تهريب المهاجرين.. طريق الوصول إلى أوروبا

لم يكن يخطر في بال أيّ من مخرجي الفيلم الإيطالي “أنا مع العروسة” أنهم وخلال بحثهم عن خطة لتهريب خمسة من المهاجرين القادمين من سوريا هربا من الحرب الأهلية المستعرة هناك؛ سيقودهم بحثهم إلى فيلم تسجيلي سينمائي، والذي سيكون لاحقا فيلما يمتلك العديد من العناصر التي تؤهله ليكون أحد أبرز الأفلام التي تتناول موضوع الهجرة غير الشرعية لعام 2014.

حقّق الفيلم هدفه الأول بالوصول لخطة تهريب المهاجرين لهدفهم أو حلمهم الذي سعوا خلفه بالوصول إلى السويد، وذلك عبر رحلات محفوفة بالخطورة العالية، وليس انتهاء بأن صار من أهم الأعمال السينمائية التي توثق رحلات الموت عبر البحر الأبيض المتوسط للهاربين من الحروب في بلدانهم وتحديدا من سوريا، وصار كذلك وثيقة إنسانية بصرية تعقد محاكمة جريئة وعلنية لقوانين الهجرة الأوروبية.

رسم المخرجون الثلاثة خطة التهريب التي تحولت لاحقا لسيناريو الفيلم، ذلك السيناريو الذي لمعت فكرته بسؤال: هل سيخطر في بال رجال الأمن على المعابر الحدودية البرية بين الدول الأوروبية أن يوقفوا زفة عرس إيطالي مكون من عدة سيارات ليدققوا في هوية العروسين أو مرافقيهم؟

خطة التهريب.. ولادة الفكرة

هكذا وُلدت فكرة الفيلم عند الصحفي الإيطالي ومؤسس مرصد ضحايا الهجرة نحو أوروبا غابريّلِه دِلْ غراندِه، فقد طرح سؤاله على زميليه حين كانا يتناقشان في كيفية مساعدة مجموعة من المهاجرين الفلسطينيين والسوريين الذين وصلوا إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية هاربين من ويلات الحرب الأهلية، ليستكملوا رحلتهم من إيطاليا إلى السويد.

كانت هذه التجربة السينمائية هي الأولى للمخرجين خالد سليمان الناصري (شاعر وناشر من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق ويقيم منذ عدة سنوات في ميلانو)، ولغابريّلِه دِلْ غراندِه، لكنها لم تكن الأولى بالنسبة للمخرج الثالث الإيطالي أنتونيو أوغوليارو.

انطلاقة حفل الزفاف المزيف للعروسين من إيطاليا وصولا للسويد، في محاولة للتحايل على قوانين الهجرة الأوروبية

تعرّف المخرجون إلى المهاجرين الخمسة أثناء قيامهم بزيارة إلى المحطة المركزية في ميلانو، حيث يتجمع القادمون من اللاجئين قبل أن يُكملوا رحلتهم من هناك لبقية أوروبا.

التقوا بداية أولى شخصيات فيلمهم عبد الله، وهو شاب فلسطيني سوري كان طالبا في جامعة دمشق، وواحدا من قلّة قليلة نجت بعد غرق قاربهم قرب جزيرة لامبيدوزا في الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2013، واستمعوا منه لقصة غرق تلك السفينة، فقرروا توثيق الأحداث. ولاحقا تعرفوا إلى الفتى منار، وهو مغني راب من دمشق يبلغ الـ12 من عمره، والذي وصل مع أبيه علاء إلى سواحل صقلية بعد 14 يوما من خروجهما من مصر على متن قارب صغير.

“زفّة العروس”.. موكب مزيّف

وحين جاء غابريلِّه بفكرة زفة العروس؛ عرّفهم الشاعر السوري المقيم في السويد فرج بيرقدار (صديق للمخرجين) إلى الفلسطيني الأردني أبو نوّار وزوجته السورية منى اللذين انطلقا من ليبيا، حيث تركا خلفهما أولادهما الثلاثة ليضماهما معهما في الرحلة.

بدأ البحث عن العروسة التي سترتدي الفستان الأبيض خلال الرحلة، وبعد عدة خيارات مطروحة للمناقشة، تواصل خالد مع تسنيم التي جاءت من إسبانيا خصيصا لتكون معهم في تلك المغامرة الخطيرة وغير القانونية، والتي أيضا كانت قبلها بمدة قد ظهرت كأحد شخوص الفيلم التسجيلي الفرنسي “شباب اليرموك”، فلم تتردد لحظة في التطوع.

وعندها أمهل أنطونيو طاقم الفيلم 15 يوما ليقرروا إما ت

شخوص فيلم “أنا مع العروسة” يتبادلون سرد حكاياتهم المتشابكة، وهي كلها حكايات لرحلة هربا من الموت

نفيذ الفكرة بإعداد الموكب وتحديد الفريق الذي سيكون ضمن الرحلة ورسم الخطة، أو لن تكون هناك رحلة من الأساس، ووضعهم منذ تلك اللحظة أمام التحدي الكبير. ومن بعد ذلك كله بدأت أحداث الفيلم.

