“أوسلو 31 أغسطس”.. محطات شائكة على طريق الانتحار

الفيلم النرويجي “أوسلو 31 أغسطس” (Oslo 31 August) الذي أنتج 2011؛ يعد من الأفلام الشهيرة النادرة التي تناولت الانتحار كموضوع رئيسي، فلم تزعق بصوتها لكي تناقشه كظاهرة، وإنما جعلتنا نشعر به كحقيقة جلية نقرأ عنها كل يوم، فبعضنا يحكم عليها، وبعضنا يدعي أن له قصة هواجس تجمعه بها، والبعض الباقي يغض الطرف عنها، لكن قليل منا من يتورط بحق معها في مواجهة قريبة.

نرى البطل في بداية الفيلم وهو يخلع قميصه وينزل إلى بحيرة عطنة الماء، فيتناول حجرا ثقيلا وهو بصدد التعمق حتى يفقد الأرض من أسفله، وبعدها يختفي في القاع ممسكا بالحجر، فيغيب عن أنظارنا لثوان، فإن كنت تشاهد الفيلم لأول مرة ستعرف أنه سينجو، لأنه لن يستطيع فعلها، فالأبطال الذين ينوون الانتحار في الأفلام قلما ما يفعلونها حقا، حتى وإن قاربوا فعلها لأقصى درجة.

يظهر البطل على سطح المياه من جديد متقطع الأنفاس خائب المسعى، فهذه المرة لم يفعلها حقا، لكن ما لا تعرفه -إن كنت لم تر الفيلم- أنه سيفعلها بقلب بارد في النهاية.

“أن تحيا وأنت غير مؤمن بالمعجزات”.. صراع المتناقضات

قال البطل لصديقه: “أتتذكر حينما قلت لي مرة أن المرء إذا أراد أن يدمر نفسه فعلى المجتمع أن يساعده في هذا أولا”. قال هذه العبارة وهو يبوح له أيضا بأنه قد استقر تقريبا على قرار الموت، وكأنه كان يعلم أن جميع المحيطين به سيخذلونه في ذلك اليوم الفارق من حياته (يوم 31 أغسطس).

فقد تخلت أخته عن موعدها معه وأرسلت له صديقتها بدلا منها، وحبيبته لم تجب على رسائله الصوتية الثلاث التي طلب فيها أن يراها، وأما صديقه الذي كان يترجاه أن يلتقيا مساء في حفلة فإنه تخلف عن المجيء رغم علمه بأن صديقه يمر بأزمة نفسية قابلة لأن تتحول لانتكاسة فورية.

يدور الفيلم حول ذلك الصراع بين المتناقضين، بين البياض والسواد، بين “أن تحيا وأنت غير مؤمن بالمعجزات، أو تحيا وأنت تعتبر كل شيء معجزة” كما قال أينشتاين، بين “سأكون بخير لقد تجاوزت أمورا أصعب بكثير” وبين “لا، قد أشعر أنني بخير لفترة ولكني في الحقيقة لم أكن بخير أبدا”.

تنحاز أفلام كثيرة للجانب الإيجابي من هذا الصراع، حتى وإن تمادت في معايشة الجانب السلبي، وحمدا لله أن تلك الأفلام موجودة، ولكن هذا الفيلم قرر أن يقف عند لحظة الانهيار ويعايشها، فلا يُقيمها ولا يحرضك كمتفرج أن تفعل هذا بدورك، وإنما يتعامل معها باعتبارها واقعا حدث، ويحدث، وسيحدث.

بالرغم من ملصق الفيلم المشرق الذي يصور لحظة السلام الوحيدة التي عاشها البطل في يومه، وهي لحظة حط رأسه فيها على كتف فتاة عرفها لتوه، وكان يتنزه معها على دراجة تقودها، فنراه مطمئنا مُغمضا عينيه وكأنه الآن فقط يأمن أن يغض بصره عن العالم، إلا أن الفيلم اختار النهاية القاتمة الصادمة التي لن تغير فيها لحظات السلام المصائر المحتومة المحكوم عليها بالإعدام سلفا.

