“أين بينكي؟”.. اختطاف رضيعة يفضح خبايا المجتمع الهندي

قيس قاسم

يؤسس المخرج وكاتب السيناريو “بريتفي كونور” حبكة فيلمه الروائي الطويل “أين بينكي؟” على قصة حقيقية جرت وقائعها في مدينة بنغالور الهندية، وأثارت ضجة بسبب ارتباطها باختفاء طفلة رضيعة عمرها ثمانية أشهر من بيت والدتها في ظروف غامضة.

لا يُطيل مسار الفيلم التفاصيل الخاصة بعملية الاختفاء، لأنه أراد الاهتمام أكثر بمجريات البحث عنها، وما ستفضي إليه من كشف لاختلالات قيمية وأخلاقية متغلغلة في نسيج المجتمع الهندي المعاصر، وبمهارة لافتة يقدمها المخرج كنتاج لفوارق طبقية وفقر مُستشرٍ وفساد مؤسساتي طافح.

لا يعرض المخرج كل ذلك المجريات بفجاجة ولا بسطحية، وإنما يضعها في ثنايا نص يتعمد إرباك المُشاهد، ويفاجئه طيلة زمنه بخفايا وأسرار تجعله من بين الأفلام الهندية الجادة المعنية ببحث وعرض مقاطع مهمة من المشهد العام للبلد، بواقعية مُتلازمة مع جماليات اشتغال سينمائي مصحوب بالتوتر والانفعالات.

 

نوم الرضيعة السكرى.. مشهد الاختطاف

تبدأ القصة في بيت صغير وأنيق يجمع تحت سقفه زوجا وزوجة يرعيان طفلتهما الرضيعة “بينكي”، وعندهما خادمة تقوم بشؤون المنزل أثناء ذهابهما إلى العمل.

يحيل المشهد المنزلي إلى انتساب الزوجين إلى الطبقة المتوسطة الهندية، وهي طبقة ظلت بعيدة عن التناول السينمائي لانشغال الكثير من أفلامها بميلودراميات وتراجيديات ذات قطبين فقير وغني، أما الطبقة الوسطى فلا وجود لها بينهما في الغالب الأعم.

يبدأ الحدث الدرامي داخل المنزل بإخراج الخادمة “سانا” (الممثلة غونيالاما) قنينة كحول من حقيبتها لتعطي جرعات منها للطفلة الرضيعة، فتغط في نوم عميق، وبعد لحظات تأتي صديقة لها ترتدي برقعا تخفي شخصيتها الحقيقية تحته، وتقوم بأخذ الطفلة إلى الخارج، وفي الأثناء يجري التفاهم بين المرأتين عن المردود المالي وكيفية تقاسمه.

الممثلة “أكشاتا باندافابورا” التي قامت بدور الأم “بيندو” التي اختُطفت رضعتها في حالة حيرة بعد أن عادت من وظيفتها ولم تجد طفلتها

 

صندوق تحت الجسر.. اختطاف ثان

يحيط الغموض بمشهد الاختطاف، ويزداد حين تنتقل الكاميرا إلى الخارج لتُظهر ذات المرأة المبرقعة وهي تتنقل بين السيارات المتوقفة عند إشارة المرور؛ تستجدي مالا من ركابها وهي تحمل على ذراعها الطفلة الرضيعة.

في مشهد ثان تضع المتسولة الطفلة داخل صندوق كارتوني تحت جسر، وتمضي لشراء جرعات من الكحول المُسكِر، لكنها عند عودتها لم تجد الطفلة، فقد أخذتها امرأة مجهولة واختفت بين الجموع. سماع الخبر وما جرى للطفلة يربك الخادمة ويجعلها تتعجل الخروج من المنزل بحثها عنها، وفي تلك الأثناء تقطع الأم “بيندو” (الممثلة البارعة أكشاتا باندافابورا) دوامها الوظيفي لظرف طارئ، وترجع للمنزل لتجده فارغا، أين ذهبت الخادمة مع طفلتها؟

من ذلك السؤال تبدأ عملية بحث مضنية عن الرضيعة “بينكي”، وستدخل الأم في دوامات وصراعات مع ماض تصورت أنه انتهى ولن يعود.

