“إطلاق النار على المافيا”.. عن مصورة وثقت اغتيالات المافيا

 

د. أمـل الجمل

“أعلم أن بعض أفراد عائلتي وآخرين لم يُعجبهم تصرفاتي وكانوا غاضبين مني، لكنني لم أشعر بالذنب، ولا ينتابني أي ندم إزاء أي شيء فعلته، اخترت مهنتي وجعلتها رقم واحد في حياتي، وخلال تجربة المرض النفسي والبقاء في المستشفي لمدة عامين كنت امرأة قلقة متوترة، فأخذت أبحث عن طريق يُشعرني بأنني إنسانة لها كيان، إنسانة بكل رغباتها واحتياجاتها، وقد وجدت ذلك في التصوير، فالكاميرا غيّرت حياتي”.

تأتي الكلمات السابقة -في مواقع متفرقة من الفيلم- على لسان المصورة الفوتوغرافية الإيطالية ليتيتسيا باتاجليا، وهي بطلة الفيلم السينمائي الوثائقي الإيرلندي “إطلاق النار على المافيا” (Shooting the mafia) للمخرجة البريطانية -من أب إيطالي- كيم لونغينوتو الذي حصل على المركز الثالث من جوائز الجمهور بقسم البانوراما في مهرجان برلين السينمائي الـ69 (7-17 فبراير/شباط 2019)، بينما حصد المركز الأول الفيلم السوداني “حديث حول الأشجار” للمخرج صهيب جاسم الباري، والمركز الثاني فيلم “مسافر منتصف الليل” للمخرج الأفغاني حسن فاضيلي، والفيلمان الأخيران شاركت قطر في إنتاجهما.

 

ليتيتسيا.. سيرة ذاتية في سياق تاريخي

يمتاز السرد البصري في الفيلم بعدة أمور؛ أولها المزج الهارموني بين الخاص والعام بقدر كبير من التعبير والتلقائية، فاختيار شخصية ليتيتسيا باتاجليا هو الداعم الأول لذلك المزج الموفق، فالبطلة هنا شخصية استثنائية ارتبطت حياتها ومسارها المهني بواحدة من أخطر القضايا التي واجهت أهل موطنها، لذلك يبدو الفيلم وكأن مخرجته كيم لونغينوتو تُعيد النظر في مرحلة تاريخية بقراءتها حياة وأعمال تلك السيدة الإيطالية، وفي الوقت نفسه وضع مسيرتها المهنية وسيرتها الذاتية في سياق تاريخي مناسب.

إنها أول امرأة إيطالية تعمل بالتصوير الفوتوغرافي لصالح جريدة إيطالية يومية، إنها ليتيتسيا التي أخذتها الجرأة لأن تترك زوجها ثم أطفالها لاحقا أثناء رحلة البحث عن نفسها وكيانها، حتى أخذها عشق التصوير الفوتوغرافي.

هذه الجرأة لا يمكن فصلها بأيّ حال من الأحوال عن مصيرها المهني الذي لم يكن ليتحقق لو لم تنجح في اتخاذ قراراتها الأولى الخاصة بالعائلة، فشجاعتها في توثيق اغتيالات المافيا بصورها الفوتوغرافية التي نقلت للعالم تلك الجرائم في “باليرمو” بمدينة صقلية جنوب إيطاليا، هذه الجرأة والشجاعة هي من جعلتها تُؤكد بصورها أن المافيا حقيقة واقعية وليست أسطورة -كما زعم بعض السياسيين- أو وهما يحرم الكلام عنه مثلما كان يقول بعض القساوسة في تحذيرهم لأهالي التلاميذ والطلاب.

ارتبطت ليتيتسيا بزوجها وهي في السادسة عشرة من عمرها، وأنجبت ثلاث بنات قبل أن تُكمل عامها الحادي والعشرين، لكنها تعترف بأن زواجها كان تعيسا، وسرعان ما أصبح عبئا نفسياً عليها فقررت الانفصال، وكان من آثار الخلافات والمشاكل مع زوجها البقاء بالمستشفى في سويسرا مدة عامين. هكذا تعترف بسهولة وشجاعة أمام الكاميرا، مثلما تعترف برغباتها وبحثها عن نفسها في تلك الفترة، والذي كان جزءاً منها يرتبط بالبحث عن الحب في رجال آخرين نرى بعضهم ونسمع شهاداتهم أثناء الفيلم.