البطل يتحدث مع صديقة أخته التي أتت بدلا منها في موعدهما، حيث أشارت إلى أن الأخت تعاني من خيبات أمل وافتقار للثقة من أخيها

مثالية البطل.. نقاط بيضاء في صفحة سوداء

لم يدافع الفيلم عن البطل أو يرفعه على المسرح ويقدمه في دور الضحية، بل قام بإدانته فيما بين سطور مشاهد كثيرة، منها المشهد الذي يقابل فيه الشخص المنافس له على حب صديقته السابقة، فنرى هذا الشخص وهو يلمح له عن طريقته المنفرة التي يتعامل بها مع القريبين منه، ويؤكد أنها منفصلة تماما عن كونه مدمن مخدرات سابق.

يراودنا الشعور ذاته بشأن البطل حينما كانت صديقة أخته تحاول أن تشرح له أسباب عدم مجيئها لموعدهما، وقد أشارت الفتاة بشكل ضمني إلى كون الأخت تعاني من خيبات أمل متراكمة أودت بها في النهاية لافتقار الثقة والأمان مع هذا الأخ، بالرغم من كونه بات مستعدا الآن لكي يعوضها عن ما فات.

يمكننا تأكيد نفس المعنى أيضا من خلال قراءة المعطيات المقتضبة التي قدمها لنا السيناريو حول علاقة البطل بوالديه، فالجميع في منتصف حوارات تخص موضوعات أخرى، يمر السيناريو عابرا بعلاقة البطل المعقدة بأبيه وأمه، ثم يأتي مشهد لن نراه إلا في فيلم للمخرج “خواكيم تراير”، وقد رأينا مثله في فيلمه المميز “بصوت أعلى من القنابل” (Louder Than Bombs)، فنستمع لصوت البطل وهو يروي ومضات عشوائية متتالية عن طبيعة والديه، وعن شكل تعاملهما معه بينما يهيم على وجهه في شوارع أوسلو.

نفهم بشكل أو بآخر من هذا السرد العصبي الذي يتبدى بصورة هادئة مزيفة أن البطل يكِن احتراما جارفا تجاه أبيه وأمه، ويحبهما، لكن هذا لم يمنعه من انتقادهما، ورؤيته لتناقضهما فيقول مثلا: كانا يكرهان الرجعيين، وهما اللذان احتاجا لأمد من الزمن قبل أن يقررا ابتياع جهاز فيديو.

وهكذا يحكي عن علاقته الخاصة بهما، فهو يُقّدِر الكثير مما زرعاه فيه من تذوق للفن وعدم التدخل في شؤون الغير، لكنه أيضا يشير بشكل غامض إلى اتهامهما بعدم القرب منه بما يكفيه، فيقول: احترما خصوصيتي، أعتقد أنهما فعلا ذلك بقدر أكبر من اللازم.

البطل وهو يفارق صديقه على أمل اللقاء الذي لم يتم في المساء رغم علمه بأن صديقه يمر بأزمة نفسي

“شخص بائس يحتاج من يشعر تجاهه بالشفقة”.. تعاطف مع محنة البطل

رغم إدانة السيناريو للبطل فإنه لا يدفعك لمقته أيضا، فمثلا لم يجعل أخته تغلق باب علاقتهما بشكل نهائي، وإنما جعل صديقتها تؤكد: “أنها فقط تحتاج مزيدا من الوقت”، ومن الطريقة التي تلهّف بها صديقه عليه حينما أخبره عن نيته في الانتحار، ومن تلك النظرة التي اعتلت وجهه وهو يوصيه في آخر لقاءهما أن لا ينتحر؛ نعرف أنه كان صديقا جديرا بالافتقاد رغم كل شيء، وكان أيضا أخا جيدا وابنا جيدا وشخصا يستحق الحب الذي تخلى عنه في وقت فيصلي توقفت عنده الحياة بينما بدأ الموت.

لم يجعلك السيناريو تبغض البطل، ولم يكن حياديا نحوه أيضا، بينما حملك برقة وألم لكي تتعاطف معه، وتشعر بوحدته وعجزه، لتكون شاهدا متورطا في جنائزية اللحظة التي يقتل فيها نفسه، معتقدا أن هذا هو الحل الوحيد، فهو في وجهة نظر نفسه “شخص بائس يحتاج من يشعر تجاهه بالشفقة”.