انتشار الإدمان بين الفقراء.. جانب أخلاقي مسكوت عنه

يجلي المشهد التمهيدي الأول سلوكيات أخلاقية، من بينها انتشار الإدمان الكحولي بين الأوساط الفقيرة، وبشكل خاص بين النساء، وإلى جانب ذلك يتعرض لمفاهيم الخيانة والجشع والتواطؤ (بين الخادمة وصديقتها) على استغلال كل ما هو متوفر من أجل المال، حتى لو تطلب الأمر تأجير طفل امرأة أخرى، وتعريض حياته للخطر.

يكشف الفيلم عند كل منعطف دراماتيكي في مساره جانبا أخلاقيا مسكوتا عنه، أو لم يحظ باهتمام السينما الهندية السائدة بنفس القدر الذي يهتم به فيلم “أين بينكي؟”.

الممثل “أنوب شوناي” بدور العشيق المُتهرب من مسؤوليته تجاه خطف طفلة عشيقته الأم “بيندو”

 

علاقات تحت السطح.. مفاجآت صادمة

تدخل الشرطة على خط البحث عن الطفلة، وعبر ممارسة أحد ضباطها تتكشف ممارسات يغلب عليها الروتين وعدم المبالاة ومعاملة المواطن بازدراء.

يُبَيّت الفيلم إلى جانب ذلك مفاجآت صادمة، ويكشف علاقات مستترة تحت السطح، فمع شدة خوف “بيندو” وحرصها على معرفة مصير طفلتها؛ كان “الزوج” مترددا في الاتصال بالشرطة، وفي السياق الدرامي تتجلى حقيقة أنه لم يكن زوجا شرعيا لها، فقد ربطتهما علاقة عاطفية خارج المؤسسة الزوجية، وحاولا كلاهما التكتم عليها من خلال التظاهر علنا بأنهما زوجان شرعيان.

الارتباك الظاهر على “العشيق” (الممثل أنوب شوناي) وخوفه المستمر من المشاركة في عملية البحث يثيران شكوك الشرطة بتورطه في الحادث، ويُبقي كاتب النص هذا الإحساس ملازما لعملية البحث، ومنه يدخل إلى ماضي الأم، من خلال كشف هوية الزوج الحقيقي طليقها (الممثل ديباك سوبرامانيا)، فبعد انفصاله عنها لم يهتم بشؤون ابنته، ولم يسأل عن وضعها، لكنه استغل اختفاءها ليعاود انتقامه من مطلقته، ويُحيل أسباب فقدان الطفلة لارتباطها بعشيق.

الممثلة “غونيالاما” التي قامت بدور الخادمة “سانا”، والتي قامت باختطاف الرضيعة وتود الاحتفاظ بها

 

أحياء المجاري القذرة.. مفاوضات تبني الرضيع

ينقل الفيلم تشابك خيوط الحكاية إلى أشد المناطق فقرا في مدينة بنغالور، حيث الأحياء البائسة واشتغال بعض السكان في مهنة غريبة تتمثل في تنقيبهم بين فضلات المجاري القذرة عن الذهب أو المعادن النفيسة تسربت إليها، مهنة يتطفلون بها على الفضلات، وبسببها تتسرب روائحها الكريهة إلى الهواء.

في ذلك المكان الخانق -الذي يحمل إحالة رمزية إلى الجو الذي تعيشه الهند اليوم- تسكن المرأة التي سرقت الرضيع بمنزل خشبي متهالك، حيث أرادت الاحتفاظ به تعويضا عن وليدها المتوفى، فقد عاشت في صراعات داخلية وتردد بسبب دخول أطراف جديدة على خط فعلتها، من بينهم وسطاء غير قانونيين عرضوا عليها مبلغا من المال مقابل التنازل عن الرضيع لصالحهم، ليقوموا هم بترتيب عملية التبني له خارج الهند.

هنا يؤشر النص وبطريقة ذكية على وجود واسع لجرائم الاتجار بالأطفال في المناطق الفقيرة.

شهادة الأم “بيندو” وطليقها الممثل “ديباك سوبرامانيا” أمام لجان الشؤون الاجتماعية لإقناعهما بأهلية حضانتهما للرضيعة

 

مناخ المناطق البائسة.. شراكة الصورة والموسيقى

تنقل كاميرا المصور “أريون راجا” تفاصيل المكان مع كل ما فيه من بؤس وتجاوز فاضح للقانون، ويُحيلها النص البصري الرائع بشكل غير مباشر إلى الفقر والإهمال الذي يعيش فيه سكانها.

