“أيها الرفاق الأعزاء”.. صرخة سينمائية في وجه السياسات السوفياتية

د. أحمد القاسمي

كما لا يصدّق سكان البرازيل الأصليين أن هناك وجودا آخر ممكنا خارج غابات الأمازون، ويرفضون مغادرتها أو الانخراط في الحياة الحديثة؛ لا تظن “لودميلا سيومينا” أنّ الوجود ممكن خارج الفكر الشيوعي.

انطلاقا من هذه المفارقة يشكل المخرج الروسي “أندريه كونتشالوفسكي” في فيلم “أيها الرفاق الأعزاء” (Dear Comrades) محنة تلك المرأة، فيجعلها بانخراطها في الحزب الشيوعي السوفياتي ترى بعيني “الرفاق الأعزاء” وتفكر برؤوسهم.

 

فيعرض دورها في التصدي لانتفاضة العمال في مدينة نوفوتشركاسك جنوب الاتحاد السوفياتي في الأيام الأولى من شهر يونيو/حزيران 1962 أيام حكم “نيكيتا خروتشوف”، ثم يتابع في الشطر الثاني مغامراتها وهي تبحث عن ابنتها المشاركة في الانتفاضة والمختفية قسرا.

“الدولة تعرف مصلحتنا أكثر منّا”.. حجر في مياه راكدة

كرست “لودميلا سيومينا” حياتها لخدمة الحزب في مدينتها الصغيرة، فهي تراه جهازا مثاليا لإنقاذ البلاد من البؤس، وحين يمنحها فك إضراب العمال -الذي تشارك ابنتها “سفيتكا” في تأطيره بطريقة دموية- الفرصة لإدراك حقيقة النظام الوحشي، تعميها الإيديولوجيا عن التسليم بالحقيقة، وتظل ممزقة بين قناعتها التي غرست في دماغها غرسا؛ أن “الدولة تعرف مصلحتنا أكثر منّا”، و”يحق لها أن تؤدب المشاغبين كلّما حادوا عن الطريق”، ومشاعر الأمومة، وقد تضافرت العلامات جميعا لتؤكد مقتل ابنتها في هذه الاحتجاجات.

مثل اختفاء البنت حجرا يُرمى في بركة مياه راكدة، فتنشأ عنه حركة تنطلق من المركز، ثم تشكل حلقات تأخذ في التوسع إلى حلقات أكبر، وتمثل الأم “لودميلا سيومينا” هذا المركز، وتشكل أجهزة الحكم المحلي دوائر الوسط، ثم تكشف في الحلقات البعيدة وفي الدوائر الكبرى بمنظومة الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفياتي عامة، فمن خدمة الحزب الشيوعي تستمد “لودميلا” توازنها ونخوتها، وتغذي حلمها بتخليص الشعب من بؤسه.

الجد المسكون بالماضي أي ما قبل الثورة البلشفية يلبس زيه العسكري القديم، ويتمنى أن يُكفّن به بعد موته

 

لكن لا يسلم هذا الشعور من شيء من الإحباط والمرارة، يساورها وهي تخترق الطوابير الطويلة بفضل عضوية الحزب، لتصل إلى مواد يعسر على غيرها الوصول إليها، بعد رفع الدولة للأسعار وخفضها الرواتب.

ولا تعيد كلام عشيقها ورفيقها في عضوية الحزب فحسب، وهي تتعسف على “سفيتكا” التي تشارك في الإضرابات والاحتجاجات، أو تنهر جدها المتذمر من حالة البؤس تلك، معتبرة أن ما يحدث إنما هو ضائقة مؤقتة تبشر بنهضة عظيمة، بقدر ما تكشف أن انخراطها في الحزب يتجاوز الانتماء الفكري إلى الانصهار الوجداني والوجودي في آن واحد، فيصبح إيمانها ذاك جزءا من هويتها.

 

تضاد الأجيال.. ألوان الشخصيات ترسم العهد السوفياتي

من أجل تعميق الانتماء الفكري لدى “لودميلا”، بنى السيناريو علاقاتها العائلية على التباين والتضاد، فالجدّ المسكون بالماضي يعلن كره “ستالين” و”خروتشوف”، ويتمنى قنبلة نووية أمريكية تمنح الشعب السوفياتي القتل الرحيم وتنهي بؤسه، ويدفعه حنينه لمرحلة ما قبل الثورة إلى أن يلبس الزي العسكري القديم، وأن يتمنى تكفينه به بعد موته.

