“إحكيلي”.. حكاية حب واكتئاب لأربعة أجيال من النساء

“شعرتُ أنها ماتت لتمنحني فرصة للحياة والحرية، وكأنه لا بد أن يموت إنسان ليشق آخر طريقه، كأن شخصا كان يضغط على حياة شخص آخر نفسيا ووظيفيا ومهنيا، وبموت أحدهما يتحرر الآخر”.. بمثل هذه الكلمات تحدثت ماريان خوري لابنتها أثناء حوارهما سويا بفيلم “إحكيلي” من الإنتاج المصري الخالص (مدته 95 دقيقة)، وهو الفيلم الذي تعود به المخرجة والمنتجة الكبيرة لعالم إخراج الأفلام الوثائقية بعد غياب طويل، لتشارك به ضمن المسابقة الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي وتحصد “جائزة الجمهور”.

كلمات ماريان السابقة تُعيد إلى الذاكرة فيلم “الساعات” المقتبس عن رواية بذات الاسم للكاتب “مايكل كننجهام”، فهناك جملة بالمعنى نفسه جرت على لسان الشاعر المُصاب بالإيدز يقولها لحبيبته قبل أن ينتحر. كما تُعيدنا كلمات ماريان إلى “فرجينيا وولف” نفسها في روايتها “السيدة دالوواي”، وذلك عندما كتبت “لا بدّ لأحدهم أن يموت”.

ماريان.. هل تحررت بموت شاهين؟

لا يتوقف التناص بين العملين -“الساعات” و”إحكيلي”- عند فكرة الموت واكتئاب النساء وإحباطاتهن، بل إن فكرة تكرار معاناة الأجيال المختلفة من النساء حاضرة بقوة أيضاً، فهي متن العمل، ومع ذلك فإن فيلم “إحكيلي” يحمل خصوصية كبيرة وبساطة موشّاة بالعمق والدلالات الاجتماعية أيضا.

الكلمات السابقة لماريان خوري تتأملها الابنة سارة الشاذلي مُتسائلة “وهل كانت أمك تضغط عليك وظيفيا؟”، فتنفي ماريان ذلك بتردد، لكن من دون أن تُوضح أو تضيف، مما يدفعنا كمشاهدين للفيلم إلى أن نتساءل: وهل الضغط على الإنسان وظيفيا ينفصل عن الضغط النفسي والحياتي؟ صحيح أن ماريان هي مَنْ تولت مسؤولية ورعاية أمها أثناء إصابتها بمرض السرطان طوال فترة مرضها الأخير، لكن هل كانت ماريان تقصد والدتها فقط، أم أنها كانت تعني آخرين مثل يوسف شاهين مثلاً؟

ربما، لأن البريق والشهرة الذين كان يتمتع بهما يوسف شاهين أثناء حياته لم يسمحا لمخرجين عديدين أن يظهروا، أو أن يبزغ نجمهم كما حدث لهم بعد غيابه، وكأنه كان يسرق الكاميرا والأضواء منهم حتى من دون أن يقصد. فهل كان شاهين يضغط أيضا على مهنية وعمل ماريان؟ وهل تحررت منه بعد وفاته هو أيضا؟

الوحيدة القادرة على إجابة ذلك التساؤل هي ماريان، خصوصاً أنها كانت تُحاصر شاهين بالأسئلة في لقاء طويل أجرته معه -وقامت بتوزيعه على مناطق مختلفة بالفيلم- عن أمها وشخصيتها، وكانت طوال الوقت تسحبه لعقد المقارنة بينه وبين أخته والدة ماريان، فكان يُؤكد عشقه لها، والصور الفوتوغرافية بالطبع تؤكد ذلك الحب، مثلما يعترف جو (الاسم المفضل لدى كثيرين كانوا ينادون به يوسف شاهين) بأنها كانت أكثر ذكاءً منه، وكانت لمّاحة وقادرة على فهم الناس أكثر.

مصدر تعاسة هؤلاء النساء أنهن لم يعشن الحب ولم يتذوقن طعمه

تضحية النساء.. ليس الذكر كالأنثى

إذن لماذا انسحقت شخصية أخت شاهين فلم تحقق نجاحا يُذكر، ولماذا لم تتفوق عليه، ولماذا لم تكمل تعليمها، ولماذا لم تقاوم رغبات عائلتها، أم أنها كانت تفتقد صلابة وعناد “جو”؟ وفق روايات الفيلم وشاهين فإن ذلك عائد إلى أن الأسرة قررت أن الابن فقط هو مَنْ سيكمل تعليمه، فتمت التضحية بالجميع من أجل تعليم يوسف شاهين.