رجال المافيا أنفسهم كانوا يعيشون في أماكن سيئة متخفين أو متنكرين

 

الأنا والآخر

إن تلك الجسارة والحزم اللذان تمتعت بهما ليتيتسيا في تقرير مصيرها والتضحية بمفهوم العائلة لا يمكن فصله عن رباطة جأشها فيما يخص مهنتها، ولا يمكن فصله عن مقدرتها على عدم الاستسلام، أو بسالتها في رفض الانحناء أمام الظلم والفساد عندما جاءتها تهديدات عدة بالقتل بسبب صورها الكاشفة، مثلما وصلتها خطابات تهديد من مجهولين، حيث تقول “كنت متأكدة أنهم سيقتلونني، وكنت أتوقع التصفية الجسدية كل يوم، كان الأمر يبدو جنونا، لكن هذا كان جيدا لأنه منحني الشجاعة، فقد شاهدت المافيا وعلاقتهم بالفساد السياسي الذي تسبب في مزيد من الفقر”.

لم تكن ليتيتسيا تنوي أن تكون مصورة، ولم تكن تفكر في تصوير المافيا عندما غيرت مسار مهنتها، لكن الحياة اختارت لها ذلك، فعندما التحقت بالجريدة سألها مدير التحرير عن الصور المرفقة بالموضوع، فاشترت كاميرتها الخاصة، وسرعان ما اكتشفت أنها تجد نفسها في التصوير أكثر من الكتابة، كانت تنوي تصوير الأطفال والنساء والشباب في الشوارع، لكن الأمر اتجه سريعا ومباشرة إلى المافيا.

الأفكار السابقة صرحت بها بطلة الفيلم وتوقفت أمامها المخرجة في لقائها مع الجمهور في مهرجان برلين الـ69 مُضيفة أن “كثيرا منا يُخططون لطموحهم المستقبلي، لكن الحياة لاحقا قد تأخذ مجرى ومنحى آخر مغايرا لا نتوقعه، أنا مثلا لم أكن أنوي أن أكون مخرجة، وكنت أخطط كي أصبح كاتبة، أعتقد أن ليتيتسيا تُعبر عن كثيرين منا، وتمنح الأمل للكثيرين في أنحاء العالم كي يبقوا صادقين مع أنفسهم، ويظلوا صامدين في مواجهة الفساد والظلم”.

في الفيلم تظهر قوة الصورة الفوتوغرافية التي هزّت عرش المافيا، قوة الصورة في مواجهة قوة أخرى تُمثلها سلطة ونفوذ أموال رجال المافيا

 

الصورة والمال والنفوذ

هناك أيضاً بالفيلم -إلى جانب الذاتي والعام- قوة الصورة الفوتوغرافية التي هزّت عرش المافيا، قوة الصورة في مواجهة قوة أخرى تُمثلها سلطة ونفوذ أموال رجال المافيا، لقد انتصرت قوة الصورة على قوة المال ونفوذ السلطة.

تقول ليتيتسيا عندما قابلت أحد أبرز رجال المافيا المسمى “ليتغيو” أشار إليها بإصبعه “تعالي.. تعالي”، وأشار بتلك النظرة في عينيه التي تقول “سوف أقتلك”. هكذا تصفه ليتيتسيا، فقد كان ورجاله غاضبين لأن امرأة تقوم بتصويرهم، فرجال المافيا يملؤهم الغرور والتكبر، ثم تتذكر تلك المصورة الاستثنائية في تمردها عندما دخل ليجيو قاعة المحكمة أول مرة، فقد كان الشرطي يبدو كمجرم إلى جواره.

