“أمل”.. ثورة مصر عندما يُخنق الأمل

بدأب شديد وصبر جم يُحسب له يشق المُخرج المصري الشاب محمد صيام طريقه السينمائي بروية وتعمّق، والأهم من ذلك بنضج سينمائي لافت وبنظرة إنسانية بدأت تكتسب عمقها الفلسفي الملحوظ، لا سيما مع فيلمه الثاني له في مشواره السينمائي كمُخرج والذي حمل عنوان “أمل”، واشترك به في عدة مهرجانات سينمائي دولية، واختير في نهاية  2017 ليكون فيلم افتتاح أكبر وأضخم مهرجانات السينما التسجيلية في العالم وهو مهرجان “إدفا” في العاصمة الهولندية أمستردام.

كعادته لم يُسلط محمد صيام الضوء على الثورة المصرية من منظورها العريض أو وجهة نظر الجموع أو شخصياتها السياسية البارزة ولا حتى أيقوناتها اللامعة، فهو يُفضِّلُ عادة كما في فيلمه السابق “بلد مين؟” التركيز على شخصية واحدة تنتمي عادة إلى الهامش، ثم رصد أحداث الثورة وما تركته من آثار وتحولات عليها عبر فترة زمنية جد قصيرة في حياة الشعوب، ونعني بها تلك السنوات منذ اندلاع الثورة وحتى شهور قليلة مضت. في “أمل” بعكس “بلد مين؟”، يرصد محمد صيام الثورة عبر نموذج أنثوي شاب، ويقصد به الفتاة المُراهقة “أمل جمال الدين”، وهي ابنة لأحد العاملين بجهاز الشرطة ولأم تعمل بالسلك القضائي.

بين أمل والثورة.. العودة إلى نقطة الصفر 

صبر صيام ودأبه نرصدهما عبر أكثر من زاوية، فهو في فيلمه لا يزال مُصمما على استكشاف أبعاد جديدة في الثورة المصرية، ورصد ما حدث في مصر خلالها وفي أعقابها. وفي كل مرة يقترب صيام من الثورة يكون هذا الاقتراب بتناول جديد لعناصر ومُفردات طازجة تُنيرُ بُقعة أخرى لافتة لم تكن مرئية من قبل أو تائهة في خضمّ ما جرى على امتداد تلك السنوات، ويصعب تكرارها أيضًا في بحر لن يتوقف مدّه عن رفدنا بعشرات الأفلام المُتناولة لذلك الحدث الفارق في تاريخ الشعب المصري.

من زاوية أخرى، نرى صبره ودأبه جليين كالشمس في فيلمه “أمل” الذي استغرق إعداده قُرابة خمس سنوات من التصوير المُتواصل، حتى أيقن أنه قد وصل إلى ما يرومه من أهداف راكمها عبر سنوات التصوير المُمتدة هذه. والمؤكد أن تلك السنوات قد خلَّفت مادة فيلمية ضخمة لا شك في أنها كانت تمثل الكثير من الإغراء لأي مُخرج في محله لكنه لم ينزلق إلى هذا المُنزلق. فقد جاء فيلمه المُحكم مونتاجيًا إلى حد كبير دون إطالة أو زيادة أو نقصان في أقل من ساعة ونصف الساعة. ومن ثم فقد أحسن صيام إطفاءه للكاميرا في الوقت المُناسب، وتعامله الاحترافي مونتاجيا مع المادة التي لا تخدم فيلمه وتؤدي لترهله وإفساد إيقاعه.

المخرج يفتتح فيلمه بلقطة مُطولة لأمل وهي تستعد للعدو في مضمار للجري بأحد الأندية المصرية

كذلك لم يُسرِفُ صيام في توظيف الكثير من المواد الأرشيفية المألوفة عن الثورة، والأمر نفسه ينطبق على المادة التسجيلية المأخوذة من أرشيف عائلة أمل والتي وظَّفَ المُناسب منها، والمُتعلق باحتفال أمل ووالديها بأعياد ميلادها من جانب، كي يُعمق شخصية أمل ويُبرز العديد من الجوانب في شخصيتها.

