“أهلا وسهلا”.. فرنسي يقتفي آثار جده بين بدو الصحراء السورية

يستعيد المخرج الفرنسي “لوقا فيرنييه” في فيلم “أهلا وسهلا” تجربته الشخصية في سوريا التي جاءها عام 2009 باحثا عن جذور علاقات جده بأهلها حين حل بينهم قبل وصوله إليهم بعقود.

وقد جاء ومعه صور التقطها الجَد أثناء خدمته كضابط فرنسي في وحدة الهجانة خلال مرحلة الانتداب في ثلاثينيات القرن المنصرم، أما مرجعية بحثه فكانت كتاب “قَدَر” الذي كتبه الجَد على شكل سيرة ذاتية حكى فيها تجربته في صحراء بادية الشام التي خدم فيها، ويحكي فيها عن شِدة تأثره بصداقات أهلها وشيوخ قبائلها.

وصف الجد لعمق تلك العلاقات وكشفه عن معدن أهلها الأصيل دفع السينمائي الشاب لاقتفاء أثره، والتعرف على الجيل الجديد من أبناء القبائل البدوية، وسكان مدينة تدمر على وجه الخصوص التي أحبها ووثق جَدّه جوانب من الحياة فيها.

تزامن جزء من رحلة الحفيد الفرنسي إلى سوريا مع انطلاق ثورتها، وتسبب القمع الذي قوبلت به الثورة من قبل السلطات في تفريق شمل عوائل من تعرف عليهم وهجرة الكثير منهم خارج البلاد، بحثا عن حماية من بطش وموت.

قرر “فيرنييه” لاحقا البحث عن مصائر تلك العائلات ومعرفة ما حل بهم، مدفوعا بإحساس غامر بواجب الوفاء لصداقة وامتنان لطيبة وصدق مُتجذرين في سلوكهم، وقد وجدها قبله جده فيهم وأثرت فيه.

“أبونا”.. حكايات عسكري في قلب الصحراء

في متن الوثائقي وعمق بحثه في الصحراء السورية شيء من البحث عن الذات، إنه بحث عن تواصل انقطع في فرنسا ويريد إعادته. يُكاشفنا به المخرج “لوقا” بصوته الذي سيلازم الصورة طيلة زمن الوثائقي ويحيله إلى حكاية شخصية تُسرد بالصوت والصورة دون انفكاك بينهما.

يخبرنا المخرج أنه لم يتعرف شخصيا على جَدّه، بل سمع فقط بأسطورته، لقد سمع فقط بقصة “أبونا”، فهكذا يلقبونه داخل العائلة، إنه ابن العسكري الذي صار هو أيضا عسكريا ولكن بالخطأ ودون تخطيط، ووجد نفسه في مرحلة من حياته المهنية في قلب صحراء وسط بدو لم يتصور ابن المدن الفرنسية يوما أنه سيُقيم صداقات حميمة معهم وسيتأثر بسلوكهم ويكتب عنهم كتبا ومقالات حتى آخر لحظة من حياته.

قلعة حلب التي بدأ المخرج “لوقا فيرنييه” البحث عن أصدقاء جدّه هناك، حيث يحتفظ بصور فوتوغرافية قديمة التقطها جدّه في المنطقة

قلعة حلب.. خيط تتبع من أرشيف الصور

بدأ المخرج البحث عن أصدقاء جَدّه التدمريين من قلعة حلب عبر صور فوتوغرافية قديمة التقطها الجد، ويظهر فيها أشخاص من أهل المنطقة وشيوخ قبائل معروفة وبعض أبنائهم الذين خدموا في وحدته، ثم ارتبط مع بعضهم بصداقة، وشكلت تجربته معهم وعلى أرضهم وبين أهلهم جزءا مهما من تجربته السورية.

حمل الحفيد هذه الصور الفوتوغرافية مع بعض الكلمات العربية التي تعلمها، وراح يسأل الناس الذين يلتقيهم عن ما إذا كانوا يعرفونهم أو يعرفون من يستطيع المساعدة في إيصاله إلى قبائلهم أو أهلهم.

صورة لمدينة تدمر وعراقتها وآثارها الباقية حتى اليوم ولمحات من تاريخ قبائلها

رحلة إلى تدمر.. وحدة المكان واختلاف الشخوص والأزمنة

كان عمر المخرج حين شرع في رحلته إلى تدمر 24 عاما، وهو نفس عمر جده حين وصل إلى سوريا عسكريا، وقد أعانه كتاب سيرة الجد في السؤال المحدد عن قبائل وعوائل سورية بعينها مثل الحديديين والدِبل والمرشد ومطلق وغيرهم.