يتبادل شخوص فيلم “أنا مع العروسة” سرد حكاياتهم المتشابكة، حكايات لرحلة موت هربا من الموت، ليصل الفيلم إلى ذروته عندما يصل موكب العرس المزيف إلى مدينة “بوخم” الألمانية، حيث يعقد اللاجئون محاكمة للدول الأوروبية السبع عشرة التي أعلنت عن استثناءات في قوانين اللجوء والهجرة لديها، لتسمح باستقبال اللاجئين الهاربين من مناطق الصراع والحروب، وتحديدا للقادمين من سوريا، وتبدأ تلك المحاكمة بعبارة لأبي نوار في الفيلم: “في بني آدم بيدفع ألف دولار ثمن موته؟”.

ضجّة بإيطاليا واستحسان جماهيري

ليست قصة الفيلم وحدها التي جعلته يثير تلك الضجة الواسعة في إيطاليا، إذ خالف مخرجوه الثلاثة القوانين الأوروبية بمرافقتهم “مهاجرين غير شرعيين” من إيطاليا إلى السويد، بعد اختراع حفلة العرس المزيفة، بل أيضا لأن عناصره الفنية على مستوى الحوارات والموسيقى والمؤثرات والسيناريو محكم البناء، بالإضافة إلى ملامح شخوصه الواضحة وتصاعد الأحداث بشكل منطقي، وتنامي ظهور الشخصيات بناء على نمو الأحداث، وحتى المهنية العالية في تقطيع المشاهد إلى لقطات بأحجامها المختلفة “الديكوباج” اللقطة البعيدة، واللقطة المتوسطة واللقطة القريبة واللقطة القريبة جدا، وبطبيعة الحال الحركة المدروسة والمتقنة للكاميرا، وحركة الشخوص داخل الكادر، والانتقال من لقطة إلى لقطة ومن مشهد إلى مشهد بسلاسة ودقة، جميعها عناصر قدمت بشكل متكامل فيلما مميزا استحق بذلك التقدير والاحتفاء.

حظي الفيلم في أول عرض له في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في دورته الـ17 بتعاطف واستحسان جمهور المهرجان، إذ وقف الجمهور للتصفيق له طوال 17 دقيقة في نهاية العرض، وهي المدة الزمنية لشارة النهاية للفيلم التي حملت أسماء من قدموا دعما ماليا للفيلم الذي اعتمد في إنتاجه على التمويل الجماهيري.

العروسان السوريان الهاربان من جحيم الحرب الأهلية السورية إلى أوروبا

وفي المؤتمر الصحفي الذي تلا العرض ارتدت مجموعة من النساء زي العروس الأبيض تعاطفا مع الفيلم الذي تحول لقضية رأي عام في إيطاليا وأوروبا بشكل عام، وتضامنا مع فكرته في الوقت الذي تعاني فيه إيطاليا بشكل كبير من تنامي عدد المهاجرين القادمين لها كمحطة نهائية أو محطة عبور لدول أوروبية أخرى كالسويد، حيث وصفته وكالة الأنباء الإيطالية قبل عرضه أنّه من بين عشرة أشياء تدفعك لحضور المهرجان.

بعد الثورة السورية أعلنت 17 دولة أوروبية استعدادها لاستقبال اللاجئين السوريين والفلسطينيين القادمين من سوريا، بيد أن أولى الخطوات التي تلت هذا الإعلان كانت أن أغلقت تلك الدول جميع منافذها الرسمية في وجوه من أعلنت عن نيتها استقبالهم وتأمين مأوى آمن لهم، لتتركهم عرضة لتجار البشر.

جائزة “أبّا”.. عن حقوق الإنسان

حصد الفيلم ثلاث جوائز في أول مشاركة له في مهرجان دوليّ، على الرغم من أنه لم يكن ضمن جدول المسابقات، وهي جائزة مجمع نوادي السينما الإيطالية (فيديك) وجائزة النقاد الاجتماعية وجائزة حقوق الإنسان، كما حظي الفيلم بلقب حدث المهرجان.

في مهرجان ميلانو السينمائي حصل الفيلم على جائزة “أبّا” ضد التمييز العنصري، تلك الجائزة التي سميت باسم “أبّا” الولد الأفريقي الذي قتله عام 2008 عنصريون ضربا بالعصي بحجة أنه سرق علبة بسكويت وكان عمره 19 عاما، فمن حينها أصبحت والدته تقوم بتسليم هذه الجائزة السنوية لكل مشروع أو شخص يتحدث عن المساواة أو حقوق الإنسان. كما حظي الفيلم باحتفاء في بقية مشاركاته اللاحقة في المهرجانات، وفي مهرجان دبي السينمائي ومهرجان إدفا الدولي للأفلام التسجيلية وغيره.

يمكن أن نرى أن هذا الفيلم وإن كان ناطقا بالعربية، فقد تجاوز الأطر التقليدية للأفلام التسجيلية العربية، بل إن بعض النقاد الإيطاليين يرون أنه يؤسس لمدرسة جديدة في الفيلم التسجيلي، أو ربما يمزج بين عدة مدارس أو أطر في الفيلم التسجيلي، فنراه تارة يلامس بمشهديته وإيقاعه اليوغسلافي المخرج إمير كوستوريكا، وفي نهايته يقترب من أسلوب المخرج الإيطالي فيديريكو فلـيني، وهو ما يجعله منهجا حديثا يمزج بين أساليب ورؤى حديثة بالفيلم التسجيلي، ويحقق فرادته في تقديم قصته وتحقيق هدفه السينمائي والإنساني.