يحاول الجد دون جدوى أن يخلص حفيدته من سجنها الإيديولوجي، وأن يقنعها بأن القمع صفة متأصلة في التاريخ السوفياتي، فيقرأ لها رسالة ابنة عمها التي تتحدث عن جرائم الجيش ضد عائلتها عامي 1922-1923، باعتبارهم من القوقازيين المشاغبين، ويحدثها عن اغتصاب النساء وقتلهن، وقطع ألسنة الرجال ودق المسامير في أطرافهم.

وأما البنت المتطلعة إلى المستقبل بعيون حالمة فهي تؤمن أن الحياة الكريمة لن تتحقق بالخضوع، وإنما بالمواجهة وبالتمرد والمطالبة بالحقوق، وأول مظاهر السلطةِ هي الأسرة.

 

وانطلاقا من هذا التباين المخرج في حياة الأسرة اليومية كحاجة الجد للتبغ، أو لحظات العشق الممنوع التي تسرقها الأم من رفيقها في الحزب حين يسمح غياب زوجته بذلك، أو رفض البنت ارتداء حمالة الصدر. لكن عبر هذه التفاصيل الصغيرة يختزل “أندريه كونتشالوفسكي” العلاقة بين أجيال “الإنسان السوفياتي” على عبارته، بين جيل الماضي المطحون والمستسلم، وجيل الحاضر المستلب المتدهور، وجيل المستقبل المنتفض توقا إلى الحرية.

خيانة الحزب لذكرى “ستالين”.. جراح “لودميلا” الصامتة

تعاني “لودميلا سيومينا” المخلصة لانتمائها الشيوعي من جرح سياسي عميق، بسبب خيانة الحزب لذكرى “جوزيف ستالين” رجل الاتحاد السوفياتي الحديدي، ولا بد أن يستحضر المتفرّج شيئا من السياق السياسي التاريخي الذي نزّل فيه المخرج أحداثه، حتى تكتمل الصورة في ذهنه.

فقد انعقد المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي في فبراير/شباط 1956، وخلاله أعلن “خروتشوف” -الحاكم منذ ثلاث سنوات خلفا لسابقه “ستالين”- الحرب على الستالينية، عارضا تقريرا مدينا لعبادة الأفراد وسلبياتها على الحكم، مادحا القيادة الجماعية وفوائدها، منددا بجرائم “ستالين” المتغطرس المستبد.

لكن المرأة نشأت على كتم وجعها وإظهار خضوعها بطريقة آلية كلما واجهت من هو أعلى منها رتبة، فقد قبلت فصلها من الجيش رغم أنها إحدى بطلات الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب حملها، وعادت إلى مدينتها مسلّمة بدورها النضالي مع قواعد الحزب، لتشرح للمواطنين سياساته، أو لتكتب تقارير تحصي عليهم حركاتهم وسكناتهم، وتخضع لرفيقها المسؤول المحلي في الحزب، وتأوي إلى فراشه في علاقة خالية من كل عشق أو حميمية.

تراتبية السلطة.. هرم الاستبداد داخل الحزب

لا يتوانى المسؤول المحلي للحزب عن تهديد “لودميلا” حين تبدي تذمرها من رفع الأسعار وهي بين أحضانه، فهي تأخذ حصتها التموينية من الحزب، وعليها أن تغلق فمها، وأن لا تنسى أن كلمات الحزب قانون لا يناقش بالمقابل، وأنه هنا لتنشيط ذاكرة من ينسى ذلك، وإن تعلق الأمر برفيقته في الحزب والفراش.

لودميلا سيومينا وهي تكتشف أن دولة العمال التي تحلم بها تقتل عمالها

 

ليس إغلاق الفم قدر “لودميلا سيومينا” وحدها، فقد كان على هذا المسؤول أن يغلق فمه أيضا لما حلّ الرفيق “باسوف” أمين سر الحزب، ليبرر تخفيض أجور العمال ورفع الأسعار بأنهم يعيشون في زمن الشيوعية الرائع، وأنّ عليهم أن يتحملوا تبعات ذلك. وكان على “باسوف” نفسه أن يغلق فمه لما حلّ عضو الرئاسة المركزي، فلما تجرأ الجنرال “بليف” على التذكير بضرورة احترام الدستور الذي يمنع الجيش من فتح النار على المتظاهرين؛ اتهمه رئيس اللجنة الحكومية ضمنا بأنه جاسوس أمريكي، فكلامه ذلك مشابه لما يذكر في إذاعة صوت أمريكا.