للوصول إلى القبائل والعوائل السورية قطع المخرج طرقا صحراوية، وذهب للسؤال عنهم عند أناس استقبلوه وأضافوه ولم يبخلوا في مساعدته، وكانت طيبتهم واضحة وسلوكهم عفويا لا يبطن عكس ما يظهر. التقط “فيرنييه” خلال مكوثه القصير بينهم ومبيته في خيامهم تحولا في أحوالهم عن ما كانت عليه يوم وصل إليها جده، وثبتت كاميرته الفوتوغرافية جزءا من تفاصيلها.

فقد دخلت الكهرباء إلى خيمهم وتوفر الماء أكثر من قبل عندهم، كما تعلم أبناءهم في المدارس وتعلموا كيفية استخدام التقنيات الحديثة أيضا، ومع كل ذلك ما زالوا ينتمون في أعماقهم إلى الصحراء التي جابها جده الفرنسي برفقة أجدادهم.

صورة للنقاء والبراءة اللتين تفرضهما الصحراء السورية على أبنائها البدو

في حضرة رجل المخابرات.. كرم الصحراء المضيافة وإباؤها

في خضم الإحساس الغامر بالنقاء والبراءة اللتين تفرضهما الصحراء السورية على أبنائها البدو ينتبه السارد إلى وجود من يحاول إفسادها، وهو رجل المخابرات المكلف من السلطة الحاكمة برصد ومراقبة الناس في كل مكان.

يفعل الحذر فعلته ويوثق السارد حادثة صغيرة تدلل عليه، حين طلب منه مضيفوه الانتقال إلى خيمة النساء حفاظا على سرية وجوده بينهم، وحتى لا يتعرض لمساءلة أجهزة الأمن، وهو موقف على بساطته يكشف عن حذر واع وشجاعة في حماية الضيف الغريب.

وجد “لوقا” عند أبناء وأحفاد أصدقاء جَده في تدمر مثل هذه الحماية، وحظي برعاية وحسن ضيافة لافتين، وسيتعزز وجود رجل المخابرات أكثر كلما مضى في مهمته. يُثبت “لوقا” بدهاء ملاحقة أحدهم له في أنحاء المدينة، وكيف يحاول التملص من مراقبته اللصيقة.

يعبر “لوقا” عن فهمه لسلوك الديكتاتوريات، وفي ظلها كيف يمكن أن يصبح أي فعل يمارسه الشخص العادي جرما يستحق عليه العقاب.

آثار مدينة تدمر العريقة التي زارها مخرج فيلم “أهلا وسهلا”

تدمر العريقة.. توثيق تاريخ قبائل عربية سورية

يعثر المخرج عند الحديديين وأبناء أحمد دِبل وغيرهم من أبناء وأحفاد أصدقاء جَدّه القدامى عن ما كان يبحث عنه من دلائل التواصل الدائم بين التاريخ والمكان، ليستثمر “أهلا وسهلا” ذلك التواصل المستمر والمتشابك، ويحيل جزءا من وثائقيه إلى سرد في تاريخ القبائل العربية في الصحراء السورية كالذي يكتبه الرحالة، لكن بفارق أنه يسجله بعدسات كاميرة سينمائية وبقلب محب وعقل منفتح.

يوثق “فيرنييه” عبر شهادات من أبناء الصحراء عاداتهم وتقاليدهم ويسترجع تفاصيل علاقة جَدّه بها، وكيف استطاع التَكيّف معها بمعونة من تعرف عليهم، وإقامة صداقات حقيقية معهم تجاوزت حدود العلاقة المهنية إلى الإنسانية الأبعد التي تتجاوز بشكل يدعو إلى الدهشة تعقيدات السياسية وتشابك مصالحها.

جمع “لوقا” في وثائقيه بعضا من تاريخ مدينة تدمر وعراقتها وآثارها الباقية حتى اليوم ولمحات من تاريخ قبائلها، فقد وجد عند مصور من أهلها (استوديو الزعبي للتصوير) الكثير مما يمكن به تعزيز متنه الحكائي، وفي مرحلة لاحقة حين تنشب الحرب الأهلية السورية يصبح هذا الشخص من بين الذين يتابع المخرج مصائرهم في بلاد الهجرة القسرية.