يفتتح صيام فيلمه المُتميز ويختتمه قبل نزول قوائم أطقم العاملين بالفيلم بلقطة مُطولة لأمل وهي تستعد للعدو في مضمار للجري بأحد الأندية المصرية، هذا الاختيار الفني ستتضح دلالته الفنية والبصرية لاحقًا. في البداية يُشير العنوان الجانبي -بينما تستعد أمل للعدو وتقف في المسار رقم واحد بالمضمار- بأنه قد مرَّت سنة على الثورة المصرية، وتتكرر تلك الثيمة مع مرور سنوات تصوير الفيلم الخمس. وكما نعلم فإن المسارات في مضمار العدو تتجاور دون أن تتقاطع وتمضي في حلقة شبه دائرية لتصل إلى نقطة الانطلاق مُجددًا، لكن مع انتهاء الشوط أو السباق. أمل هنا في المضمار بمفردها، والمضمار يعود بها وبنا وبكل أبناء الثورة ومن كان يحدوهم الأمل إلى النقطة نفسها.. تلك الرؤية؛ إن كان المُخرج قد قصدها على هذا النحو، فقد أفصحت بالفعل عن الكثير دون أي اضطرار للإسهاب أو توضيح ما ليس بحاجة للتوضيح.

أمل.. مشاكسة جسورة تُسحل في ميدان التحرير

يبدأ الفيلم مع شخصية أمل وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وللوهلة الأولى من خلال وجهها وصوتها وملابسها وجسمها نحتار في جنسها، لكن سرعان ما نتبين أنها فتاة ذات صوت أجشّ وملامح تميل إلى الذكورية بعض الشيء، وزاد من هذا طريقة لبسها وصوتها المرتفع ومُصادقتها للأولاد المُماثلين لها في السن أو الأكبر. لكن يسبق كل هذا شخصيتها وتصرفاتها التي في بعض المواقف التي لا يجسر أعتى الذكور في سنها على القيام بها.

أمل إلى جانب شخصيتها المُتمردة العصية على التصنيف أو التنميط حتى منذ أن كانت طفلة صغيرة، فإنها مُتفجرة بالطاقة والحيوية والجرأة والنزق إلى درجة تتسم بالطيش والتهور المجاني في كثير من الأحيان. فمثلا في أحد مشاهد الفيلم وقت عنفوان أحداث شارع محمد محمود، تذهب أمل للتحرش اللفظي بالعساكر وتهديدهم ونعتهم بأقذع الألفاظ ليس أقلها “الداخلية بلطجية”. وفي مشهد آخر نرى ذلك المقطع الشهير للغاية الذي كان العساكر يجرّون فيه فتاة من شعرها في ميدان التحرير ويسحلونها على الأرض، فنكتشف أنها أمل الجسورة. لكنها بعد ذلك تحلق شعرها لتتجنب تكرار هذا الفعل وتمضي ثانية إلى الميدان.

أمل ترتدي الحجاب ثانية وتحصل على مجموع لا يُؤهلها لكليات القمة، فتُقرر التفكير في الدخول إلى كلية الشرطة رغم عِلمها بصعوبة الأمر

لكن من أين أتى كل هذا الوعي لفتاة لا تزال مُراهقة؟ من أين استمدّت كل تلك الجُرأة والشجاعة؟ من خلال السياق نتبين أولا أنها مع بداية الفيلم كانت قد فقدت حبيبها وصديق طفولتها وصباها في مذبحة بورسعيد، وتحكي كيف أنها طلبت منه الذهاب معه فرفض، ولم يُنصت لطلبها بعدم الذهاب ومشاهدة المباراة معًا بأي مكان، فعاد جُثة هامدة.