وتمنح العلاقات القهرية التراتبية -التي تطبع نظام الحكم الشيوعي- “لودميلا” الفرصة لتستمتع بشيء من الغطرسة والاستبداد، فتمارس سلطتها في المنزل على جدها المستسلم لقدره، أو على ابنتها المراهقة، وتستفيد منه في علاقتها بموظفة المتجر، فرغم أن الموظفة تجتهد في إرضائها وفي منحها ما تستطيع تقديمه من الامتيازات، فإنها تكون عرضة لقسوتها وتوبيخها.

“لن تهزم أمة يدعمها العمال والفلاحون”.. كوميديا سوداء

ينتفض الأهالي دفاعا عن حقهم في حياة كريمة، فتسلبهم الدولة حقهم في الحياة برمتها، فنصف سكان المدينة عندها من المتمردين المجرمين الذين يجوز تحييدهم، فتقبر من يطاله سلاحها، ثم تحاصر المدينة وتمنع الخروج منها أو الدخول إليها، وتحولها إلى سجن كبير، لدفن خبر الجريمة حتى لا تنتشر عدوى التمرّد.

ولا يجد المخرج أفضل من السخرية السوداء التي تعرض نفاق السلطة وتناقض خطابها مع الواقع ليفضح إجرامها، فيقرأ المسؤول عن الشباب النص المكتوب في نصب الساحة العامة “لن تهزم أمة يدعمها العمال والفلاحون، فهم يجسدون القوة السوفياتية”، لكنه ما يلبث أن يفر هاربا رفقة أعضاء الحزب بعد هجوم حشود العمال الغاضبة واقتحامها للمصنع.

الرفاق الأعزاء يُقنصون على المتظاهرين عشوائيا تحت أنظار الرفيق “لينين”

 

تصل الاشتباكات إلى الشوارع، وتطلق قوات الأمن النار عشوائيا على المتظاهرين الجياع، وتعمل “لودميلا” على إسعاف المرأة المصابة، لكن رصاصة شاردة تفجّر رأسها على صدى صوت الراديو الذي يمدح الأداء العالي للصناعة السوفياتية، وإنتاجها الوفير والحياة المنعمة للشعب.

وليست “يودميلا” مختلفة عن رفاقها، فلها نصيبها من التناقضات كذلك، فحالما تجد نفسها في مواجهة رموز السلطة تنسى تبرمها من رفع الأسعار وجوع الشعب، لتبارك سياسة الدولة، مُعلنة أن لا فائدة في الحديث إلى الناس لشرح الظروف الطارئة لهم، ولا بد من اعتقالهم جميعا لأنهم جهلة لا يقتنعون بأن المسؤولين يعرفون ماذا يصنعون.

“مقتلها سر من أسرار الدولة”.. غريزة الأمومة وقيود الأمن

كانت “لودميلا” منشغلة بتبرير مواقف الدولة وتبرمها من معاناة الشعب، لكنّ مشهد الكلبة التي ترضع جراءها في الساحة العامة يحرّك غريزة الأمومة فيها، ويدفعها إلى أن تبحث عن ابنتها “سفيتكا” التي اختفت فجأة، وهذا ما يحوّل الفيلم في الشطر الثاني إلى مغامرة تقودها إلى المشرحة وإلى المقابر، لتنبش التراب بحثا عن جثمانها، وما يميز كاميرا “أندريه كونتشالوفسكي” هو إمكانية تحويل مأساة الأم الفردية إلى نموذج لمآسي الشعب عامة.