أبناء وأحفاد أصدقاء جدّ المخرج “لوقا فيرنييه” يرحبون به في بيوتهم وبين عوائلهم في سوريا

احتقان ما قبل العاصفة.. زيارة ثانية في ظرف استثنائي

أغنت زيارة “لوقا” لأبناء وأحفاد أصدقاء جَدّه في بيوتهم ووجوده بين عوائلهم مبحثه التاريخي، وعززت مادته الفيلمية لتتجاوز اللقاءات والمقابلات السريعة إلى دراسة بصرية مكثفة في العادات الموروثة التي تعكس ضمنا خصال وسمات مجموعة سكانية من أبناء الشعب السوري ترافقت زيارته الثانية لها عام 2011 مع حدوث تغيرات سياسية جذرية وتحولات مواقف مست حياتهم بالعمق وقلبتها بالكامل.

قبل مغادرته تدمر مضطرا في أوائل شهر أبريل/ نيسان من ذلك العام بسبب خطورة الأوضاع السياسية التي رافقت انطلاق الثورة السورية وما أعقبها من تصعيد لأعمال القمع والقتل وزج السلطات بالثوار والمطالبين بالديمقراطية في السجون والمعتقلات؛ يصور “أهلا وسهلا” واجهة سجن قديم يقع في مفرق منطقة القدموس مُنع من الدخول إليه.

أراد “لوقا” رغم المنع تأكيد وجود آلاف من أبناء الشعب السوري بين جدرانه وفي عمق أقبيته المظلمة. يثبت أيضا مشهدا لأرتال من سيارات شحن مدنية خارجة من القرى تنقل مدنيين هاربين منها إلى وجهات مجهولة.

مخرج فيلم “أهلا وسهلا” الفرنسي “لوقا فيرنييه” يبحث في فيلمه عن جذور علاقات جده بأهل سوريا

“أراكم قريبا”.. اندلاع شرارة الثورة السورية

لا يجد “لوقا” أكثر من عبارة “أراكم قريبا” ليودع بها أصدقاءه والمكان الذي ألفه خلال مدة قصيرة وشهد تحولاته الدراماتيكية، لقد آمن رغم ذلك بانتصار الثورة وبعودة سريعة إلى سوريا، لكن مع مرور الوقت تأكدت له استحالة ذلك.

وفاء لصداقاته يمضي “لوقا” في تواصله معهم، وقد توزعوا تحت النجوم المتناثرة، حيث تصله في باريس مشاهد القتل اليومي. يعلن عن صدمته بعد مشاهدته لفيديو تظهر فيه جثة شاب خرقت رصاصة قناص جسده.

تذكر اسمه عدنان ومتى التقى به أول مرة وكيف ساعده في مهمته. في كل يوم تصله أخبار الحرب السورية ومغادرة الكثير ممن عرفهم إلى بقاع الأرض المختلفة، فيقرر نقل تفاصيل وجودهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر كاميرا كُلفَت بتوثيق يومياتهم في المنفى.

من الأردن إلى بريطانيا.. تناثر في فضاءات الغربة

تزور كاميرا الوثائقي في الأردن صديقه عبد السلام اللاجئ في معسكر الزعتري، وتلاحق أيضا حياة مجموعة أخرى تسكن شقة في عمان، وعوائل في إسطنبول احتضنته وكرمته يوم حل بينها ضيفا، أما الآن فهي غريبة وبعيدة عن منازلها.

يسجل “لوقا” أحاديثهم ووصفهم لما يجري في بلدهم من قمع وحشي وخراب طال استوديو الزعبي فخسرت بذلك تدمر كنزا تصويريا وأرشيفا مهما وثق جزءا من تاريخها.

يصور في بريطانيا صديقا له وصل إليها لاجئا مع عائلته، ولا يفوت توثيق لحظة مراسيم تسلمه الجنسية البريطانية، لما فيها من عمق دلالة، فمع انتشائه بفرحة تسلم الجنسية ينهض راقصا على إيقاع موسيقى دبكة بدوية تنبعث من هاتفه المحمول.

لن ينفصل البدوي عن جذوره الصحراوية ولن تنهي إقامته في أوروبا موروثا حفظ منه جيدا عبارة “أهلا وسهلا” التي طالما استقبل بها “لوقا” أثناء وجوده في سوريا.