كان ليغيو يُحاول أن يجعله في الخلف ويتقدمه، كان الاثنان مقيدين سويا في الأغلال، فسار ليغيو في المقدمة برأس مرفوع وكأنه رئيس المحكمة، بينما رجل البوليس خلفه منكمش خائف. هكذا تؤكد الصورة -بكل دلالتها الرمزية- على ما تحكيه ليتيتسيا المصورة الإيطالية الشهيرة التي نالت العديد من الجوائز دوليا، والتي نشرت عدة كتب وأقامت العديد من المعارض، خصوصا بعد أن حفرت لنفسها تاريخا، فقد تعلمت بإحساسها الذكي والنقي كيف تعرض الأشياء، وكيف تترك أثراً من خلالها بلقطاتها النابضة بالصدق والحياة أثناء تصوير أسر الفقراء، أو في تصوير الأطفال المطحونين والناس الذين يعُانون قسوة وشظف العيش، أو تصوير بيوتهم بتفاصيلها التي تكشف فقرهم المدقع وأسلوب معيشتهم الذي يُؤكد ضعفهم ويؤكد الظروف اللاإنسانية الصعبة التي تُحاصرهم.

كانت صور ليتيتسيا الفوتوغرافية بالأبيض والأسود تقول إن للمافيا حقيقة أخرى مختلفة عن تلك الصورة التي حاولت السينما والمسلسلات تصويرها

 

المافيا.. أرشيف من الدم

كانت صور ليتيتسيا الفوتوغرافية بالأبيض والأسود تقول إن للمافيا حقيقة أخرى مختلفة عن تلك الصورة التي حاولت السينما والمسلسلات تصويرها، فرجال المافيا لم يكونوا أبدا كما صورهم فرانسيس فورد كوبولا في ثلاثيته الشهيرة التي بدأت في 1972 والمعنونة بـ”العرّاب” أو “الأب الروحي” (The Godfather)، فرجال المافيا لم يعطفوا على الصغار، ولم يكونوا رحماء مع الأطفال، وكان أهل البلدة يعيشون حياة الفقر والشقاء وظلوا تحت وطأة الإرهاب والتهديد.

رجال المافيا أنفسهم كانوا يعيشون في أماكن سيئة متخفين أو متنكرين، لم ينفقوا شيئا من الأموال الطائلة التي كنزوها من حروبهم وتجارتهم غير المشروعة ومعاركهم الدامية، ولم يستمتعوا بتلك الأموال، لكنهم فقط كانوا يمتلكون السلطة والنفوذ الذي جعلهم يسيطرون على رجال السياسة ويُديرون ضفة الحكم في البلد، وفي سبيل ذلك كانوا يُغرقون “باليريمو” في الدماء، كانوا يقتلون الأطفال، ذات يوم كان هناك خمسة قُتلوا، وفي يوم آخر قتل سبعة في مكان واحد.

“إنه أرشيف من الدم” هكذا تصف ليتيتسيا أرشيفها المصور -الذي استولت عليه الشرطة في عام 1993 عندما اتهمت رئيس الوزراء بالتورط مع رجال المافيا بحثا عن أي صورة فوتوغرافية تجمع رجل السياسة بزعيم المافيا- في فترة السبعينيات والثمانينيات أثناء مواجهة ليتيتسيا للمافيا، وذلك قبل أن تتوقف عن تصويرهم في مستهل التسعينيات وتلتحق بالبرلمان وتصبح أحد أعضاء الحزب، وتعمل على نشر الوعي الثقافي والسياسي بين الناس، وتضيف “أحياناً أفكر في التخلص من ذلك الأرشيف الدامي لأتخلص من الذكريات السيئة، والآن لا يمكنني تصوير أي مشاهد قتل أو دماء، فأنا أفضل تصوير الشباب والأطفال والمحبين في الشوارع”.

اعتمدت مخرجة “إطلاق النار على المافيا” في بناء فيلمها الوثائقي على المزج بين كل العناصر الأرشيفية

 

اغتيالات بشعة.. أرشيف توثيقي

قبل الحديث عن البناء البصري والسمعي في الفيلم هناك خطوة أولية نهض عليها هذا البناء المعماري الفني، ولولاها لما خرج الفيلم بمثل هذه القوة والشاعرية والسحر رغم مأساوية ودموية جانب كبير منه، وهنا أتحدث عن الجانب الأرشيفي التوثيقي الذي قام به خمسة أشخاص نجحوا في جمع لقطات فيديو نابضة بالألم والمعاناة تُصور تلك الاغتيالات الدموية البشعة، وردود فعل الأهالي، إنها لقطات تُجسد أحزانهم وصراخهم وبكاءهم ودموعهم الصامتة التي تسقط في حزن واستسلام، لقطات بها هلع، وبها رفض للتصوير أحيانا أخرى، خاصة من أقارب رجال المافيا الذين تمت تصفيتهم.