 

تعرض هناك ركام الجثث المكدسة في المستشفيات أو المطمورة في المقابر الجماعية، فلا تملك إلا أن تردّد النشيد الوطني الذي يتغنى بالأرض، وطن الأحرار والشعب المحصن بالأخوة القوية والقيادة الشيوعية وأشعة شمس الحرية وسط العواصف، فتحوّل نشيدها إلى تفجّع لا يعلن موت البنت الموهوم فقط، وإنما يرثي أحلام المناضلة الساذجة التي تكتشف أنّ الدولة الشيوعية لا تقتل ابنتها فحسب، وإنما تجتث ذكراها من ذهنها، ورجل الأمن الذي يتعاطف معها يقول لها ناصحا “لا تنسي أنك وقعت على التعهد الأمني، وأن مقتلها سر من أسرار الدولة”. وحين تخلو بنفسها ويتملكها الضياع تقول بعجز “ما الذي يجب أن أؤمن به إن لم يكن الشيوعية؟”.

وبقدر ما يبدو أندريه كونتشالوفسكي حازما في إدانة إجرام الدولة الشيوعية، فإنه يلتمس العذر لبطلته “لودميلا”، فكل ما يحيط بها ينبهها إلى تدهورها وتدهور النظام من حولها، لكنها نشأت في دولة قهرية تزرع الاغتراب في كيان مواطنيها، وتحوله إلى بنية نفسية وذهنية.

ويمثل هذا التباين بين مسؤولية الفرد ومسؤولية أطروحة الفيلم الرئيسية التي ترد على لسان المخرج نفسه، حيث يقول: إن جيل “الإنسان السوفياتي” بريء تماما، بمعنى أنه حاول إنشاء نظام شيوعي، وأنه على غاية من النقاء والسذاجة والتراجيدية في الوقت نفسه، ومأتى التراجيديا من النقاء والبراءة، فيكتشف فجأة أن الحقيقة مخالفة تماما لما كان يعتقد، ولتعود المثالية علينا أن نمر بالتشكيك في الوجود لنتحرك نحو مثالية المستقبل. أنا أفضّل أن يكون لدي هذا الوهم.

“سنكون بحال أفضل”.. ظلال حياة المخرج على السيناريو

خلف إدانة استبداد الدولة الشيوعية وتسلطها وتسامحه مع “الإنسان السوفياتي”، لا بدّ للمتفرّج المتيقظ أن يدرك شيئا من سيرة المخرج العائلية تُدسّ مضمرة بين ثنايا الأحداث، فكاتب كلمات النشيد الوطني الذي وظفه الفيلم لإبراز الهوة بين الحلم والواقع هو الشاعر الراحل “سيرجي ميخالكوف”، والد المخرج نفسه، فقد كلفه “جوزيف ستالين” سنة 1942 بكتابة نشيد جديد، واعتمده بداية من يناير/كانون الثاني 1944.

وحين عصفت رياح معاكسة في البلاد طُلب منه أن يحذف اسم “ستالين” من النسخة الأولى، ثم اسم “لينين” من النسخة الثانية، ثم طلب منه أن يركب كلمات جديدة كليّا على إيقاع النشيد القديم في النسخة التي أقرت في أكتوبر/تشرين الأول 1977، واستمرت حتى 1991.

البنت “سفيتكا” والأم “لودميلا” تتعانقان بعد أن عادة إليها ابنتها سليمة معافاة، حيث يُسدل الستار هنا بالقول “سنكون بحال أفضل”

 

وتتجلى ملامح هذه السيرة في الموازاة بين تاريخ أسرة “لودميلا سيومينا” في الفيلم وأسرة “ميخالكوف” في الواقع، فكلتاهما كانت تدور في فلك النظام القيصري، وحين حلّ العهد الشيوعي اندفع جيل الآباء أو جيل الإنسان السوفياتي -على عبارة المخرج- بسذاجة لخدمة النظام الجديد، نقصد الشاعر “سيرجي ميخالكوف” والد المخرج في الواقع وعامة أسرته التي تورطت في العمل لصالح جهاز المخابرات (كي جي بي)، وعن “لودميلا سيومينا” في الفيلم.

أما الأبناء فيتمردون ويعلنون رفضهم لنهج آبائهم، فتقرر “سفيتكا” المشاركة في المظاهرات رغم أنف أمها، ويصادر فيلم المخرج فيضطر إلى مغادرة البلاد كما فعلت البنت في “أيها الرفاق الأعزاء”. وربما وجدنا في هذا العامل الذاتي سرّ تفهّم المخرج لبطلته “لودميلا” وعدم إمعانه في معاقبتها، بل ربما فهمنا سرّ النهاية التي تكافئها ببهجة غير منتظرة، حين تعيد إليها ابنتها سليمة معافاة، ثم تضع في طريقها رجل الأمن الذي يتعاطف معها ويساعدها على تهريبها خارج الحدود، ويسدل الستار على عناق المرأتين وهما ترددان “سنكون بحال أفضل”.