يستثمر المخرج “بريتفي كونور” مشاهد المناطق البائسة ليوفر مناخا دراميا يربط أسباب تأجير الرضيع ثم سرقته، ومن بعد محاولة شرائه بالخراب الأخلاقي المستشري، وبذكاء شديد يسرب الدوافع والأسباب إلى ثنايا النص السينمائي المتنقل بين مساحات درامية واسعة.

بوصول الشرطة إلى المكان واستعادة الرضيعة المختطفة تشتد حبكة الفيلم تعقيدا، وتلازمها على طول الخط موسيقى تعبيرية كُتبت له خصيصا (من تأليف الملحن “كريشانوني”)، تتناغم إيقاعاتها مع تصاعد درجات توتر الأحداث وتباين حدة مستوياتها. حيث تنقل مع الصورة الانفعالات المصاحبة لعمليات البحث المضنية عن الطفلة، وصولا إلى خوف أبطاله من اتخاذ المؤسسات الاجتماعية أحكاما لا ترضيهم، بعد أن بات مصيرهم معلقا بقراراتها.

صراع الحضانة بين الوالدين.. توكيل طرف ثالث

دفع الصراع على حضانة الطفل الجهات الاجتماعية في المنطقة إلى سماع شهادات الوالدين، ولأن المتهمة بارتكاب فعل الاختطاف هي خادمة المنزل، كان عليها الإدلاء بشهادتها التي لمحت أمام اللجنة التحقيقية إلى وجود “العشيق” في حياة الأم، وعدم قيامه بواجباته إزاء الرضيعة أثناء غيابها، وهي شهادة تضعف موقف “بيندو” وتزعزع ثقتها بالشخص الذي اتخذته شريكا لها.

لم تقتنع اللجنة الاجتماعية بأهلية الوالدين لحضانة الطفلة، وزاد من تلك القناعة رفض الزوجة المطلقة العودة ثانية إلى بيت الزوجية، ففي والدة الزوج وجدت اللجنة الإنسانة المناسبة لرعاية حفيدتها، فوكلت إليها المهمة، بشرط عدم تمادي أي طرف متصارع على حق حضانتها لاحقا.

خسرت الأم طفلها وتخلصت من عشيقها بعد افتضاح حقيقة موقفه، إلا أن الإحساس بالخاتمة لا ينتقل إلى المشاهد بسهولة.

مشهد يُظهر استهتار الشرطة الهندية في تعاملها مع شهود خطف الطفلة الهندية

 

تعامل الشرطة مع الشهود.. ظاهرة إذلال المواطن الهندي

لأن الفيلم يظل مع مُشاهِده حتى بعد انتهاء عرضه، تتوارد أفكار في الذهن عن مصائر الأشخاص، وكيف غيّر فعل تأجير الرضيع وما تبعه الكثير من أوضاعهم، فالخسارة هي القاسم المشترك بين الجميع، ولا رابح في ذلك الوضع البشري المتأزم الذي تعيشه الهند ومناطقها الفقيرة على وجه الخصوص.

تلك الأمكنة لا تولد سعادة بقدر ما تنتج أوجاعا وممارسات غير أخلاقية تتضح في التفاصيل الصغيرة التي يجدها المتفرج في تعامل ضابط الشرطة مع الشهود، وعدم اكتراثه بمشاعر الراجين عونه ومساعدته.

تبدو المؤسسة الرسمية من خلاله عديمة الإحساس بما يحيط بمواطنها، فالشرطي يوغل في تجاوز النظام والقوانين، بحيث يصبح الخرق والتلاعب وتجاهل الغير سلوكا عاديا.

الصديقتان الخادمة والمتسولة اللتان خطفتا الطفلة الرضية في حوار يُعرّي كذبهما طيلة البحث عن الطفلة المفقودة

 

فوضى الانهيار الأخلاقي.. ثنايا السيناريو والحوار

كان الحوار واحدا من أهم مرتكزات فيلم “أين بينكي؟”، فمن خلاله يتضح حجم الخداع، وكيف يصبح الرياء والنفاق والكذب سلوكا عاديا.

في ممارسة الصديقتين (الخادمة والمتسولة) تنجلي مشاهد الكذب بوضوح، فقد كانت كلتاهما تكذب على الأخرى طيلة زمن البحث عن الطفلة المفقودة، وتضع اللوم عليها جراء ما حدث.

التقاط التفاصيل الدالة على الانهيار الأخلاقي المستشري في الهند اليوم بحساسية عالية نجده في السيناريو والحوار المكتوبين على الورق والمنقولين على الشاشة بأشد التعابير البصرية تكثيفا.