قبل ذلك، طبيعة شخصية أمل البارزة منذ نعومة أظفارها -كما ذكرنا من قبل- والجلية من خلال فيديوهاتها القديمة التي كان يُسجِّلها لها والدها، فقد كانت طفلة مُشاكسة عنيدة جريئة لا تهدأ. تلك الفتاة فَقَدت بعد سنوات قليلة والدها الذي كان لها كل شيء في الحياة، وناصحها الأمين وسندها وداعمها لتكون ما هي عليه، والذي أخبرها دائمًا بأن تفعل ما تراه صحيحًا وطالبها بألا تخاف أو تخشى أي شيء، وأخبرها أيضًا أن ثورة ما ستندلع قريبًا لكنه تركها. صحيح أنها ظلت تستمد القوة من كلماته وأحلامها به، لكنها لم تنكسر أو تضعف أو تلين.

في ملمح آخر، وعبر علاقتها بوالدتها التي هي على النقيض تمامًا منها، ومُناهضة للثورة والفوضى وانعدام الاستقرار، وقررت انتخاب شفيق بعد ذلك، نرى مدى شراسة أمل التي تصل حد الوقاحة عندما هددت والدتها بأنها إن انتخبته فستُقاطعها وتترك لها المنزل، ودائمًا ما تتهمها وتصرخ فيها بأنها “فلول”.

قاطعت أمل الانتخابات خائفة كغيرها من مجيء التيار الإسلامي إلى الحكم، ورغم ذلك نراها في أحد المشاهد تُجادل صديقتها بعد أن ارتدت الحجاب قائلة لها إن الإخوان لن يحوِّلونا إلى مجتمع مثل المجتمع السعودي، فبلادنا قائمة على السياحة بالأساس، فكيف هذا؟ ومع إزاحة النظام العسكري للرئيس المنتخب وتبدل الأحوال في البلاد تتبدل أمل.

خفوت الأمل واستسلام للواقع

مع مرور الوقت وتحت وطأة السنوات المريرة يخفت كل بصيص أمل أو نور يَلوحُ في الأفق القريب، وينسحب هذا أيضًا على بناء الفيلم وشخصية أمل ذاتها، نرى الواقع برتابته وكآبته وانسداده يُخيّم رويدًا رويدًا دون أن يترك أي مساحة للفعل أو التنفس، فتنسحب أمل تدريجيًا إلى حياتها الشخصية ودراستها وأسرتها وعلاقتها الشخصية مع حبيبها، ويتراجع الهم السياسي وكل رغبة في التمرد أو تغيير الوضع القائم مع الخوف من الاعتقالات.

باختصار، نرصد تدريجيًا انسحاب الأمل وخفوته في مُقابل اليأس والاستسلام التام للواقع بكل ثقله. ومن ثمَ نُشاهد علاقتها غير المُستقرة مع حبيبها الذي يُحدِّثها عن ملابسها وما ينبغي أن ترتديه من عدمه وجدالها معه، ثم جدال آخر بشأن التدخين، فترد بأنها طيلة حياتها لم تسمح لأحد بالتحكم فيها أو في شخصيتها أو أسلوب حياتها ومعيشتها، وسؤالها عن الفارق بين الشاب والفتاة إلى آخره. ولذا سُرعان ما تنتهي تلك العلاقة بالانفصال الذي يترك آثاره على أمل فتخلع الحِجاب، تقص شعرها ثانية وتقطع شرايينها، وفي الخلفية من كل هذا تفتقدُ والدتها، فما من أرضية مُشتركة للحوار أو التفاهم معها رغم حُبِّها لها.