“أندريه كونتشالوفسكي”.. عودة بالزمان لإنتاج فيلم فات أوانه

يعي المخرج “أندريه كونتشالوفسكي” جيدا أنه يقول كلمته بعد فوات الأوان، فقد فاته أن يصدع بها أيام الحكم الشيوعي، بعد أن جرّب عرض الواقع المحض كما يراه في فيلمه الثاني “قصة آسيا كلياتشينا” (The Story of Asya Klyachina) عام 1967، لكن السلطات رأت أنه يبالغ في عرض بؤس المزارعين، بما لا يتناسب مع الرؤية الرسمية، فصادرت عمله.

وحتى يتدارك الزمن الضائع جعل الفيلم يبدو قديما على مستوى الإنشاء وتشكيل الصورة، بداية من اعتماد الأبيض والأسود إلى اختيار حجم شاشة كلاسيكي (4:3)، ولم يكن بذلك يجسّد حنينا إلى الشاشة الفضية قبل ظهور الألوان في السينما، ولم يكن يرسم بؤس الشيوعية عبر القيم الضوئية، بقدر ما كان يعود القهقرى في الزمن، ليخرج الفيلم الذي كان يجب أن ينتج وقتها.

إنه صرخة تطلق في وجه السلطة وتفضح إجرامها وتجادل سينمائييها الذي تولوا الدعاية لها، فلا يمكن للعارف بالسينما السوفياتية وهو يشاهد “أيها الرفاق الأعزاء” أن لا يستحضر فيلم “الرجل صاحب الكاميرا” الذي يُسخر للدعاية لهذا الفكر وفق نظرية التشفير الشيوعي للعالم.

 

فالحياة في نوفوتشركاسك تلك المدينة المنكوبة التي يعمّها البؤس، وتغيب فيها العدالة والحرية، وتتحوّل حياة الناس إلى جحيم؛ تمثل المقابل التام للحياة في الأوديسا من أثر “دزيغا فرتوف”، تلك المدينة التي تنهض من نعاسها مع ساعات الفجر، فتضج الشّوارع حركة، والآلات عملا، ويشتدّ إيقاع الحياة، ثم يتراخى تدريجيا ليقصد العمال الشواطئ أو النوادي الثقافية زوالا، وقاعات السّينما مساء.

ثم تستسلم هذه المدينة إلى رقادها من جديد، فتعمل من خلال عرض وقائع الحياة في المدينة إلى حمل المتفرّج على التّسليم بتحقيق الثورة البلشفية للرخاء الاقتصادي، ولتوزيع الثروة التوزيع العادل وإحيائها للسعادة المنطمسة في الذاكرة، وذلك في ظلّ حياة اشتراكية تعيد الإنسان إلى أحضان الجنة بعد أن طُرد منها.

حرب السينما.. تسديدات متتالية في مرمى السوفيات الفارغ

لقد كان المخرج يسدّد تسديدات متتالية في مرمى الساسة السوفيات على مستوى الفكر، ويردّ على أتباعهم من السينمائيين على مستوى المقاربات الجمالية، فيعتمد في التصوير زاوية أميل إلى الغطس المضاد التي تحرّف الوجوه، وتعرض منتسبي الحزب في هيئة القساة الأشرار.

ولا شك أن المخرج يعي ذلك جيدا، وهو الذي يعتقد أن الملامح مادة فنية يستخدمها السينمائي كما يستخدم الرسّام ألوانه، فكثيرا ما عزل شخصياته المأزومة عند التصوير في الغرف الضيقة والمكاتب، ضمن إطارات ضيقة لتجسيد شعورها بالاختناق وانسداد الأفق أمامها.

كما أن عبارة “أغلق فمك” القاسية الجافة تتكرر عشرات المرات في العائلة، أو في الحزب أو في مكاتب التحقيق. لكن هل فاته أن الحَكم لن يحتسب أهدافه؟ فالفريق المنافس غادر الملعب بعد، والشباك أضحت خالية.