هكذا قال للفتاة التي حاولت التقرب منه (فتاة الدراجة) في آخر أمسية قضاها بسعادة وسلام، ولعله في دخيلته كان يخشى أن ترى تلك الفتاة نفسها جديرة بذلك، جديرة بأن تعيد إليه ثقته في نفسه وفي العالم، فيستنفذ منها هذا العمل طاقتها، ويسلب منها إقبالها على الحياة، وهي العاكفة بحيوية على دراسة الطب، وتنتظر مستقبلا حافلا أمامها، فحتى قبسات الأمل هنا مشينة فيها رائحة من شبهة الجناية، والراحة الكاملة تكمن في التخلي عنها كليا بما تحمله من احتمالاتها المروعة.

فهل كان البطل محقا في اختياره قتل نفسه، هل ثمة حقائق لا ينجح التحايل عليها حتى وإن بدا فعالا لفترة مؤقتة طويلة كانت أم قصيرة؟ إنها أسئلة يتركها الفيلم في رأسك ممتزجة بوجع هائل لا يفارق صورة الظل الأسود للبطل في الإضاءة الطفيفة، وهو يحقن نفسه بالجرعة الزائدة، ويمضي مطمئنا.

المخرج النرويجي المتفرد “خواكيم تراير”، وهو الرجل الذي يصنع أفلاما بمنطقه المرهف الخاص

“خواكيم تراير”.. اقتباس روائي بأسلوب مرهف

هذا الفيلم الذي بين أيدينا هو فيلم من إخراج المخرج النرويجي المتفرد “خواكيم تراير” الرجل الذي يصنع أفلاما بمنطقه المرهف الخاص، أفلام يسعها أن تجمع بين خصال الرقة والدقة والجمالية في صنعها، أفلام ستبقى دوما في قلبك حتى وإن شاهدتها لمرة واحدة ومنذ أمد بعيد.

رغم أن “تراير” يقتبس هذا الفيلم عن رواية، فإنه يصبغ على حبكته منهجه الخاص، وأسلوبه الذي يكثف به تجسيد المشاعر التي تُتخَم بها روح البطل، بداية من لحظات الصمت التي تقتحم شريط الصوت، فتكبته وتكتمه وتضفي عليه شعورا متعبا ومقيدا، فتكون خير دليل على ضيق استيعاب صدر البطل لمفردات الحياة من حوله، وتعطل استقباله لموجات صخب الحياة، وسكونه المبالغ الذي استحال إلى ركود فظ.

ومن الجوانب الفنية التي دلل بها المخرج على بعض المعاني العميقة تلك الإطارات التي يظهر فيها البطل على مدار الفيلم -خارج إطار العدسة- (Out of focus) مهزوزا لا نراه بوضوح مقارنة بالأشياء من حوله، وكأنه صار مُهمشا منبوذا من قِبل العالم.

لحظة السلام الوحيدة التي عاشها البطل في يومه مع فتاة غريبة عنه

“الدخيل يشعر بالدخيل”.. مجتمع أوسلو المدمر

لن تجد مثل هذا المشهد البديع إلا في أفلام “تراير”، حيث يجلس البطل في المقهى، ويراقب الناس من حوله رغما عنه، فيسترق مقتطفات من أحاديثهم الحية حول عزف البيانو والأطفال والحمقى المثيرين للضحك، وتلك القائمة التي تقرأها فتاة شابة على صديقتها، وتتضمن كل ما ترغب في فعله طوال حياتها، فلا يتماهى مع هذه الكلمات التي تتداول بين اثنين أو أكثر، بينما يؤخَذ بالمارين إلى جانبه في الشارع، فيتتبع بخياله من يشعر بأنه وحيد منهم، ويراه وهو يمارس أنشطته ثم يجلس شاعرا بالنبذ والحزن والعدم.

فكما قال ستيفن كينغ “الدخيل يشعر بالدخيل”، وهؤلاء المُنهَكون الدخلاء، والغرباء عن العالم يستطيع كل منهم التعرف على الآخر بسهولة من بين الحشد، من بين مجتمع “أسلو” الذي لم يمانع أن يقوم فرد منه بتدمير نفسه، بل سمح له أن يفعل ذلك أيضا.