وكانت إحدى التضحيات أن يتم تزويج الأخت بسرعة خوفاً من أن تصبح عانسا، وفي الوقت نفسه محاولة الارتباط بمصاهرة أسرة غنية، لذلك تم تزويجها من رجل أكبر منها بسنوات عديدة. تماماً مثل الجدة التي تزوجت من والد شاهين الذي كان محامياً يكبرها بعشر سنوات، لكنها رضخت لأسرتها واقترنت به. كانت تحلم بأن ينقذها من الفقر، لكنه نقلها من معاناة إلى معاناة جديدة، فمهنته كانت متعثرة. وهذا ما يظهر جليا في ثلاثية السيرة الذاتية لشاهين، خصوصاً في “إسكندرية ليه”، و”حدوتة مصرية”.

رغم أن شاهين يُركز في أفلامه على حكاية فارق العمر بين أخته وزوجها، فهو يعتبر ذلك أحد أسباب تعاستها، لكن لو تأملنا تجربة ماريان خوري ذاتها وزواجها الأول وعقدنا المقارنة، فإننا سنُدرك أن التعاسة لم يكن مصدرها فارق العمر، لكن غياب الحب المتأجج، أو حتى الحب العادي بين الزوجين.

20 عاما من الهجران.. تعاسة مَنْ لم يتذوق الحب

إن مصدر تعاسة هؤلاء النساء أنهن لم يعشن الحب ولم يتذوقن طعمه، وأنهن أيضاً لم يعملن ولم يحققن أنفسهن، فماذا يبقى للمرأة حين تخسر كل هذه الأشياء؟

الدليل على ذلك أن ماريان أيضاً عاشت حياة زوجية تعيسة أثناء زواجها الأول، وظلت تحتمل ذلك لفترة إلى أن التقت بخالها يوماً ما في طريق عملها بالبنك، فأخذ يسألها بإلحاح عمّا بها، وهنا انفجرت في البكاء. في تلك اللحظة لم تعد قادرة على التحمل، ومن ذلك اليوم لم تعد إلى بيت الزوجية أبداً، ولم تر ذلك الزوج إلا بعد 20 عاماً صدفة بالطائرة. ومنذ ذلك اليوم أيضاً تركت ماريان عملها بالبنك، والتحقت بعملية الإنتاج والإبداع السينمائي مع خالها.

الفيلم ينطلق من التفاصيل والمشاكل التي قد تكون ذاتية جدا، لكنها تفاصيل تكشف وضعا اجتماعيا ونفسيا عاما

صعوبات لأربعة أجيال من النساء

ينطلق الفيلم من التفاصيل والمشاكل التي قد تكون ذاتية جدا، لكنها تفاصيل تكشف وضعا اجتماعيا ونفسيا عاما، وصعوبات مرّت فيها النساء عبر أربعة أجيال، بدءاً من الجدة ومرورا بالأم (هي أخت يوسف شاهين) في الوقت ذاته، ثم تجربة ماريان وهي تحكي عن علاقتها بأمها وجدتها، والتشابه بينها وبين أمها والخلافات والاختلافات، وكيف أنقذت الأخيرة نفسها من براثن الاكتئاب ومصير أمها وجدتها، وصولاً إلى علاقة ماريان بابنتها، إذ تنفجر سارة في وجوهنا قبل النهاية بانتقاد الأم بشدة، مما يُفسر اندفاعية وحماسة الابنة منذ بداية الفيلم، وذلك رغم أنها وقفت بصلابة إلى جوار أمها أثناء تجربة استئصال سرطان الثدي.

كانت سارة مُبهرة بقوتها وقدرتها على بث الدعم النفسي والطمأنينة ليس فقط في نفس أمها، لكن أيضا في نفوسنا كمشاهدين، ومنحتنا خبرتَها المُشرقة في التعامل مع المواقف الصعبة، لكنها فجأة تقول لأمها في المستشفى: “اعتنيت بك ثلاثة أسابيع، وهذا يكفي”، فتسألها الأم “ماذا ستفعلين؟”، فترد “سأعتني بنفسي”.

ماريان خوري في مهرجان القاهرة السينمائي

فكاهة ساخرة ودلالات عميقة

رغم ما سبق، فإن الفيلم ليس كئيباً ولا سوداوياً، بل فيلما سينمائيا مليئا بصور مُبهجة من الحياة والاحتفال بها، لحظات عائلية حميمية بها الكثير من الأصوات الضاحكة والوجوه البشوشة والسعيدة، أو المستنكرة أو الساخرة. بل إن الكثير من المَشاهد كوميدي جداً، وموسوم بروح الفكاهة الساخرة التي لا تخلو من مغزى ودلالة عميقة قد تكون مبطَّنة ومتوارية أحياناً بذكاء، وهو ما يُفسر تفاعل الجمهور مع الفيلم، ومنحه أهم جائزة بالمهرجان.