ومن هنا تأخذ أمل في الاهتمام بدارستها وبالثانوية العامة، ويحدوها الأمل في الدخول لجامعة تُرغّبها رغم يقينها كما تُخبر صديقها بأن لا أحد في مصر يفعل أو ينال ما يُريده. ترتدي أمل الحجاب ثانية وتحصل على مجموع لا يُؤهلها لكليات القمة، فتُقرر بالتفكير في الدخول إلى كلية الشرطة رغم عِلمها بصعوبة الأمر. تُجادلها صديقتها قائلة في اندهاش، أنت من كنت ضد الشرطة ومُمارساتها القمعية الفاسدة وما حدث لك على أيديهم ترغبين في أن تكوني في نهاية المطاف واحدة منهم؟

تصمت أمل فجأة وتحاول العثور على إجابة، فتتحدث وهي مُدركة لحالمية وعدم واقعية ما تقوله عن فشل التغيير من الخارج، وأن الأمر ربما يأتي ثماره حتى ولو على المدى البعيد، مع العمل على إحداث التغيير من الداخل، وتعني به من داخل جهاز الشرطة نفسه بعدما تلتحقُ به. وتدريجيًا مع من هم على شاكلتها سوف يحدث التغيير المأمول. وبعد مشهد العدو الذي أشرنا إليه سابقا ونزول القوائم الختامية، نرى مُجددًا لقطة ليد أمل فحسب، بينما تتحسس بطنها، فأمل حُبلى الآن وهي في العشرين من عمرها.

أمل القوية المشاكسة.. ماذا عن الضعفاء؟

على مُستوى الشخصية وليس فقط كأنثى، وبصرف النظر عن الثورة وتبعاتها عليها، تُعتبر أمل من النماذج البشرية النادرة من حيث الجرأة والإقدام والاستقلالية والصلابة إلى آخره. ولو أضفنا إلى هذا كله حداثة السن حيث العنفوان، ووضعنا في الاعتبار طبيعتها كأنثى، لا يسعنا إلا الاندهاش من هذا النموذج؛ اندهاش إيجابي لكل خِصالها الحميدة وتكوينها المُستقل وشخصيتها المُتمردة التي قد يحسدها عليها الكثير من الرجال والنساء. وأيضًا الاندهاش السلبي الذي يجعلنا نتساءل عمّا حدث لأمل التي عرفناها طيلة أحداث الفيلم مُقارنة بتلك التي تبدلت 360 درجة قُرب نهاية الفيلم.

صحيح أنها تحدثت في أحد  المشاهد عن رفاق الثورة ممن قتلوا أو سجنوا أو سافروا أو انغلقوا على أنفسهم وحيواتهم أو تزوجوا أو سوى ذلك، لكن على امتداد الفيلم لم تكن شخصيتها تُوحي نهائيا بذلك الضعف وهذا الاستسلام، بانتفاء الأمل في إحداث تغيير من أي نوع وعلى أي صعيد حتى الشخصي. وإذا تحدثنا عن انتقالها من طور المُراهقة إلى البلوغ، فالأمر أعمق وأعقد بكثير. فهل أدركت أمل أنها كانت تعدو في المضمار في مسارها الخاص الذي سيُعيدُها لنقطة الصفر وهي تُغرِّدُ بمفردها؟

العديد من الأسئلة لا تُبارح ذهن المُتلقي عقب انتهاء الفيلم، منها ما هو مُتعلق بمدى قدرة المرء بصفة عامة -ومثل تلك الشخصيات بصفة خاصة- على الصمود والتحدي ومقاومة الضعف وعدم القدرة على تحمُّلِ المزيد وعلى الاستسلام أو حتى الخنوع. ومن ثم تجدنا هنا وقد انجرفنا بعيدًا خارج دائرة الثورة وأحداثها الثقيلة الوقعِ على أمل وغيرها، وبعيدًا عن الثورة المصرية والثورات العربية وما حدث ولا يزال، إلى ما هو شخصي ذاتي له طابع أو قاسم إنساني وكوني مُشترك، لا يخلو من العُمقِ الفلسفي قبل أي تحليل نفسي أو اجتماعي أو سياسي. وعليه نتساءل بصوت عميق وفي تأمل بالغ، لماذا؟ وإن كان هذا هو مصير الأقوياء فهل سيأتي الدور آجلا أو عاجلا على الآخرين؟ هل كانت “أمل” أملا بحق؟ وهل من “أمل” أو أمل هناك؟