هذا إلى جانب لقطات أخرى من برامج وأفلام إخبارية بالأبيض والأسود، ومشاهد من أفلام إيطالية كلاسيكية مُعبرة عن الحالة النفسية للبطلة عندما تسرد تفاصيل عن حياتها الشخصية، والتي يتم ربطها مع لقطات أخرى من أفلام منزلية أصلية من مكتبة ليتيتسيا، وهي لقطات فيديو مصورة لها في مراحل مختلفة من حياتها، وتشي بمخزون الذكريات للمصورة، فقد كانت تحب الكاميرا، وتحب التصوير، والكاميرا أيضاً كانت تحبها.. هكذا تقول الصور بوضوح.

اعتمدت مخرجة “إطلاق النار على المافيا” في بناء فيلمها الوثائقي على المزج بين كل العناصر الأرشيفية أعلاه، إلى جانب توظيف كثير من أرشيف الفوتوغرافيا بالأبيض والأسود الخاص بالبطلة ذاتها بكل ما فيه من صور ضحايا المافيا؛ صور الأطفال ومشاعرها المنعكسة في الصور، خصوصا عندما شاهدت لأول مرة طفلا يتم اغتياله، وتقول “كانت الجثة في مكانها لثلاثة أيام بجوار شجرة زيتون، وكانت الرياح تُحرك الرائحة، وشعرت لوهلة أن الصبي سيقوم من مكانه، لكن ذلك لم يحدث أبدا، لا يمكن للأيام أن تمحو تلك الصورة من ذاكرتي أبداً”.

من تلك الشهادات واللقاءات الحيَّة المصورة خصيصا للفيلم مع ليتيتسيا وعدد ممن ارتبطت بقصص حب معهم؛ تستكمل المخرجة بنائها الفيلمي، وهي مقابلات انتقائية -تمتاز بالجرأة في الحكي- تستخدمها لونغينوتو بمهارة ومزج انسيابي مع كل العناصر السابقة، فتنسج ثوبا سينمائيا جميلا مشوقا تجتمع فيه الخيوط المتباينة لترسم لنا بورتريها مأساويا لمدينة صقلية في سبعينيات وثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين.

لم يكن من فراغ أن يحصد فيلم “إطلاق النار على المافيا” إحدى جوائز الجمهور في برلين السينمائي

 

الشعور بالرضى.. ليتيتسيا الثمانينية

سيدة بلغت عامها الرابع والثمانين تملأ التجاعيد وجهها، لكن عينيها ظلت مثل مصابيح مضيئة وسط أخاديد الزمن المحفورة في قلب الجلد الحي، وعيونها المشتعلة بالوهج مثل لؤلؤتين براقتين تجعلنا ننسى التجاعيد ونتماهى مع روحها المتمردة النابضة بالقوة والحيوية والشقاوة وروح النضال، والتي تعتبر نبراسا للكثيرين في مختلف أرجاء العالم.

لذلك لم يكن من فراغ أن يحصد فيلم “إطلاق النار على المافيا” إحدى جوائز الجمهور في برلين السينمائي، فقد تفاعل الجمهور مع ليتيتسيا باتاجليا وصدقها تماما عندما قالت عن نفسها “سعيدة بحياتي، وسعيدة بأن لدي بعض معارك يسارية، لم أنحنِ للتسلط أو التنمر أو الظلم، والتصوير مهم بالنسبة لي، إنه يحركني، إن عملي أرغمني على أن أقتحم عالماً آخر، لقد غير حياتي، مثلما أعلم أن هناك أفرادا من عائلتي غير راضين عن تصرفاتي وأنني كنت جريئة، وتصرفاتي كانت غير حكيمة أحيانا، لكنني راضية عن نفسي وعن قرارتي”.