتناقه للأفكار المتطرفة، فذات يوم فوجئت والدة أداي باختفائه، فبحثت عنه ولم تصل لشيء، إلى أن كتب لها يُخبرها أنه في سوريا، وطلب منها ألا تبحث عنه، وأنه يحبها.

مع توالي الأحداث، نستمع إلى حديث الأم عن طفولة ابنها، ونراها تلتقي بأحد الألمان ويدعى “إلياس”، وهو أحد هؤلاء الذين ذهبوا إلى سوريا وألقي القبض عليهم فور عودتهم إلى ألمانيا، ويروي إلياس من محبسه كيف أنه ذهب مع ابنها أداي إلى هناك بنوايا طيبة. ويصف لوالدة أداي مدى تطرف ابنها، وفي الوقت ذاته ندمه ورغبته في العودة، وهو الأمر الذي لو أفصح عنه أمام عناصر التنظيم لقتلوه.

الأكثر أهمية في الفيلم وأحد أسباب تميزه أن المخرجة وضعت يدها على بعض الأسباب التي دفعت أداي إلى ذلك المصير، ومن بينها كونه أسمر البشرة، فوالده من أصول أفريقية، وهو أمر عانى منه أداي الأمرّين أثناء طفولته خاصة في المدرسة، وبسببه ظلّ وحيدًا بلا أصدقاء حتى سفره، وأيضًا الاضطرابات النفسية والعصبية التي نتجت عن طفولته، وعجزه عن العيش مع والده في أفريقيا بعد انفصاله عن والدته، وجميع هذه العوامل كان لها دورها، و”لو كنت أعلم ما سيحدث لما تزوجت من رجل غير أبيض”.. تقول والدة أداي وهي تبكي.

قصة أداي لا تُسلط الضوء على الأوروبيين المنضوين لتنظيم الدولة وبعض أسباب انضمامهم فحسب، بل تفضح أيضًا الكراهية والعنصرية الكامنين تحت السطح، أي داخل بنية تلك المجتمعات.