إن تفاصيل الفيلم والآراء والأفكار المطروحة به مثيرة للاهتمام، سواء التي يطرحها يوسف شاهين أو الأخوان خوري، فبعضها قد يكون صادماً للبعض، خصوصاً مع جرأة الحديث عن مشاكل ومعاناة العائلة، لكنني شخصياً لا أرى فيه تجاوزاً، بل أراه مشجعاً للتنقيب في دواخلنا، ومقاومة الأشياء التي تأخذنا إلى أسفل.

صورة تجمع ماريان خوري بابنتها سارة

سارة.. القاضي والقِناع

إن أسلوب السرد في الفيلم كذلك هو جذاب ومختلف أيضاً، لماذا؟

لأن المخرجة ارتدت قناعا وتنكرت خلف شخصية ابنتها، ولا أدري إن كان ذلك قد تم عمداً أم جاء تلقائياً، فقد وظّفت ماريان شخصية ابنتها لتقوم بدور البطل الضد، فسارة بشخصيتها المتمردة الحماسية المتحفزة قامت -في النهاية وإجمالاً- بدور يُشبه القاضي أو المحقق الذي يتأمل أقاويل الآخرين ويفندها بكلمة أو تساؤل، فكانت أحياناً تُشكك فيما يُقال عن الجدة، فمثلاً تقول: “أشعر أنكم صنعتم منها بطلة”، وحينما تدافع الأم تواصل سارة متسائلة بذكاء شديد عن جدتها “هل كانت قادرة على الحب؟ هل كانت قادرة على استقبال الحب؟ هل كانت قادرة على العطاء؟”

وعندما ترد عليها الأم إيجاباً تنفي ذلك قائلة “الاكتئاب أنانية، ومن يتسم بالأنانية لا يستطيع أن يحب، ولا أن يمنح الحب أو يتلقاه”.

رغم قسوة -وربما إصابة- الحكم الذي أطلقته الحفيدة على جدتها، فإن المُنتج “جابي خوري” يحكي مواقف عن دعم أمه ومساندتها له في محنة المرض صغيراً، وكيف كانت تدفعه دوما لتحقيق أي شيء يخاف منه، مما يجعلنا نرسم بورتريه شديد الإنسانية للجدة ونتعاطف مع مأساتها، وفي الوقت نفسه نُدرك أن صلابة ماريان لم تأتِ من فراغ، فقد قاومت الموت والمرض، ومن قبلهما قاومت الاكتئاب، قاومته حين انفصلت عن تعاستها من زواجها الأول، وقاومته بفكرة الأمومة محاولة أن تحتمي بأطفالها، لكنها لم تُغفل مهنتها أيضاً، وسعت لتحقيق شغفها خطوة بخطوة في دأب شديد، مما يجعلنا نتساءل هل عمل المرأة يحميها من الجنون، من الاضطراب، من الخوف والوحدة، من الموت؟

وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تعترف ماريان أثناء حواراتها مع ابنتها بأنها كانت تشعر دوما بالاضطراب داخلها؟

ليس هذا الاعتراف ما يدلنا على الاضطراب فحسب، بل نتأكد منه في أسلوب التصوير المستخدم، وهذا ما قصدتُه بفكرة القناع الذي استخدمته المخرجة، فماريان لم تقف أمام الكاميرا لتحكي عن دواخلها، وإنما كانت تمسك بالكاميرا طوال الوقت لتسأل الآخرين، بينما نسمع صوتها وتعليقها على ما يُقال، وتحكي أيضاً من خارج الكادر. لم نرها إلا في لقطات عائلية، في احتفالات أو مناسبات مختلفة كان فيها وجهها يشعّ بضحكتها الشهيرة، أو في أعقاب جراحة استئصال الورم، وفي المشهد قبل الأخير القصير مع ابنتها عندما زارتها في كوبا.

لكن عندما تُواجهها الابنة وتقول لها: “لماذا تصورينني؟ المفترض أن تبقى الكاميرا عليك، وأن أصورك أنا”. هنا يحدث القطع، وتُسلط الكاميرا لمدة ثوان معدودة على ماريان، ثم نشعر بأنها لا تحب هذا الدور، وأن الكاميرا أعادت إليها الاضطراب. وهو ما يُؤكد على سعادة تلك السيدة في الوقوف خلف الكاميرا.